كتابات مختارة

العدل بين الناس

بقلم د. عبدالحليم عويس

تقوم سياسة الأمة والدولة بالنسبة لكل المواطنين – مسلمين وغير مسلمين – على ركن العدل، فالإسلام هو دين العدل، وقد أمر أتباعه بالالتزام بالعدل وتحريه في كل حالٍ، ولو كان في الوفاء بمقتضياته ضرر على النفس، أو على أقرب الأقربين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ [1]، وأوجب عليهم الحكم بالعدل بين الناس جميعاً في كلّ الظروف؛ حيث قال الله جل جلاله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [2].

وقد قدَّم المسلمون خلال تاريخهم صوراً نادرة من العدل التي تمتع بها غير المسلمين في ظل المجتمع الإنساني الإسلامي..
لقد تنازع الخليفة الراشدي العظيم علي بن أبي طالبوهو (أمير على المؤمنين) مع يهودي على ملكية درع كانت في حوزة اليهودي، فاحتكما إلى القاضي شريح بن الحارث، فقال الخليفة علي بن أبي طالب لليهودي: الدرع درعي لم أهب ولم أبع، فقال اليهودي: بل هي درعي، وفي يدي، فقال: بيني وبينك القاضي… قال شريح القاضي يصور الواقعة: فقعد عليّ إلى جنبي، واليهودي بين يدي، وقال عليّ: هذه الدرع درعي، لم أبع، ولم أهب، فقال لليهودي: ما تقول؟ قال: درعي، وفي يدي، وقال شريح: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ قال: نعم، الحسن ابني، وقنبر، يشهدان أن الدرع درعي، قال شريح: يا أمير المؤمنين شهادة الابن لا تجوز، فقال علي: سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة” فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه! وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين سقطت منك ليلاً”، (وكان شريح قد حكم لليهودي بالدرع؛ لأنه في حيازته ولا بيّنة عند علي).

ومن أروع الصور على عدل المسلمين مع غيرهم أن القائد قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله وهو فاتح بلاد ما وراء النهرين والصين قد فتح مدينة (سمرقند) دون أن يخير أهلها بين الدخول في الإسلام، أو المعاهدة، أو القتال، وبعد عشرين سنة من فتحها، وحين صار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خليفة للمسلمين وسمع أهل سمرقند بعدله فسار إليه وفد منهم واشتكوا إليه ما فعله قتيبة، وكان إذ ذاك قد توفي وقالوا له: “إن قتيبة لم يخيّرنا بما تقضي به شريعة الإسلام” فكتب عندئذ عمر إلى واليه على سمرقند يأمره بأن يخرج منها هو وجيشه، وأن يخيّر أهلها بالخيارات الثلاثة، فلما خرج المسلمون منها آمن كثير من أهلها بدين الإسلام.

ومن الأمثلة البارزة على العدل مع غير المسلمين؛ موقف الإمام الأوزاعي من الوالي العباسي في زمنه، عندما أجلى قوماً من أهل الذمة من جبل لبنان لخروج فريق منهم على عامل الخراج، وكان الوالي هذا أحد أقارب الخليفة وعصبته، وهو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس فكتب إليه الأوزاعي رسالة طويلة، كان مما قال فيها: “فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم؟ وحكم الله تعالى: ﴿ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [3]، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: “من ظلم ذمياً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه”.
إلى أن يقول في رسالته “فإنهم ليسوا بعبيد فتكون في حل من تحويلهم من بلد إلى بلد، ولكنهم أحرار أهل ذمة”.
وإدراكاً لعدل الإسلام مع غير المسلمين بما ليس له نظير؛ اعترف كثير منهم بذلك في شهادات تركوها للتاريخ، فقال المؤرخ الشهير (ولز) عن تعاليم الإسلام: “إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرامة والسماحة، كما أنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما في أية جماعة أخرى سبقتها”.

——————————————————–

[1] النساء: 135.
[2] النساء: 58.
[3] سورة النجم: 38.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى