علماء من عصرنا

رموز الإصلاح – علاّمة الشام جمال الدين القاسمي [2]

بقلم أ. أسامة شحادة

تمهيد:

في الحلقة الماضية تناولنا نشأة علامة الشام جمال الدين القاسمي ومسيرته في طلب العلم، وتناولنا الدور الأول من أدوار القاسمي الإصلاحية وهو نشر الكتب وتأليفها، ونواصل بيان أدواره الإصلاحية ومسيرته الدعوية.

دور القاسمي الإصلاحي:

2- نشره للعلم ورعايته لطلابه وتنشئتهم ليكونوا قادة ودعاة متميزين:

لقد تميز القاسمي باهتمامه بطلبته ورعايته لهم في مختلف جوانب حياتهم، ولذلك استمروا على الوفاء لمنهج شيخهم بعد وفاته وكانوا قادة الشام وعلماءه. ومن مظاهر اهتمام القاسمي بطلابه ما يلي:

1- كان القاسمي يدرّس في غالب أوقاته وفي كل مكان، في مسجده وبيته وبيوت أصدقائه وفي الرحلات والمتنزهات، وكان بيته يستقبل أفواج الطلاب من الصباح إلى ما بعد العشاء.

رثاه أخوه صلاح الدين فقال:
كان يقضى النهار والليل بالدرس *** ويحيي الأسحار بالتهليل
قد أذابت حياته لوعة البحـ *** ـث فناب الضلوع داء النحول
2- كان القاسمي يدرّس جميع الطبقات من العامة والخاصة وطلبة الشريعة وطلاب المدارس العصرية، ولكن كان له عناية خاصة بالأذكياء من طلبته.
3- كان القاسمي يعامل طلابه على أنهم أصحابه وأصدقاؤه، فيقول في إجازة كتبها لتلميذه: “طلب منى مصاحبنا وقريبنا الشيخ حامد التقي الإجازة”.
4- كان يحث طلبته على النقاش والحوار معه، فمن ذلك قوله لهم: “عليكم أن تفكروا بتفكير خصوم السلفية وتأتوني بحججهم وشبههم لأرد عليها”.
5- كان يعدّ طلابه ليكونوا دعاة وموجهين للمجتمع، فلما اشتكى إليه أحدهم أن الناس لا يتقبلون منه تدريسه ووعظه وأنه يريد العودة للدراسة على الشيخ، كتب إليه يقول: “إنني علمتك السنين الطويلة لترينا خدمتك للعلم وآثارك في مثل هذه البلاد المتعطشة لأمثالك فاثبت في وظيفتك”.
6- كان القاسمي يهتم جداً بتحلي طلابه بالأدب والعقل والذكاء، ولكنه يعرف أن هذا يحتاج إلى تفاعل الطالب مع شيخه، ولذلك نبه القاسمي أحد طلابه بقوله: “بقي علم لا أستطيع تعليمك إياه وهو أن تكون ذكياً بحاثاً لبقاً، فكن من نفسك كذلك”.
7- كان يحرص على أن يتيح لطلبته الالتقاء بالعلماء والمصلحين الذين يزورونه حتى يرفع من سويّتهم العلمية، وحتى يستفيدوا من أكثر من شيخ ولا يكونوا أسرى لأسلوبه وطريقته.
8 – ضرب القاسمي للناس المثل بنفسه بطلب العلم وتعليمه، فلما جاءه عبدالوهاب الإنكليزي وصادق النقشبندي وهما من خريجي المدارس العصرية لتعلم ما ينقصهم من علوم الدين، طلب منهم القاسمي أن يدرسوه ما ينقصه من علوم الدنيا، فدرس عليهم الجغرافيا والرياضيات، رغم أنهم من جيل طلابه وتلاميذه!!
9- وكانت النتيجة أن طلاب القاسمي أكملوا مسيرة شيخهم بنشر الإصلاح والعلم وإقامة الجمعيات الثقافية ونشر المؤلفات النافعة مما أحدث نهضة إصلاحية في الشام قضى عليها حافظ الأسد ببعثيته الدموية وعلويته الطائفية، هذه النهضة لا يزال يتحسر عليها المخلصون.
10- مما يبين أهمية وجود تلاميذ للمصلحين يحملون دعوتهم ويبرهنون على نجاح مسعاهم، قول القاسمي: “وقد ظهر لي أخيراً شيء آخر: وهو أن حق من يصنف في تراجم الرجال أن لا يُترجم إلا ذوي الأثر أو التأثير، فالأول يدخل فيه من صنف وألف في أي فن كان، بشرط الإجادة لما صنفه أو اخترعه، ما لم يسبق فيه، ويدخل في الثاني كل عالم غير مؤلف، ولكنه أنجب تلامذة، أو وقف نفسه على التعليم في فن أو فنون، وكان سالكاً سبيل السلف في النصح، والصدق، والإخلاص، والأخلاق”، وقد جمع الله عز وجل للقاسمي كل ذلك إن شاء الله.
طلاب القاسمي:
قال الأديب حسني كنعان: “تلاميذ العلامة الكبير المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي في دمشق كثيرون، وهم صفوة علماء البلاد الشامية وفضلائها”، ولذلك أرى أنه يمكن أن نقسم طلاب القاسمي إلى ثلاث مجموعات هي:
أولاً- طلابه الذين أصبحوا من علماء الشام:
1- العلامة محمد بهجة البيطار: وهو حفيد العلامة عبدالرزاق البيطار، رفيق درب القاسمي، كان من أبرز وأكبر طلاب القاسمي، درس عليه أربع سنوات، تولى الخطابة والتدريس في مسجد الدقاق بأمر من جده البيطار، وعمل مدرساً في عدد من المدارس الأهلية والنظامية، فدرس الدين والعربية والفرنسية، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية بدمشق، وكانت باكورة أعماله في المجمع محاضرة عن “حياة شيخ الإسلام ابن تيمية”، طلب منه الملك عبدالعزيز بن سعود سنة 1344هـ إدارة المعهد العلمي بمكة المكرمة، فأقام بها سنين ودرس بالحرم المكي والمدنى، وأصبح عضوا بمحكمة مكة المكرمة، وسنفصل في سيرته في حلقة خاصة.
قال عنه ظافر ابن العلامة جمال القاسمي: “كان تلميذاً لوالدي جمال الدين القاسمي، لا بل كان من أخص تلاميذه، إن لم يكن أخصهم على الإطلاق”.
وقال ولده عاصم البيطار عن علاقة أبيه بشيخه القاسمي: “غرس في نفسه حب السلفية ونقاء العقيدة والبعد عن الزيف والقشور وحسن الانتفاع بالوقت”.
قال في شيخه القاسمي: “ولو طال عمره لرأينا من آثاره النافعة أكثر مما رأينا، ومن نفاسة تآليفه فوق ما شاهدنا، فإن الإستاذ كان في تجدد مستمر، استمده من علوم العصر وحقائقه، وانكشف له به عن كثير من أسرار الشريعة وغوامضها”. وقال أيضاً: “أستاذنا الإمام، عالم الشام، وعلم الأعلام”، وكان يذكر شيخه القاسمي دوما ويترحم عليه، ولذلك سارع إلى مساعدة تلميذه ظافر القاسمي في نشر تراث أبيه خاصة كتاب (قواعد التحديث)، وتفسير القاسمي (محاسن التأويل).
2- الشيخ حامد التقي: كان من أقارب القاسمي وأسن طلابه، درس عليه ولازمه 17 سنة، ولذلك كان من أعرف الناس بشيخه، واصل حمل رسالة شيخه الإصلاحية في التدريس والخطابة في المساجد والتعليم في المدارس، وكان كثير الثناء والمدح للقاسمي حتى سأله سائل: ألا يوجد عالم في دمشق سوى شيخك القاسمي؟ فأجابه: بلى يوجد في دمشق كثير من العلماء… ولكن هؤلاء العلماء على كثرتهم لم يقم منهم أحد بجهد علمي مثل الجهود التي قام بها أستاذنا المرحوم، فكان مدرساً وواعظاً، وخطيباً وموجهاً، ومصلحاً ومؤلفاً،… وكان إلى هذا يدرس بالمسجد للعامة وفي البيت للخاصة، والحلقة التي يعقدها في داره يؤمه فيها كبار الشخصيات السورية الذين لهم صيتهم وشهرتهم بالأقطار العربية والعالم الإسلامي، أمثال السادة المرحومين: الأمير شكيب أرسلان، والشيخ طاهر الجزائري للمشاركة في التوجيه، وعبدالرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي، والشيخ جميل الشطي. أ.هـ
ومن تلاميذ الشيخ حامد: الشيخ علي الصابوني والشيخ محمد مهدى إستانبولي.
3- الشيخ توفيق البرزة: كان من طلاب القاسمي المبرزين والذين كان القاسمي يستشيرهم في المسائل والقضايا، درس أيضاً على الشيخ كامل القصاب رفيق الشيخ عز الدين القسام، واشتهر بالدفاع والمناظرة عن الإسلام ضد شبهات المستشرقين والمنحرفين من أهل البدع.
قال عن القاسمي: “إن من يلازمه ويرى علمه وسيرته، قلّ أن يعجبه كثير من الشيوخ الذين يدعون التربية وهم غلاظ الأكباد، قساة القلوب”.
4- الشيخ عبدالفتاح الإمام: لازم القاسمي زماناً وأصبح من حملة منهج وفكر القاسمي الإصلاحي، كان يشبه العلامة طاهر الجزائري في هيئته البسيطة والمتواضعة وترك الزواج، اهتم بالشأن العام وتأسيس الجمعيات وحث الناس كثيراً على ذلك ثم كان من المؤسسين لجمعية “التمدن الإسلامي” وكتب في مجلتها “التمدن الإسلامي” مقالات قوية، وشارك أيضاً في تأسيس جمعية “أنصار الفضيلة”، وجمعية “الشبان المسلمين” وأصبح رئيساً لها، تفرغ للكتابة والتأليف ونشر الكتب، وكان حريصاً على الدفاع عن الإسلام في وجه خصومه في تلك المرحلة التي وفدت فيها الأفكار الغربية للشام.
5- الشيخ محمد جميل الشطي: لازم القاسمي واستفاد منه كثيرا، وأصبح مفتي الحنابلة في زمانه. قال في رثاء شيخه القاسمي:
مهلاً عداة المصلحين عدمتكم *** إنى لكم والله غير مسالم
ها نحن بالمرصاد أنصار الهدى *** ندعو إلى الجولان كل مزاحم
إن كان مات القاسمي فإنكم *** سترون منا كل يوم قاسمي
نحمي طريقته ونرعى عهده *** في الحق لا نخشى ملامة لائم
ثانيا- تلاميذه الذين أصبحوا علماء في بلادهم:
1- الشيخ محمد بخيت المطيعي: مفتي الديار المصرية، التقي بالقاسمي ودرس عليه العلوم الفلسفية لما زار القاهرة.
2- العلامة أحمد شاكر: محدث الديار المصرية، لازم القاسمي في القاهرة، يقول أحمد شاكر: “أستاذنا القاسمي رحمه الله كنت ممن اتصل به من طلاب العلم، ولزم حضرته، واستفاد من توجيهه إلى الطريق السوي، والسبيل القويم”.
3- الشيخ عبد العزيز السناني: من علماء نجد، رحل إلى القاسمي وأخذ عنه واستمرت بينهما المراسلة.
4- الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع: من علماء نجد، زار دمشق ولازم القاسمي فيها مدة ودرس عليه ورغّبه بالعلم.
ثالثاً – من الشخصيات العامة التي تأثرت بدعوته ومؤلفاته:
كان للقاسمي لقاءات وجلسات عامة مع كثير من النخب والشباب الذكي النابه الذين درسوا في المدارس العصرية التابعة للإرساليات التبشيرية أو الدولة والتي لم تكن تهتم بالعلوم الشرعية، أو في الجامعات، كما تأثر الكثير منهم بكتب القاسمي، وذلك أن القاسمي كان يدرك مدى أهمية كسب هؤلاء الشباب الذكي المتعلم لصف الإصلاح الإسلامي في مقاومة الخرافة والجهل في الداخل والغزو الفكري الأوروبي الوافد.
وكانت علاقة القاسمي بهم لا تقتصر على التعليم بل حتى التشجيع على الكتابة ومراجعة ما ينشرون، فيكتب القاسمي في يومياته: “زارنى بعد العشاء سليم أفندي الجزائري ومعه أسعد أفندي بنباشي وبقية رفقتهم، وتم ما صححته له من مقالة (ميزان التعقل)، وفيها عبارات أشرت عليه بحذفها، والاستعاضة عنها. فلا أدري أيمتثل أم لا! نسأله تعالى أن يجعل كُتابنا ونبهاءنا ممن يعضد الدين، ويدعم قواعد اليقين، ويوقف نفسه على محاسن الإسلام، بمنّه وكرمه”.
من أبرز هؤلاء الشباب:
1- العلامة محب الدين الخطيب: صاحب المطبعة السلفية ومكتبتها والذي كان له دور بارز في تأسيس مسيرة الصحوة الإسلامية المعاصرة، كان محب الدين صديق شقيق القاسمي الأصغر صلاح الدين، وكان محب الدين مؤسس جمعية النهضة والتي كان صلاح الدين أمين السر فيها، وبسبب مشاركة شقيق القاسمي فيها وصغر سن المؤسسين لها حيث كانوا في العشرين من عمرهم فقد تم اتهام القاسمي واستجوابه من قبل وزارة العدل بدمشق بأنه المحرض والمدبر للجمعية من وراء الكواليس، وهو الأمر الذي نفاه القاسمي، ولكن بالتأكيد أن القاسمي كان راضياً عن الجمعية وأعمالها، وهو ما سيتأكد لاحقاً بدعم القاسمي لمسار أخيه السياسي- الذي تولى رعايته وتنشئته- حين أعلن عودة الدستور سنة 1326هـ وانضمامه لبعض الأحزاب.
وقد كان محب الدين يحضر بعض جلسات حلقة الشيخ طاهر الجزائري والتي يشارك بها القاسمي، وكان يتردد محب الدين على مدرسة عبدالله باشا التي يدرس بها القاسمي، وكان يلتقي به في بيته مع زملائه الشباب في الإجازات التي يقضونها في دمشق بعد سفرهم للدراسة في إسطنبول.
كتب محب الدين لزميله صلاح الدين معزيا له في وفاة القاسمي فقال: “ذاكرين الليالي الجميلة التي جمعتني وإياك بجامعة الصداقة والإخاء بين جدران جامع السنانية، وفي حلقة الدرس الذي كان فقيد دولة الإصلاح جمال الدين يخترق فيه بحكمته سجف أرواحنا، وحجب أفئدتنا، فيبني هناك ما هدمه جهل معلمينا الآخرين من سعادة الإيمان وطمأنينة اليقين، جزاه الله عن الإسلام بأحسن ما يجزي الله به أولياءه”.
ويقول عن فضل القاسمي عليه: ” لولا أن الله سبحانه تداركنا فقيض لنا آباء روحيين أنقذونا من هذا الجو الخانق، وأقربهم إلى أخي صلاح الدين شقيقه الأكبر علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي وإخوان له في حلقة نورانية كانت تسمى “حلقة الشيخ طاهر الجزائري””.
ويصف الخطيب دور القاسمي فيقول: “والسيد جمال الدين القاسمي رحمه الله مصباح من مصابيح الإصلاح الإسلامي التي ارتفعت فوق دياجير حياتنا الحاضرة في الثلث الأول من القرن الهجري الرابع عشر فنفع الله بعلمه وعمله ما شاء أن ينفعهم، ثم انتقل إلى رحمة الله تاركاً من آثاره العلمية المطبوعة ما لا تكاد تخلو منه مكتبة قائل بالإصلاح في العالم الإسلامي”.
2- الأستاذ خير الدين الزركلي: المؤرخ المشهور صاحب كتاب (الأعلام)، تعرف على القاسمي من كتبه وخاصة كتابه “دلائل التوحيد”، ثم التقى به واستفاد منه كثيراً، ترجم له في كتابه الإعلام فقال: “إمام الشام في عصره، علماً بالدين، وتضلعاً من فنون الأدب، كان سلفي العقيدة، اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين سموه: “المذهب الجمالي”، فقبضت عليه الحكومة سنة (1313هـ) وسألته، فرد التهمة، فأخلي سبيله، واعتذر إليه والي دمشق”. وأكتفي بهؤلاء من قائمة طويلة تضم د.عبدالرحمن شهبندر الذي أصبح وزير خارجية سوريا سنة 1920، وشكري العسلي الذي أصبح النائب في مجلس المبعوثان وكان من القادة الذين أعدمهم جمال باشا السفاح في دمشق سنة 1916م، وفارس الخوري المسيحي الذي شارك في تأسيس المجمع العلمي بدمشق وأصبح وزيراً وممثل سوريا في مجلس الأمن وترأسه فترة وتولى رئاسة حكومة سوريا وكان وطنياً فريداً، ومحمد كرد علي العلامة اللغوي المعروف، وغيرهم من المصلحين والأعلام الذين استفادوا من القاسمي ومنهجه وعلمه.
3- فتح باب الاجتهاد والعمل على مواكبة قضايا العصر وتقديم حلول لمشاكله.
هذا هو المحور الثالث من محاور الإصلاح الذي قام به القاسمي، فالاجتهاد وكسر الجمود والتقليد ومعالجة المشاكل العصرية كانت هي المهيمنة على مسار القاسمي، فلم يكن يقبل بالانزواء عن حياة الناس وقضاياهم، بل كان يدرك تماماً وظيفة العالم في إرشاد الخلق وهدايتهم ودوره الطليعي في قيادة الجماهير لا الركض خلفها.
وأجمل بعض معالم هذا الدور الإصلاحي في النقاط التالية:
1- مواكبة العلوم والمعارف العصرية، ولذلك كان يحرص على مطالعة المجلات والصحف، ومتابعة أخبار المخترعات العصرية، وكان القاسمي يقول: “أسباب الرقي انتشار هذه الثلاثة: المطابع والجرائد والمدارس إذا وجهت توجيهاً صحيحاً”. ومن ذلك قصته في إدراك فائدة الهاتف حين قام بزيارة لمنزل الشيخ محمد عبده مفتي مصر في مصر (سنة 1321هـ /1904م) دون موعد سابق فلم يجده وكان بعيدا،ً فتأسف على ضياع الوقت – وهو الحريص على وقته – بينما صديق له اتصل بمنزل المفتي وعلم أنه غير موجود فلم يذهب، فعلق القاسمي على ذلك في كتابه عن رحلته لمصر: “فتوفر له الأجرة التي صرفت، والوقت الذي أضعناه، وهذه ثمرة العلوم المكتشفة، والتي عادت على الناس بفوائد لا تحصى”. ويعلق القاسمي على اكتشاف التلغراف فيقول: “ما ظهر من التلغراف هو قطرة من بحر ما سيظهر في العصور التالية من المكتشفات والمخترعات (ويخلق ما لا تعلمون) مما فيه مرتفق للناس، ومنتفع لهم، وخدمة لعامة طبقاتهم”، فيكشف القاسمي بذلك عن بصيرة نورانية ترتبط بالقرآن الكريم وتحلق في سماء العلم والتقدم.
2- كان القاسمي متابعاً للأفكار الجديدة في السياسة والاقتصاد كما كان دارساً للأفكار القديمة لأهل البدع، يقول القاسمي عن نبز الجامدين للمصلحين: “وإن رأوا حثه على البذل والإنفاق في سبيل الله، ودعواه الموسرين للعطف على البؤساء، لقبوه اشتراكياً”، مما يدل على معرفته لمفهوم الاشتراكية في ذلك الزمان المتقدم!! وعلى نفس المنوال نجد القاسمي في كتابه “جوامع الآداب” يفصل في آداب النائب البرلماني لمجلس المبعوثان العثماني فيقول: “النائب مشرع للقوانين أول ما تجب عليه معرفته أن يحسن علم الحقوق ويعرف حركة المجالس النيابية عند الأمم الراقية ويحسن تاريخ أمته واجتماعها ويعرف ما يدليها ويرفعها ويدرك علائق حكومتنا بحكومات أوروبا وما تم بينا وبينها من المعاهدات وما نالوه منا من الامتيازات ويكون قادراً على الاستخراج من كتب السياسة والإدارة والقضاء بإحدى اللغات الأجنبية”. مما يدل على عميق إدراك القاسمي للعملية الديمقراطية وآلياتها مبكراً.
3- كان القاسمي على منهج الأنبياء في إصلاح دين الناس ودنياهم، فلم يكتفِ بتعليم الدين ووعظ المسلمين، بل كان يحرص على إصلاح حال المسلمين بإرشادهم لاستخدام الوسائل العصرية في شؤون دينهم ودنياهم، فها هو القاسمي يؤلف كتاب “إرشاد الخلق للعمل بخبر البرق” وكتاب “فتاوى الأشراف بالعمل بالتلغراف”، لتسخير الوسائل الحديثة للاتصالات في خدمة الإسلام والمسلمين. وبالمقابل نجد القاسمي يحث الناس على استخدام السماد الكيماوي بأنواعه والآلات الزراعية وضرورة مكافحة الآفات والحشرات المضرة بالزراعة، مما يساعد على نمو الزراعة والعمران في الشام، ومن أجل هذا حث والده على تأليف كتاب قاموس الصناعات الشامية والذي يعد لليوم فريداً في بابه. ولما زار المدينة المنورة كتب في وصف رحلته يقول: “والمدينة في حاجة كبرى إلى مصلح، وأمير غيور، يسعى في تنوير طرقها، واتساع عمرانها، وتمهيد سبل رقيها المادي والأدبي”.
4- كان القاسمي مؤيداً لسنّ دستور للدولة العثمانية يتم من خلاله تحديد المسؤوليات والحقوق للناس والحكومة والسلطان، ولذلك حين أعلن الدستور سنة 1326هـ /1908م أيده القاسمي ونقد الذين عارضوا الدستور العثماني من بعض العلماء المأجورين أتباع أبي الهدي الصيادي والذين روجو أن الدستور يحتوي على مخالفات شرعية فتصدى لهم القاسمي وبين أن الدستور والقانون يشبهان الفروع المدونة في كتب الفقه التي مأخوذها الاجتهاد من المصادر الأربعة: الكتاب والسنة والقياس والإجماع، وأنه قام به علماء بالشرع لهم. وقد حضر القاسمي حفلاً بمناسبة إعلان الدستور لحزب الأحرار ألقي فيه صلاح القاسمي كلمة بعنوان “منزلة القانون من الدين” ووجد ظافر القاسمي مسودة الخطاب بخط أبيه جمال القاسمي!! وقد فرح القاسمي بزوال حالة الخوف والكبت وشيوع الحرية للبحث والعلم والدعوة التي تدعم انتشار الإصلاح، وهو حال يشابه حالنا اليوم بازدياد مساحة حرية التعبير والدعوة ونسأل الله تعالى أن يجنبنا حالة الكبت من جديد بسبب المكائد والمؤامرات التي يحيكها بعض الفاسدين في الداخل بحثّ من الأعداء في الخارج والغفلة عن ذلك من قبل المسلمين، كما حدث للشام بعد حكم الاتحاديين حتى ترحم الناس على السلطان عبد الحميد وعرفوا فضله!!
5- حث القاسمي المصلحين على تولي المناصب والمسؤوليات العامة من أجل دعم حركة الإصلاح وعدم ترك المجال للمفسدين، فنراه يكاتب أحد أصدقائه مصبراً إياه على البقاء في منصبه فيقول: “ولا أحب أن تظهروا الاستقالة، أو التأفف…. وهكذا مشربي ونصيحتي لإخواني الذين يستشيروني في الاستقالة من المناصب في الحكومة، مع علمي أن بقاءهم رحمة، وأنه لا يأتي خلف لهم يحاكيهم، ولربما كانت استقالة المصلح أو الخيّر أو التقي بلاء، وثلمة لا تسد. فوجود الكامل في وظيفة أو منصب يعلم الناس كيف يكون الكمال، كيف يكون الورع، كيف تكون الرحمة بالناس، كيف تكون المعاملة بالحسنى، وهكذا… فالحمد لله الذي أرانا أناساً يقتدى بفعالهم مثلكم”، وهذا الخطاب كأنه موجه اليوم لإخواننا من الإسلاميين الذي وصلوا لسدة الحكم في عدد من البلاد، فعليهم أن يتقوا الله ربهم ويحسنوا إلى عباده فينالوا أجر الإتقان وأداء الأمانة، وأجر الدعوة للخير وتقديم الأسوة الحسنة. وحدث أن دخل القاسمي على شيخه بكري العطار فرآه مضطرباً، بسبب موظف بالمحكمة الشرعية يعطل معاملة له عنده من شهر من أجل الحصول على رشوة، فإذا كنت أنا شيخ علماء دمشق لا أستطيع تمرير معاملة إلا برشوة، فكيف يصنع عامة الناس. فعاتبه القاسمي وقال له: “قد عاملك بما تستحق، لأن ديدنك في دروسك العامة والخاصة أنك تنفر الناس من قبول وظائف المحاكم الشرعية وتقول: إن المحاكم “مصاطب” جهنم، فإذا لم يتقدم لطلب أمثال هذه المناصب الأتقياء تقدم الجاهل الفاسد أمثال هذا الرجل الذي تشكو منه. فقال له شيخه: أصبت، فإننا نحن مقصرون في عدم قبول هذه الوظائف للقيام بحق العباد.
6- تبنى الشيخ القاسمي جواز دفع الزكاة للمصالح العامة للمسلمين وأن ذلك يدخل في مصرف (في سبيل الله)، وقد رد على الشيخ رشيد رضا منعه من ذلك وكتب إليه يقول: ” فإذن “سبيل الله” كل أمر فيه تقرب إلى الله، فإذا دفع الإنسان من ماله إعانة لمدرس، أو طريق، أو مشروع خيري، أو طبع كتاباً، أو اشترى شيئاً منها لمحتاج، أو نحوه فكله في سبيل الله يجوز حسبانه من الزكاة المفروضة…. وهذه الفتوى تسهل على كثير من الأغنياء الدفع من أموالهم لبعض المهمات التي يحتاج إليها، ويحسبونه أنه لا يحسب من زكاتهم، فيتوقفون أو يدفعون على كره”.
7- في مطلع القرن العشرين أعلنت اليابان أنها ستعيد النظر في وضعها الديني وتبحث عن دين يلبي حاجة اليابانيين الذين اهتزت قناعاتهم بالبوذية والوثنية بسبب تطور الحالة العلمية والعقلية للشعب الياباني المتجه باطراد نحو الصناعة والتقدم والرقي. وقد شغل ذلك فكر القاسمي وعدد من العلماء، فكتب القاسمي في يومياته يقول: “زرت في الضحوة الشيخ عبدالله الخاني، وكانت المذاكرة أهمها في إسلام اليابان وأن الأولى انتخاب رجال أكفاء حكماء من كل بلدة مهمة من بلاد الدولة، يتعاضدون ويتذاكرون، ويكتبون جداول في مزايا الإسلام، ورفع الشبه الحديثة والقديمة التي يختلقها أعداؤه، وأن يستفيدوا بمبادلة آرائهم ما يعود عليهم بالفائدة، وإلا فوجود جماعة قليلين رسمياً قد لا يجدي. والله العليم”، مما ينبئ عن شعور عالٍ بالمسؤولية عن نشر الإسلام في ربوع الدنيا. وكتب القاسمي في رسالة لأحد رفاقه يقول: “لما جمعت الهمة للرد على الدهريين في كتابهم المرسل من اليابان، أعياني أن أجد ضالتي في الكتب المتداولة، إذ رأيتها كأنها جمعت لزمن غير هذا الزمان، أو لبلاد غير هذه البلاد، فطفقت أنقب وأبحث عما يرد الشبه تلك الضالة”، فخرج لنا بكتابه الرائع (دلائل التوحيد).
8- ومما تميز به القاسمي مخالطة الناس ومعرفة حاجاتهم والتيسير عليهم بترك الجمود والتعصب الفقهي دون دليل بالفتوى الميسرة المقرونة بالدليل الشرعي، ففي كتابه (المسح على الجوربين) يشير القاسمي لأثر التشدد بدون حق في منع المسح على الخفين على الصغار من تلاميذ المدارس فيقول: “رثى بعض أساتذة المدارس ما يعانيه الأطفال والبنات في الوضوء أيام الشتاء من مشقة غسل الرجلين، وما ينالها من الألم والبرودة… قيل لو أنهم يعلمون رخصة لتيسر لهم الأمر، وترفع عنهم الإصر، لما وجدوا عذراً في ترك الصلاة التي هي من أعظم دعائم الإيمان وأشهر شعائر الإسلام”. وقد لا يفهم البعض أهمية هذا التيسير لأنه لم يعش زمن التعصب المقيت الذي كان يبطل صلاة من مسح على الخفين والجوارب مما جعل الكثير يتفلت من الصلاة هرباً من مشقة الوضوء في البرد!!
9- بمخالطة الناس أدرك القاسمي عجز القضاء الشرعي الجامد على التقليد الرافض للاجتهاد عن حل مشاكل الناس بسبب تمسكه بأقوال الرجال بدلاً من نصوص الوحي، فدعا إلى إصلاح القضاء وألف في ذلك كتابه (أوامر في إصلاح القضاء الشرعي في تنفيذ بعض العقود على مذهب الشافعية وغيرهم”، ولذلك دعا إلى اجتهاد القاضي والاعتماد على الدليل الصحيح وعدم الالتزام بالمذهب فقط، ودعا إلى اعتماد كافة المذاهب في القضاء وعدم قصرها على المذهب الحنفي وهو ما استجابت له حكومة الباب العالي بالدولة العثمانية.
ونكتفي بهذه الملامح من الدور الإصلاحي الاجتهادي الذي قام به جمال الدين القاسمي رحمه الله.
وقفة مع المآخذات على القاسمي:
أخذ على القاسمي في زمنه واليوم أناس من قصيري النظر بعض الاجتهادات والأقوال التي تخالف منهج السلف كدفاعه عن الجهم بن صفوان في كتابه (تاريخ الجهمية)، وكذلك ثنائه على ابن عربي، وميله للتقريب مع الشيعة والتهوين من شأنهم، ومسائل أخرى.
وبداية أقول لا شك أن القاسمي أخطأ في هذه المسائل، ولكن هل هذا يجعله دخيلا على السلفية، والسلفية منه براء!!
لماذا نفترض العصمة والكمال للبشر؟ القاسمي كغيره من العلماء يصيب ويخطئ، ومن المقرر أن الخطأ في المسائل العلمية والعملية مما يغفر للعلماء والمجتهدين، فلماذا التشنيع والنكال؟!
وحال القاسمي تقدم له الكثير من العذر والمسامحة على هذه الزلات، فهو قد نشأ على خلاف منهج السلف ثم تعرف عليه في وقت غربة وشدة، وثانيا مات شاباً لم يمتد به الحياة ليدرك خطأه في تلك المسائل، وكان في وقت لا زالت فيه كثير من المخطوطات التي تبين الصواب والحق غير متوفرة، وأخيراً فإن هذه المسائل لم تكن عمدة منهجه ولا هي مما قام طلابه بنشرها بل طويت ولم تجد من يحملها وينشرها.
وأظن أن نفسية القاسمي التي عانت من الاضطهاد السياسي في الحقبة الحميدية جعلته يتعاطف مع جهم والجعد بوصفه مثقفا مضطهدا كحال القاسمي ضد الوالي خالد القسري الظالم!! وأما تساهله مع الشيعة فكان بسبب طمعه في محاولة جمع كلمة الأمة الإسلامية المشتتة ضد خصومها الذين يقضمون أطرافها كل يوم، ولنتذكر أنه كان يناقش في كتابة “نقد النصائح الكافية” بعض شيعة حضرموت المقيمين في أندونيسيا، وكان هذا مسلك رشيد رضا، ولكن ظهر فيما بعد لرشيد رضا أنه لا أمل من الشيعة وتقريبهم فنبذهم، فيما لم يمتد العمر بالقاسمي!
وفاته:

توفي رحمه الله تعالى في 23 جمادى الأولى 1332هـ الموافق 18/4/1914م، وكان عمره 49 عاماً، وذلك بعد مرض استمر معه عدة أشهر، ودفن في مقبرة الباب الصغير، وكانت جنازته حافلة جداً، ونعاه أهل العلم في دمشق وبيروت ومصر والعراق. وأكتفي بتعزية العلامة السيد محمود شكري الألوسي للسيد رشيد رضا بوفاة القاسمي، والذي كتب إليه يقول: (أما بعد؛ فقد نعت إلينا صحف البلاد الشامية وفاة العلامة السيد جمال الدين القاسمي قدّس الله روحه الزكية، فأمضّ ذلك الخبر قلبي وأفض لبّي، وجرح فؤادي وطرد رقادي…. وحيث كان المشار إليه من أعزة أحبابكم، وخُلّص أصفيائكم، مع ما كان عليه من الفضل الوافر، والأدب الباهر، والورع الظاهر، والنسب الطاهر، والذب عن الشرع المبين، وقوة الإيمان واليقين، ومناضلة الحائدين والملحدين، وأنه حسبما اعترف له الموافق والمخالف: أحيا به الله الشريعة والهدى وأقام فيه شعائر الإسلام… هذا مع أسفي عليه كل الأسف، وتصاعد أنفاسي بمزيد اللهف، وقد جرت عليه من العيون عيون، فإنّا لله وإنا إليه راجعون).

(المصدر: طريق الإسلام)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى