كتابات

جوانب تربوية في شخصية الشيخ ابن جبرين رحمه الله

بقلم مرضي بن مشوح العنزي

كُتب عن الشيخ ابن جبرين رحمه الله كثيرًا، ومن أشمل ما كُتب عنه كتاب: “أعجوبة العصر” الذي كتبه ابنه عنه، فمن أراد أن يقف على سيرته ففي هذا الكتاب كفاية، مع أن للكتاب أهميةً أخرى حيث إنه تحدث عن حقبة تاريخية مهمة وأحداث مرت بها البلاد وكان للشيخ مشاركةٌ فيها، ولا أريد أن اقتبس أو أعيد ما قيل عن الشيخ هنا، إنما أريد أن أكتب عن بعض الجوانب التربوية في شخصية الشيخ رأيتُها وسمعتُها منه وإن لم أظفر بالتتلمذ عليه مباشرة إلا مرات قليلة، ولمست منه بعض الجوانب التربوية في شخصيته تجدر الإشارة إليها، وهي:

الأول: أن الشيخ -رحمه الله- على كبر سنه كان يزورنا في مدينتنا رفحاء في شمال المملكة كل سنة تقريبًا ويزور القرى القريبة منها، وكان يلقي الدرس والمحاضرة دون اهتمام لعدد الحضور أو كبر المدينة وصغرها، وهذا درس لطبلة العلم أن يبلّغوا ما عندهم من علم، وأن يكون بذلهم للواحد كما هو بذلهم للعدد الكثير، ومن المؤسف أن مكاتب الدعوة في المناطق الشمالية تشتكي من عدم تجاوب بعض المشايخ معهم، ويحزنهم أن يكون سؤال الشيخ الأول: كم عدد الحضور؟ مع أنه من البديهي أن الحضور في هذه المناطق ليس كالحضور في مناطق كبيرة ومشهورة بالعلم، لكن قد يكون في هذه الزيارة تأثير على طالب علم بتشجيعه وتثبيته أو توجيهه لطريق معين في العلم، ويبارك الله به ويكون في ميزان حسناته العدد الكثير من الطلبة، كما أن انتشار العلم وحلقات تحفيظ القرآن الكريم في مدينة رفحاء كان بسبب مدرس اسمه خالد العبيدان عُين فيها قبل خمس وثلاثين سنة تقريبًا وجلس فيها بضع سنوات يعلم فيها العلم الشرعي لم يطلب الانتقال إلى مدينته، وانتخب مجموعة من الطلاب وأسس جمعية حلقات تحفيظ القرآن الكريم ثم انتقل إلى مدينته وأكمل طلابه مشواره فخرج على يديهم العدد الكثير من طلبة العلم منهم المعلم والضابط وكاتب العدل والقاضي والدكتور وغيرهم.

الثاني: في آخر شهر 2 من عام 1426 هـ، زرت الشيخ ابن جبرين في بيته مع مجموعة من الشباب فأوصانا الشيخ بالعلم والدعوة والعمل والصبر، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة، وقال: إذا مللتم الطريق روحوا أنفسكم بالقراءة في التراجم وسير الرجال. ثم سأله أحد الإخوة معنا، فقال: كنت في سفر فدخلت مع جماعة يصلون المغرب وأنا أريد أن أصلي العشاء فصليت معهم ركعتين ثم سلمت وخرجت، فما الحكم؟ فقال الشيخ: تقبل الله منك هذه الصلاة، لكن لا تعد لذلك مرة أخرى.

ولم يأمره بإعادة الصلاة؛ فالشيخ لا يرى جواز ذلك ولكن لم يبطل عبادة هذا الشاب وهو يعلم أن هناك رأيًا مشهورًا يجيز مثل هذا الفعل ([1]) فراعى في الفتوى انتهاء الفعل، وأن الفتوى بعد الفعل تختلف عنها قبل الفعل خاصة إذا كان القول المخالف قويًا، فالشيخ رحمه الله يفرق بين الفتوى قبل الفعل وبعد الفعل، فقد يكون له ترجيح لقول ثم لما يسأله أحد المستفتين بعد الانتهاء من الفعل يفتيه الشيخ بالرأي الآخر الذي يعد مرجوحًا عنده؛ وذلك من فقه الخلاف وفيه تيسير على المستفتي، ومن الأمثلة على ذلك في كتب الفتاوى المطبوعة للشيخ أنه لما سأله رجل من مصر أنه دفع زكاة الفطر نقودًا فهل عليه إعادة دفعها؟ فأجابه الشيخ بأن: “هذا مذهب إمام من الأئمة وهو أبو حنيفة، ومذهب أبي حنيفة منتشر في مصر، وكذلك في كثير من البلاد وحيث إنهم على مذهب من المذاهب وأن لهم نظرهم ولم رأيهم واجتهادهم وأنها قد وقعت موقعها وقد أخذها أهلها؛ فلا يلزمون بالإعادة، فتجزئهم” ([2]) . فمع أن الشيخ يرى أنه لا يجوز دفعها نقودًا إلا أنه راعى البلد الذي سأل منه السائل وبيّن له أهمية مذهب الإمام أبي حنيفة المنتشر في هذا البلد، وراعى انتهاء الفعل.

وقد سأله شخص أنهم حجوا فلم يسعوا فأجابه الشيخ أن السعي ركن ولا يتم النسك إلا به، ثم ذكر له أن هناك قولًا آخر وهو أن السعي واجب وليس من الأركان ثم أفتاه بالقول الثاني فقال: “وحيث إن الأمر قد مضى وطالت مدته فنفتيهم بهذا القول ونقول على كل منهم فدية جبران في مكة تفرق على مساكين الحرم” ([3]) ، فقد راعى الشيخ في الفتوى أن العمل قد انتهى من زمن، وهذا من فقه الفتوى وهو التفريق بين الفتوى قبل الفعل والفتوى بعد الفعل، وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أن شيخه السعدي رحمه الله كان يوصيه بذلك فقال: “وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأُفتِىَ بالقول الثاني فلا حرج، مثل أن يطوف في الحج أو العمرة، بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف لكونه نزح عن مكة أو غير ذلك، فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه. وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي- رحمه الله- يفعل ذلك أحيانا ويقول لي: هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل، وبين ما وقع وما لم يقع “([4]).

الثالث: في يوم الخميس 24/ 3/ 1428هـ حضرت لقاءً مع الشيخ ابن جبرين رحمه الله في مدينة بريدة مع ثلة من المشايخ الفضلاء وطلبة العلم، وكان هناك شاب من الكويت وكان حريصًا على طلب العلم، فسأل الشيخَ سؤالًا عن التدرج في كتب الفقه بما يبدأ الطالب وبما ينتهي، فقال له الشيخ: كتبُ الفقه مكررةُ إلزم كتابًا واضبطه واقرأ شروحه، ثم قال الشاب: وهل يكفي أن أضبط متن أبي شجاع في الفقه الشافعي؟، فقال الشيخ: نعم، أي كتاب في الفقه، ولا يلزم أن يكون في مذهب أحمد. وفي هذا درس وهو تسهيل طريق العلم على طالب العلم، وعدم ربط الفقه بمذهب معين، أو تمييز مذهب على مذهب آخر، وقد حضرت محاضرة عن طلب العلم فتكلم الملقي فيها عن طريق طلب العلم من المغرب إلى العشاء ولم ينه الخطوة الأولى في طريق طلب العلم؛ هذا الطريق الذي اختصره الشيخ ابن جبرين بقوله: إلزم كتابًا في الفن واقرأ شروحه يكفيك.

الرابع: حضر الغداء وجلسنا مع الشيخ عند الصحن، وكان الشاب الكويتي يأكل بملعقة وحده دون البقية، فقال أحدهم للشيخ ابن جبرين: ياشيخ ما رأيك بمن يأكل في الملعقة؟ فأحّرِج الشاب الكويتي فقال: لم أقصد التشبه!، فأجابه آخر من الحضور: بأن التشبه لا يحتاج لقصد، والشيخ ابن جبرين ساكتٌ ثم تكلم فقال: قال بعض أهل العلم: إن الأكل بالملعقة من تطبيق السنة؛ لأنه يمسكها بثلاثة أصابع. فأخرج الشيخُ بجوابه الشابَ من الحرج الذي وقع فيه، ولفت أنظار الذين أنكرا إلى رأي آخر لعلماء يرون أن هذا الذي ينكرونه هو تطبيق للسنة، فنقلهما من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من كون من يفعل هذا آثمًا، إلى كونه مأجورًا. وكان الدرس أن يختار المرءُ الوقتَ المناسب لتنبيه غيره، وألا يلزم الناس برأيه خصوصًا في المسائل التي يسع فيها الخلاف، وأن يحاول أن يغير زاوية الرؤية قبل أن يحكم على غيره.

الخامس: أخونا الكويتي أراد أن يشارك الإخوة على الغداء في الحديث؛ فقال: قرأت في أحد الكتب عن الشيخ عبدالرزاق عفيفي أنه كان يتمني ألا يُبقى من الكتب إلا الكتاب والسنة، وأنه لو كان له من الأمر شيء لألقى كل كتاب غير الوحيين في البحر، أو أحرقه ([5]) ، فتكلم الأخ السابق الذي سأل عن حكم الأكل بالملعقة فقال: هذا الكلام غير صحيح، والشيخ عبدالرزاق لا يقول مثل هذا الكلام، فقال الشيخ ابن جبرين: بل سمعتها منه بأذني. فأُسقط في يدي هذا الـمُنْكِر، وكان  الدرس ألا ننكر ما نستغربه من الأقوال حتى نتثبت، وأن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، وأنه حتى لو كان عندنا علم بالعدم، فمن المستحسن أن نختار الأسلوب الأجمل والألطف في بيان رأينا، فلو سأل هذا الأخ الـمُنْكِر الشيخَ عن رأيه بما نُقل عن الشيخ عبدالرزاق عفيفي قبل أن ينكره لخرج من إحراج نفسه وإحراج غيره، لكن جزاه الله خيرًا فقد كان استعجاله سببًا لأن نلمس هذه الجوانب التربوية في شخصية الشيخ رحمه الله تعالى.

السادس: في أحد زيارات الشيخ لمدينة رفحاء أخذ أحدُ الشباب بيد الشيخ ومعه واحد أو اثنان فسأل الشيخ عن مسألة فقهية مع بيان حاله وكيف حصل له، فأجابه الشيخ بجواب خاص خلاف الرأي السائد لهذه المسألة، ثم جاء الشيخ إلى مجلس كبير مليء بالحاضرين، فأعاد الشاب السؤال على الشيخ أمام الحضور، فأجاب الشيخ بخلاف الجواب الذي ذكره له قبل قليل، فقال: قال العلماء… ثم ذكر الجواب السائد، فالشيخ فهم المقصود من السؤال وأن الذين في المجلس على الرأي السائد وهذا الشاب يريد أن يجعل الشيخ بصفِهِ ويحاجّ به الحضور مع أن الرأي الذي عليه أكثر الحضور هو رأي لعلماء أجلاء، والناس سائرون عليه من زمن، وهذه من الدروس في الفتوى أن يراعي المفتي مكان الفتوى، ويفرق بين الفتوى الخاصة والفتوى العامة، وألا يأتي لأناس يسيرون على رأي لعلماء معروفين بالعلم فيخالف هذا القول ويحدث فتنة واختلافًا في صفوفهم في مسائل اجتهادية يسع فيها الخلاف، وقد سبق إلى ذلك إمامُ دار الهجرة بأن منع إلزام الناس بما في الموطأ؛ لأن “الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم، وعملوا به، ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد” ([6]) . فالعالم الذي أوتي الحكمة يقدم القول المرجوح عنده إذا كان فيه جمع لكلمة الناس ولم شملهم، خصوصًا في المسائل الاجتهادية وقد جاء في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون» ([7]) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أبقى الكعبة على ما هي عليه وترك رأيه؛ لأجل اجتماع الناس وعدم تفريقهم، وقد بوب البخاري لهذا الحديث بباب: “من ترك بعض الاختيار، مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه” ([8]).

وبعد؛ فهذا ما رأيته من الجوانب التربوية وهي قليلة لقلة رؤيتي للشيخ، ومن لازم الشيخ كثيرًا رأى الكثير من الجوانب التربوية، وقد كُتب عنه الكثير، رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا به في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 ——————————————-

[1] () انظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 15/357.

[2] () فتاوى فقهية على كتاب عمدة الأحكام صـ288.

[3] () فتاوى فقهية على كتاب عمدة الأحكام صـ342.

[4] () مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 26/401.

[5] () انظر: هكذا حدثنا الزمان، لعائض القرني صـ89، 118، 269.

[6] () سير أعلام النبلاء 8/78.

[7] () رواه البخاري، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، برقم 126، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، برقم 1333.

[8] () صحيح البخاري 1/37.

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى