تقارير وإضاءات

فاس العلم والمدنية.. فريدة الزمان

إعداد أمير سعيد

صارية سفينة العلماء في إفريقيا، شامة الحضارة والمدنية على مر القرون، مدينة فاس المغربية التي امتازت عن حواضر العالم الإسلامي، بل حواضر العالم كله بسمات فريدة.
تحصنت بأسوارها المنيعة التي صيرتها عصية على الغزاة؛ فاحتفظت بهويتها وأصالتها، وتعطرت بعبق تاريخها التليد.
يرسم الشيخ إدريس الفاسي الفهري نائب رئيس جامع القرويين وخطيبه صورة بديعة لمدينة فاس في لقاء متلفز؛ فهي المدينة التي يحوطها سوران، الداخلي يطوق المدينة (السكنية) والخارجي يحمي الحدائق والمزارع والمراعي التي تعيش عليها المدينة، ولحصانة المدينة؛ فإن الغزاة لم يتمكنوا من دخولها على مر الأزمان، فاحتفظت بهويتها، كما أن كل بيت بها اعتاد أن يحتفظ بزيته وقوته ويتوفر على بئر خاص له يستغني به عن الشراء لفترات طويلة، كما أن مزارعها تمكنها من البقاء طويلاً في أيام الحصار، ربما لعدة سنوات (حوصرت من الموحدين تسعة أشهر كاملة، وصمدت طوال هذه المدة بسبب احتفاظها بأقوات وفيرة).
كان اختيار موقعها من قبل “المولى” إدريس الثاني عام 192 ه عبقرياً فهو الأفضل لمدينة تقع فوق هضبة سايس الخصبة بالقرب من نهر (صار داخلها فيما بعد) وتقع بين جبلين ما يوفر لها أماناً ويسراً في الدفاع عنها. عبقرية المكان هذه جذبت إليها عباقرة العلماء؛ فصارت محلاً لفقهاء المالكية وعلماء الأصول على مر العصور.
ومنذ نشأتها أقيمت فيها العدوة الأندلسية والعدوة القيروانية؛ فصارت بؤرة أضواء الحضارة القادمة من شمال إفريقيا وأندلس الإبداع، وإليها قصد العلماء فيما بعد ناجين بتراثهم بسبب انكسارات المسلمين في الأندلس. وصفها ياقوت الحموي في معجم البلدان فقال: “مدينة مشهورة كبيرة على برّ المغرب من بلاد البربر، وهي حاضرة البحر وأجلّ مدنه قبل أن تختط مراكش”.
بيد أن أبرز معلم من معالم تلك المدينة هو جامعتها التي تعد الجامعة الأقدم في العالم من حيث استمرار التدريس فيها منذ نشأتها دون انقطاع حتى الآن على مدي أكثر من ألف ومائتي عام، بحسب معطيات اليونيسكو وموسوعة جينيس للأرقام القياسية (تسبقها جامعة القيروان بتونس، غير أن الجامعة التونسية قد توقف التدريس بها لفترات بخلاف القرويين الفاسية)، وهي الجامعة الفريدة في العالم لأسباب عديدة؛ فهي أول من أخذ بنظام الكراسي التخصصية، منذ العام 651 ه، حيث بدأت بالتفسير في هذا التاريخ، وانتهت إلى ثمانية عشر كرسياً في القرن العاشر الهجري، بحسب الموقع الرسمي لجامعتها.
جامع القرويين الذي بناه إدريس الثاني، ثم حولته المحسنتان فاطمة ومريم محمد بن عبد الله الفهري، ابنتا التاجر المهاجر القرشي إلى القيروان التونسية ثم إلى فاس، واللتان ورثتا مالاً وفيراً فأوقفتا معظمه في توسعة وإثراء مسجد القرويين ووقف الأموال للعناية والتدريس به – حولتاه، إلى جامع وجامعة يقصدها العلماء في العالم الإسلامي، وتشع نورها إلى الشرق العربي وغير العربي، والشمال الأندلسي، حيث اعتنت فاطمة (المعروفة باسم أم البنين) بتطوير جامع القرويين 245هـ واعتنت أختها ببناء مسجد الأندلس، ثم أصبح الأخير فيما بعد فرعاً من جامعة القرويين.
(ولعل ما قامت به فاطمة الفهري وأختها هو واحد من تجليات المشاركة الرائعة للمرأة المسلمة في البناء الحضاري للأمة، وهي مساهمة توالت على مر العصور، وتنوعت مجالاتها في إطار شرعي منضبط لم يحل دون أن تتفرد المرأة المسلمة بمساهمات لم تستطع رائدات التيارات التغريبية أن تطاوله أو تنافسه أبداً).
وقبل قرون من اختراع وسائل التواصل والاتصال ووسائل الإعلام، كان القرويين يزخر بدروس العلم التي تتناقلها عديد من المدارس التعليمية الوقفية في مدينة فاس، بحيث كانت تتم إعادة تلك الدروس الفريدة التي تلقى في أروقته، إلى خمسمائة مسجد تستفيد من القرويين بشكل مباشر.
والحق أن مدينة فاس لم يقتصر إشعاعها الحضاري على فنون العلم الشرعي وحده؛ فلقد حققت – كغيرها من المدن الإسلامية العريقة الرائدة – الانبعاث الحضاري بمفهومه الأشمل؛ فبرز فيها العلماء من شتى المجالات، وانعكس هذا على طبيعة المدينة التي أضحت متميزة في أصعدة الصناعة والزراعة والعمران بصفة عامة.
وقد جمع كثير من الباحثين معلومات دقيقة عن المد الحضاري لفاس، ومنهم د.عبد العزيز بنعبد الله العالم الموسوعي المغربي في دراسته “المغرب والشرق العربي عبر التاريخ” بمجلة دعوة الحق عدد يوليو 1411ه: ” أحصى الناصر والمنتصر بفاس، اثني عشر معملا لتذويب الحديد والنحاس، وأحد عشر مصنعا للزجاج، و 3.094 دارا للنسيج أو الطرز، و 47 مصنعا للصابون،  و86 مدبغة، و 116 مصبغة، و 1170 مخبزة و 180 معملا للخزف، و 12 مصنعا للحدائد والنحاسيات، و 135 فرنا للجير الخ…”، وقال في المصدر نفسه: “وقد عرفت فاس وقرطبة، المجانيق والطرادات لإطلاق القذائف، وكان النقابون في العاصمتين عبارة عن هيئة متخصصة في ثقب الأسوار، تحت إشراف عرفاء يستعملون الكبس في الحروب
وقد نقل المقري عن ابن غالب (النفخ ج 2/ص 764 أي نفخ -أو نفح- الطيب في غصن الأندلس الرطيب) أن أهل الأندلس مالوا في بادية المغرب إلى ما اعتادوه، فاستنبطوا المياه، وغرسوا الأشجار، وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء. وإذا هذه العناصر الحضارية قد تركزت بفاس منذ القرن الثالث، فقد بلغت أوجها بعد أن ذبلت بالأندلس آخر عهد الموحدين أيام الناصر والمنتصر، حيث أصبح للأرحي بفاس ضلع قوي في تأثيل صناعة الورق، وطواحين الهواء والماء، وعصر الزيتون، وإدارة دواليب كثير من الصناعات، كما ازدهرت الأعراف الزراعية: كنظام الساقية ولحكمة المياه ومراقبة توزيعها بإشراف وكالة متخصصة (ابن عذاري- البيان ج3/ص 158)”.
أخرجت فاس جيشاً من العلماء الأفذاذ ما لا يمكن حصره في هذه السطور، منهم على سبيل المثال المفسر البارع محمد بن عطية والمقري والفقيه ابن القاسم والفقيه ابن زكون والحافظ المواق ، وغيرهم من مئات الأعلام الذين غصت بهم كتب كثيرة تراجمية، كـ”جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس” لابن القاضي المكناسي، و”سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس” لمحمد الكتاني، وغيرها. وصدرت العلم والمعرفة حتى الشام وآسيا الوسطى، وطورت صناعات، وامتازت تقنياً بالعديد من المخترعات المتفردة، وحوت مرصداً فلكياً، وداراً للتوقيت، وغيرها بما لا يتوفر لحاضرة أخرى من حواضر الإسلام إلا في الأندلس في وقتها.
ولعل عبقرية فاس تكمن في جمعها بين مميزات متعددة صاغت حضارتها الباهرة، فهي عنيت بالعلم والعلماء، وجعلت إبداعهم مستقلاً في كثير من العصور، فأوقف بعض حكامها ووجهائها وتجارها الأوقاف والأحباس لتغطية مصارف المؤذنين والأئمة والخطباء والطلبة في القرويين والمدارس المتكاثرة الأخرى، وحازت عناية خاصة بكبار العلماء، وتراتبية العلم الأكاديمي، وقد أشار صاحب “نشر المثاني” إلى “الأحباس المخصصة لكراسي التفسير وصحيح مسلم وابن الحاجب وصغرى السنوسي والرسالة ونظم ابن زكري”.
ومن تلك المميزات التي حازت بها فاس السبق:
–    النظام الوقفي الذي بفضله – بعد الله سبحانه – صمدت علمياً لمدة طويلة تزيد عن اثني عشر قرناً.
–    حصانة المدينة التي وفرت لها بيئة حاضنة للعلم والإبداع والحضارة.
–    تلاقي وانصهار الأصالة الحجازية مع الحضارة الأندلسية في بوتقتها.
–    وقوعها على مفترق طرق التجارة ووقوعها على ممرات تجارات الشرق والغرب.
–    إدراك كثير من حكامها على مر العصور لقيمة العلم والعلماء ودورهم في التطوير الحضاري واستقرار البلاد.
لكن مع هذا، ففاس تراجعت، شأنها شأن كثير من حواضر العالم الإسلامي، لكن ربما تميزها في بطء تراجعها، وبقائها محافظة على شيء من هويتها وثقافتها، وفي بقائها يتعزز الأمل بأن دورها سيعود، متى اقتربت أكثر من عوامل نهضتها، التي لم تكن يوماً ما تمر بخط التغريب والعلمانية ومحاكاة أوروبا، بل به غابت عن جوهر ريادتها التليدة.. هذا هو حكم التاريخ وشاهده.

(المصدر: موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى