كتب وبحوث

الاستراتيجيات الأمريكية والتحالفات الدولية عرض ونقد وتقييم 5

الاستراتيجيات الأمريكية والتحالفات الدولية عرض ونقد وتقييم 5

إعداد أكرم حجازي

الفصل الثاني

استراتيجيا التحالف الدولي في العراق

مدخل في منطق الحرب وأهدافها

    منذ 31 آب/أغسطس 2014، الإعلان الرسمي عن أول غارة أمريكية في العراق على « الدولة الإسلامية في العراق في الشام»، والإعلان عن التحالف الدولي، وسيول التصريحات تتدفق بلا توقف من شتى أنحاء العالم. وإذا كان من رابط يجمع فيما بينها، فهو التخبط والارتباك والغموض والتناقضات والسخافات والجدل والانتهازيات والأكاذيب والجهل المدقع، الممزوج بكوميديا سياسية، دشنها كبار الساسة الأمريكيين، ومرشحي الرئاسة، في دولة لا يزال قادتها ومفكروها وجنرالاتها، يتحدثون عن التفوق الأمريكي وقيادة العالم. كل هذا وأكثر منه نجده صراحة، وبلا أية مواراة، في الإستراتيجية الأمريكية في العراق، وفي متعلقاتها، من بحوث ومقالات وتعليقات وتصريحات واستجوابات وشهادات وبيانات ومناظرات وتحليلات.

        « ما يجري في المنطقة هو الجنون .. قبل بضع سنوات كنا نستطيع التنبؤ بالأحداث لعشرين أو ثلاثين سنة قادمة لكننا اليوم لا نستطيع التنبؤ بما يحدث ولو لسنة أو سنتين … فالأحداث تتغير بشكل يومي»!!! أو هكذا. عبارة قالها المؤرخ العراقي د. سيار الجميل، في مقابلة له على قناة « الجزيرة» في برنامج « في العمق – 19/1/2015».

     في هذا الخضم، مما يمكن تسميته فعلا بمهرجان الجنون، قد يكون من الممكن تصنيف المواضيع المتشعبة والغوص فيها وتوثيقها، لكن البحث عن الخيط الذي يفكفك العقد التي خلفها هذا الجنون، سيكون بالغ الصعوبة. وفي خضم هذا الجنون أيضا، تبرز عدة مشاهد في المتابعة والتقييم، ليس بعيدا منها (1) مشهد دولة قادت العالم ،وتزاحم على الاحتفاظ بالقيادة والهيمنة والتفوق، لعشرات السنين القادمة لكنها تعيش، على وقع الصراعات الأيديولوجية والإدارية بين الوكالات والأجهزة المتنافسة، في حالة غير مسبوقة من الفوضى، ولا غريبا عنها (2) ذلك المشهد الذي يشي بخدعة ما أو حتى مؤامرة، حققت نجاحا منقطع النظير، في تضليل عالَم برمته، وأوله عالم الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، أو (3) ذلك المشهد الذي ينعطف فيه العالم، أو بلسان الرئيس الأمريكي « يتغير»، وبموجبه تفقد القوى العظمى السيطرة على مجريات الأحداث.

   في السياق؛ فإذا كان من الطبيعي أن تتميز استراتيجيات الأمن القومي بالعمومية، تاركة التفاصيل لما هو دونها من استراتيجيات، فضلا عن ردود الفعل، فإن ما تبع الإستراتيجية الأمريكية في العراق، من ردود ليس أقل من كونها مشهد لمناقشات علنية صارخة، وتفاصيل مملة لحقيقة التراجع الأمريكي في أحط مستوياته. ومع ذلك لا ينبغي الاستسلام للمتشابهات من التصريحات والتعليقات وغيرها؛ والتغافل عن الحقائق التي ميزت التدخل الأمريكي عبر ما عرف بالتحالف الدولي، وما خلفه في العراق وسوريا على السواء، بل وفي المنطقة، من كوارث تنذر بعواقب وخيمة في السنوات القادمة، حتى لو كانت على شاكلة حرب عالمية ثالثة ساحتها دولة كسوريا، بخلاف الحروب السابقة، أو متعددة الساحات كما يتخوف الكثير. وهي مخاوف لم يفلت من إفشائها حتى هنري كيسنجر، وكذا ماجد نواز الذي رأى أن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما « لو استخدم صفتين في سياسته الخارجية هما القيادة والرؤية الإستراتيجية»، لما وصل الحال « أن يقف الشرق الأوسط اليوم على حافة حرب عالمية ثالثة»[1].

   المنطق الأمريكي وغيره يقول بأن الولايات المتحدة سحبت قواتها من أفغانستان والعراق، لتتخلص من الورطة التي وقعت بها، وتسببت بارتفاع مهول بالإنفاق والديون، فضلا عما تعرضت له من استنزاف قيمي، مس مكانة لبلاد في الصميم. والسؤال: إذا كان على الولايات المتحدة أن تتدخل عسكريا في العراق أو سوريا، وفشلت ثانية في الحد من تضخم التيار الجهادي في العالم أجمع، فهل ستسحب جيشها ثانية كما فعلت من قبل؟ ولما يكون الأمر محتملا فلماذا تتدخل من الأصل؟ وماذا سيتبقى لها من نفوذ؟ بل كيف سيكون حال الولايات المتحدة إذا ما تحملت فشلا ذريعا ثانيا في المنطقة؟ ومن أين ستغطي تكاليف التدخل في ظل ديون تفوق إجمالي الناتج القومي؟ وإذا كانت الولايات المتحدة تتلقى مثل هذه التساؤلات؛ فهل بمقدور الدول العظمى الأدنى مكانة ونفوذا وتفوقا أن تتلقى مثلها أو أقل منها؟

    الحقيقة أن مثل هذه التساؤلات المرعبة، التي لم يختبر آثارها ميدانيا أية دولة في العالم كما اختبرتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، هي التي تلقي بأثقل الظلال القاتمة على وثائق استراتيجيات الأمن القومي، وما دونها من استراتيجيات، فضلا عن  إجمالي السياسات الأمريكية. وهي الأسئلة التي ظلت، ولمّا تزل تمثل أبرز الكوابح الحاسمة في أي تدخل أمريكي محتمل « وسط تحذيرات من التهديدات المتزايدة للأمن القومي الأميركي، خاصة القوة المتزايدة للجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة» وفقا لرؤية صحيفة « كريستيان ساينس مونيتور – 5/2/2014» الأمريكية، والتي تظن أيضا أنه من سوء الطالع أن «تهديد القاعدة .. والجماعات التابعة لها .. في سوريا وصل إلى تلك النقطة التي من المرجح أن تدفع إلى استخدام القوة».

   ومع ذلك، وعشية وقوع مدينة الموصل العراقية بيد « الدولة الإسلامية في العراق والشام – 10/6/2014»، وما تبعه من بدءٍ للضربات الجوية في العراق وسوريا، أصر الرئيس الأمريكي أمام محاوره من شبكة « bloombergview[2] – 5/3/2014»، على ما اعتبره موانع من التدخل في سوريا قائلا: «لقد قدمنا المساعدات العسكرية للمعارضة المعتدلة في سورية، وفعلنا ذلك بطريقة اكبر مما يمكن للمعارضة استيعابه، ولكن الحقيقة هي انك إذا حاولت تغيير الوقائع العسكرية على الأرض، كان ذلك سيتطلب نوعا من التدخل للقوات الأميركية المسلحة كبيرا، إلى درجة أننا سنحتاج إلى تفويض دولي للقيام به، فأنت ليس لديك تفويض من الأمم المتحدة، ولا من الكونغرس، ورأينا ما حصل (في الكونغرس) حتى في موضوع محصور بالأسلحة الكيماوية».

    بطبيعة الحال؛ فإن تصريحات الرئيس الأمريكي تقع في نطاق إستراتيجيتا 2010 و2015، اللتان شددتا على الالتزام بمكانة القيم الأمريكية، والتقيد بها محليا، كمؤشر على انضباط الولايات المتحدة، وتوافق سياساتها مع القانون والمعايير الدولية للتدخل. لذا فإن الجدل حول طلب تفويض من الكونغرس الأمريكي يسمح بالتدخل، إنما يرجع في جزء منه إلى قيود الاستراتيجيات ذات المنزع الأيديولوجي، وفي جزء آخر إلى المراوغات الساعية في الحقيقة، إلى التهرب من التدخل ذاته. وهو ما عبر عنه الكاتب الأمريكي، ديفيد إغناتيوس، في مقالته بصيحفة « الواشنطن بوست – 28/3/2014» حين قال بأن أوباما: « انتهج نهجا براغماتيا تجاه سوريا بإعطاء الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه) الدور الرئيسي بمساندة وزارتي الخارجية والدفاع»[3]. وفي لكن زميله ريتشارد كوهن كان أكثر وضوحا منه، حين أقرّ بأن: «أوباما يبدو غير مبال بشأن حمام الدم الذي يتدفق في سوريا، والذي ينذر بحمام دم على المستوى الإقليمي»، و:« أن الأحداث تتكرر بدمشق، وإن الفوضى تدب في البلاد من جديد، ولكن أوباما لا يبدو مهتما بوقف الحرب التي تنذر بالانتشار على المستوى الإقليمي»[4].

      لم يتغير الموقف الأمريكي بشأن خوض حرب أمريكية شاملة، في العراق أو سوريا أو في كليهما معا، لا باستعمال الرئيس السوري للسلاح الكيماوي من قبل، ولا حتى بعد حدث سقوط مدينة الموصل العراقية في 10/6/2014 بيد« الدولة الإسلامية في العراق والشام» من بعد. لكن الموقف تغير فقط باتجاه العمل على « تشكيل تحالف دولي»، تكون فيه الولايات المتحدة « مجرد شريك». وهو منطق ينزع إلى التوريط، بحيث يتحمل الجميع المسؤولية في التكاليف والخسائر، وبقدر أو حتى بما لا يقل عما تتحمله أمريكا. وقد يبدو هذا التغير شكلا من أشكال التراجع الأمريكي، وهو كذلك في جزء منه، لكنه منطق « القيادة من الخلف» الذي حل محل استراتيجيات سابقة، أو ما يسمى بـ «حروب التكلفة» التي كانت تقضي بقدرة أمريكا على خوض أكثر من حربين في وقت واحد، وفي مكانين مختلفين.

   في ظل هذا المنطق؛ توجه وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، إلى المنطقة التي لم يغادرها، حتى التقى في مدينة جدة السعودية (11/9/2014) أحد عشر وزيرا، من بينهم وزراء دول مجلس التعاون الخليجي ووزراء عدة دول إقليمية، وسط « حماس أردني ولبناني». وبعد يوم من المناقشات، تمخض عن تشكيل نواة للتحالف من 11 دولة، قال وزير الخارجية السعودي الراحل، سعود الفيصل: «إن أي تحرك أمني ضد الإرهاب لا بد أن يصاحبه تحرك جاد لمحاربة الفكر الذي ينتمي إليه»[5]. وفيما عدا تركيا التي أعلنت أنها ستركز جهودها كليا على المسألة الإنسانية، شدد البيان المشترك على أن الدول المشاركة: «وافقت على أن تقوم كل منها بدورها في الحرب الشاملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية»، وأن « المشاركة» تشمل: « (1) وقف تدفق المقاتلين الأجانب عبر الدول المجاورة، و (2) مواجهة تمويل تنظيم الدولة الإسلامية وباقي المتطرفين، و (3) مكافحة أيديولوجيتها التي تتسم بالكراهية، و (4) وضع حد للإفلات من العقاب، وجلب المرتكبين أمام العدالة». كما تحدث البيان عن ضرورة: «المساهمة في عمليات الإغاثة الإنسانية والمساعدة في إعادة بناء وتأهيل مناطق الجماعات التي تعرضت لبطش تنظيم الدولة الإسلامية، ودعم الدول التي تواجه الخطر الأكبر من التنظيم»[6].

     وفي جلسةمجلس الأمن الدولي (20/9/2014) التي ترأسهاوزير الخارجية الأمريكي، لبحث التطورات الأمنية في العراق، وحيث بات التحالف حقيقة واقعة، تحدث كيري عن هوية « (1) التحالف المطلوب للقضاء على تنظيم الدولة» مبينا أنه« ليس تحالفا ذا طابع عسكري فقط، ولا حتى تحالفا عسكريا بالأساس»، أما عن حدوده فطالب بأن « (2) يكون تحالفا شاملا، وأن يشتمل على تعاون وثيق يجمع ضروبا متعددة من الجهود» … أما وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، فركز على المخاطر، مع التشديد على: «ضرورة محاربة تنظيم الدولة قبل امتداد تهديداته إلى خارج المنطقة»[7].


[1] « كيف فقد أوباما الشرق الأوسط؟»، 24/2/2016، موقع« الجزيرة نت»، على الشبكة:http://cutt.us/yNQrt

[2] « أوباما: على شركائنا السنّة التكيّف مع التغيير في علاقتنا بإيران»، شبكة « bloombergview – 5/3/2014»، واشنطن، تقرير: حسين عبدالحسين.

[3] « التوجه البراغماتي لأوباما تجاه سوريا»، 28/3/2013، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة:http://cutt.us/RlIHs

[4] نفس المرجع.

[5] « دول عربية تعلن مشاركتها في مواجهة تنظيم الدولة»، 11/9/2014، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/UJnlt

[6] نفس المرجع.

[7] « أوباما ينوي الدعوة لتحالف أوسع ضد تنظيم الدولة»، 20/9/2014، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/z399

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى