كتابات

تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم في الأزمات

بقلم د. ابراهيم الدويش

سبحان من قدر واختار أن يكون النبي ﷺ بشرًا يعتريه ما يعتري البشر من الأزمات والنكبات في النفس، والعرض، والجسد، والمال، وفي كل شيءٍ. وليكون ببشريته سلوانًا لكل أمته مما يحوطهم من أزمات خانقة، ويؤلمهم من نكبات طاحنة.

فما أعظم خطأَ الظانين بأنَّ الحياةَ السعيدةَ تلك الخاليةُ من المحن، الخاوية من الأزمات! ألا هيهات!

الدهر يومان ذا أمن وذا خطر … والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر

أما ترى البحر تعلو فوقه جيف …. وتستـــقر بأقصى قاعه الدرر

وفي السماء نجوم لا عداد لها ….. وليس يكسف إلا الشمس والقمر

فليس للسعادةِ سوى طريقٍ واحدٍ هو: الإيمان بالله والعمل الصالح الذي لا يتحقق إلا بالإخلاص ومتابعة الحبيب ﷺ في كل الأمور، ولذا كانت دراسة الأزمات التي اعترت نبينا ﷺ ، مع عظيم التأمل لثقته بربه وحسن ظنه وشدة تفاؤله ﷺ في تلك الأزمات، النابع من إيمانه بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وأن الخير فيما اختاره الله عز وجل! قال سبحانه وتعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } النحل: ٩٧.

في واقعنا المعاصر نودع كل 30 ثانية منتحرًا! إذ زادت حالاتُ الانتحار بين الشباب والمراهقين بنسبة 500 % بسبب الاكتئاب!

والدافع الأول للانتحار هو الفراغ الروحي وخلو القلب من الإيمان، بدليل انتحار أصحاب المليارات، ومنهم: أشهر مغنية في عصرها: “داليدا” المنتحرة بجرعة زائدة من المخدرات، والتاركة لرسالة تحمل “سامحوني! الحياة لم تعد تحتمل”  وهذا لسان حال الكثير من الملايين الذين يعيشون هذا الفراغ الروحي القاتل!

السبب الأول في الضيق والإكتئاب والتشاؤم ؟!

فما هو التفاؤل؟ هو: ضد الطِّيَرَة والتشاؤم، ويراد به توقع الخير من أي قولٍ أو فعل يُستبشر به، كرجُلٌ مَرِيض يَسْمَع مناديًا: يا سَالم! فيتفاءل ويتوقع قرب شفائه ، وقد قيل: يا رسولَ اللّه! ما الفَأل؟ فقال:((الكَلِمَة الصَّالِحة)).

فالتفاؤل يدفع صاحبه لحسن ظنه بقرب الفرج والتيسير وزوال الهم، وأن يستبشر بكل ما يرى ويسمع ويعتبره بشرى بقرب الخير.

وهكذا كان ﷺ محبًّا للتفاؤل في الأمور كلها، تأمل قوله ﷺ : ((لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ[تشاؤم]، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)) . بل كان ﷺ لا يدع تبسمه وتفاؤله ﷺ البتة: كما وصفه جرير  رضي الله عنه: ((مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ ﷺ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي)) .

حتى لو سبه المشركون فلا يُخرجه ذلك من تفاؤله، فقد قال مرة ﷺ :((أَلاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ)) .

بل حتى خوفه ﷺ لا يُخرجه عن تفاؤله،فعندما تبعه سراقة في الهجرة ليقتله ، قال ﷺ يُطمئن الصديق: ((لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) فأنجاه الله مولاه عز وجل برحمته من الخوف بحسن ظنه بربه وتفاؤله ﷺ .

حتى أنه ﷺ في أصعب مراحل الدعوة من التعذيب والاضطهاد لم يكن ذلك ليُخرجه عن تفاؤله ﷺ  أو يُفقده يقينه بقرب الفرج الإلهي كما يروي خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ؛ قَائلًا: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ  ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ،-وفي رواية: وقد لقينا من المشركين شدةً- قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)) . بل أشد من هذا وأعظم أن شدة ما جاء عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ [موضع بمنى] إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ [موضع قريب من مكة]، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا ردُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ [جبلين يحوطان مكة]. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : ((بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) .

فهذه أصعب أزمة قابلته ﷺ في حياته كلها؛ فكان ﷺ متفائلًا فيها ناظرًا للمستقبل بعيد النظر، وبالفعل جاء اليوم الذي أسلموا فيه هم وأبناؤهم معهم بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل صبره وتفاؤله ﷺ ، وثقته وحسن ظنه بربه عز وجل، حتى أوصله شدة تفاؤله استدلاله ﷺ بأي شيءٍ على الفَرَج الإلهي في الوقت العصيب: كما يظهر من قوله ﷺ عندما رأى سهيل بن عمرو وقد أرسلته قريش في صلح الحديبية: ((لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ))  فقد تفاءل ﷺ باسم “سهيل” في هذه الظروف الحالكة، وكان الله سبحانه وتعالى عند حسن ظن رسوله ﷺ به عز وجل فسهل أمورهم، والعجب أن تفاءل ﷺ بآلات يهود خيبر ونصره عليهم: كما جاء عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ قَالَ: ((خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ ﷺ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا رَكِبَ وَرَكِبْتُ خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنَّ قَدَمِي لَتَمَسُّ قَدَمَ النَّبِيِّ ﷺ ، قَالَ: فَخَرَجُوا إِلَيْنَا بِمَكَاتِلِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا النَّبِيَّ ﷺ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ!! قَالَ: فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ)) .

فالحديث واضح في تفاؤله حينما رآهم يخرجون بآلات هدم وتدمير كالمكاتل، والفئوس، والمساحي، فاستبشر أن تكون هذه الآلات علامة هدم حصونهم، وتدمير ديارهم بحول الله سبحانه وتعالى، وقوته عز وجل. فكان مولاه سبحانه وتعالى عند حسن ظنه ﷺ  به سبحانه وتعالى، وقال ابن القيم في فوائد الحديث: “وفيه جواز التفاؤل؛ بل استحبابه بما يراه أو يسمعه مما هو من أسباب ظهور الإسلام وإعلامه كما تفاءل النبي ﷺ برؤية المساحي والفئوس، والمكاتل مع أهل خيبر فإن ذلك فأل في خرابها” .

لقد كانت حياته ﷺ مدرسة عظيمة في اتخاذ الفأل الحسن منهج حتى في الأزمات الصحية، وألم الموت فهما لا يخرجانه ﷺ من تفاؤله، كما جاء عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ((لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ: وَا كَرْبَ أَبَتاهُ! فَقَالَ لَهَا: ((لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ))  فتأمل حاله ﷺ إذ اشتد عليه ألم المرض، وأيقن أنه في حالة الاحتضار، وأنه لن يبرأ من هذا المرض، ولن يغادره إلا لربه عز وجل فحينئذٍ لم يعد هناك مجالٌ للتفاؤل في الدنيا، فبأيِّ شيءٍ يتفاءَل؛ إنه تفاءل ﷺ  بالحياة الآخرة، لقد تفاءل بالنعيم المقيم، والراحة السرمدية التي ليس بينه وبينها إلا خروج الروح، وهكذا عندما ينزل القدر الإلهي بما لا يبقى معه تفاؤل في الدنيا؛ يجب أن تطمح نفس المؤمن لما عند الله في الآخرة من الأجر والثواب اقتداء بهديه ﷺ.

فاعلم يقينًا أن التفاؤل وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى يأتيك بالخير في الدين والدنيا، كما قال سبحانه وتعالى : ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي .. ))  فإياك وسوءَ الظَّنِّ بالله عز وجل، فيقع عليك سؤء ظنك بربك، وقد ظلمت نفسك؛ فتندم بعد فوات الأوان.

فإن كان المرءُ محتاجًا للتفاؤل، وحسن الظن بربه سبحانه وتعالى في كل لحظة، فهو لن يحتاجه يومًا من دهره حاجته في اللحظة الأخيرة من حياته، فتفاءل وأحسن الظن بربك وأنت مودع للدنيا، ومقبل على الآخرة، يقول جَابر بْن عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِي: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: ((لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عز وجل)) .هكذا كان منهجه في التفاؤل عجيباً، لكنه ﷺ لم يركن بتفاؤله للكسل بل بالأخذ بالأسباب، فلم يكن ﷺ يدع سببًا من الأسباب المشروعة إلا أخذ به على أكمل وجه، وأفضل صورة. فالتفاؤل النبوي تفاؤل مقرون ببذل الوسع واستنفاد الجهد في سلوك كل السبل الشرعية، فهذا هو التفاؤل المحمود، وحسن الظن الصادق بالله سبحانه وتعالى .

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى