الصوفية والإسلام السياسي: هل هي بديل ممكن؟(1)

الصوفية والإسلام السياسي: هل هي بديل ممكن؟(1)

إعداد نوران حسن

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، روج كثير من مراكز اﻷبحاث اﻷمريكية لخطاب عالمي حول ‘اﻹسلام المعتدل’ أو الصوفية، لموازنة التفسيرات المتطرفة المتهمة بحفز إنشاء تنظيم القاعدة، المسؤول عن وقائع تمرد جهادي لاحقة. تم استقبال هذه الدعوة بحرارة من قبل سياسيين إماراتيين تبنوا سياسات طويلة اﻷمد للترويج ﻹسلاموية ‘سنية-صوفية-أشعرية’ كنقيض للأيديولوجية التي ترعاها السعودية – المتهمة بتوفير ملاذ آمن لما بين 15 إلى 19 من إرهابيي القاعدة. في نفس الوقت، كان على اﻹمارات أن تقوم بدورها في ‘الحرب على اﻹرهاب’ ﻷن اثنين من مواطنيها كانا متورطين في الهجوم. ولكي يعفي بلاده من اتهامات مماثلة، انتهج الشيخ محمد بن زايد بحزم سياسة طويلة اﻷمد لدعم الصوفية المدارسية التي تروج خطابا صوفيا لا سياسيا، ملائما للسلطة، وغير عنفي، لمجابهة الجهادية، في البداية، ثم اﻹسلاموية السياسية -جماعة اﻹخوان المسلمين- بعد 2011.

وفي حين يكتسب مفهوم الصوفية[1] كنقيض للحشد السياسي مزيدا من الانتشار في دوائر الشباب كممارسة دينية ‘آمنة،’ فإنها تبرر للأنظمة الملطخة أياديها بالدماء، وتشوه تاريخا طويلا للصوفية كوسيلة للدفاع عن أراضي المسلمين وحقوقهم، أو الحفاظ على القانون والنظام، أو إدارة الشؤون الدينية وإرشاد سلطات الدولة. وهذا يستدعي الحاجة أولا إلى فحص التجليات التاريخية المختلفة لطرق وعلماء الصوفية واﻷدوار التي لعبوها، وهو ما يغطيه الجزء اﻷول. وثانيا تقديم قراءة نقدية ‘للصوفية الجديدة’ التي يُروج لها وتُنشأ كنقيض للحشد الاجتماعي-السياسي ولحقوق اﻹنسان والحريات، وهو ما يغطيه الجزء الثاني. وتخلص الدراسة إلى توصيات للإسلام السياسي لاستعادة شرعيته بين مؤيديه وﻹعادة تقديم إحياء لمفاهيم وسرديات الصوفية كمنصة للتغيير السياسي.

هل الصوفية إسلام لا سياسي؟

تعتبر رؤية الصوفية المروضة موضع نزاع تاريخيا وخطابيا في طيف من الحالات التي اتبعت فيها الطرق الصوفية مواقف وتكتيكات متنوعة تجاه الاستعمار، والنزاعات الطائفية/القبلية، والانتفاضات ضد النظام في أواخر القرن الـ19 واليوم في العراق الذي مزقته الحرب.

في مقاله بعنوان :”الصوفية والاستعمار”، يجادل نوت إس فيكور بأن الصوفية، مثل عموم المسلمين ، كانت ردود أفعالهم متباينة تجاه قدوم القوات اﻷوروبية التي سيطرت على أراضي المسلمين. فاستخدمت معظم الطرق القوة دفاعا عن اﻹسلام، أو عن التبعية السياسية للإمبراطورية العثمانية، أو عن الموارد البشرية والمالية والمادية. وتعتبر أي قاعدة تعميمية حول الصوفية على أنها طيعة أو متمردة (عنيفة)، كما قد تصنفها المصادر الفرنسية، مضللة تماما كتصور الصوفية على أنها غير-عنيفة في المطلق في السياسات الغربية والسياسات الخارجية اﻹقليمية. ويفحص فيكور العديد من اﻷمثلة للصوفية في مواجهة السلطات الاستعمارية. فكل من مقاومة القادرية للاحتلال الفرنسي في غربي ووسط الجزائر بين عامي 1832 و1847، وبنياتهم السياسية القائمة قد شرع فيها على أساس الشرعية القبلية والروحية لوالد أمير المؤمنين عبد القادر الذي قاد الجهاد بصفته ‘أميرا للمؤمنين.'[2] ويمكن مقارنة حالة القادرية بطريقة سلموية أخرى هي التيجانية، التي سيطرت على واحة ‘عين ماضي’ وصنفت على أنها كانت ‘ودية’ تجاه القوات الفرنسية في المغرب والجزائر.

اختار التيجانية الانعزال عن الاضطراب السياسي بخلاف ‘الجهاد الفولاني’ الموجه ضد الحكام المسلمين المحليين والممالك الوثنية في غربي إفريقيا، والذي مكن ‘جهادهم في سبيل الله’ من هيمنتهم على الحياة السياسية في غربي إفريقيا المسلم تحت قيادة الحاج عمر، الذي درب تلاميده أكاديميا وعسكريا حوالي منتصف خمسينات القرن الـ19. وعندما تقدم الفرنسيون نحو مناطق سيطرة الحاج عمر، طالب مؤيديه بالانسحاب من أراضي الأعداء إلى سيج قبل أن يقضي الفرنسيون على دولته في 1890 واضعين حدا للتجربة الجهادية السياسية-الصوفية القديمة. وكان عمر عالما ذائع الصيت، وقائدا تيجانيا، وسياسيا، واعترف به كقائد للتيجانية جنوبي الصحراء.[3]

ويتصل نموذجه بشكل تقريبي بالجهاد السنوسي المستلهم-للصوفية في كل من تشاد وليبيا والذي بدأ كأخوية معنية بالمجتمع للحفاظ على السلم بين الكيانات القبلية التي كان لها تاريخ مشترك من التنافس الدموي.[4] ويجادل فيكور أن الطريقة طورت مقاومتها تجاه الحرب في برقة ﻷن الفرنسيين عرفوها خطأً ‘كمعارضة’ مما حفز دعم القبائل البدوية للطريقة ضد ‘الكفار، الطليان، الذين غزوا طرابلس وبرقة في 1911.

وقد وفرت الطريقة التماسك والهيكل لجهود المقاومة خاصة بعدما انضمت إيطاليا لدول التحالف في الحرب العالمية اﻷولى مما أدى بالتحالف العثماني-الألماني إلى دعم الطريقة السنوسية بالسلاح والدعم المادي قبل هزيمته في 1916 أمام القوات البريطانية واستبدال قيادة الطريقة بشخص ‘متعاون’، هو محمد إدريس، نجل القائد السابق المهدي. وحافظ إدريس على توافقات السلام مع الطريقة ورديفها القبلي حتى 1922، عندما وصل موسوليني إلى السلطة واستعاد السيطرة الفعلية على طرابلس. وفي النهاية، اتحد قادة القبائل وفروع الطريقة السنوسية تحت قيادة ‘عمر المختار’، أحد مواطني برقة، للدفاع عن المدينة.

وكان عمر المختار صوفيا، وليس قائدا سياسيا/قبليا، ومن ثم تحولت الطريقة فعليا إلى ‘آلة حرب’ استهدفها اﻹيطاليون طول تسعة أعوام من القتال العنيف قبل أسر المختار في 1931. كمثال آخر، الطريقة الرشيدية، المعروفة بالدندراوية في مصر، والتي قادها عبد لله حسن الذي دعا إلى اﻹصلاح الاجتماعي وقاوم قدوم البريطانيين واﻹيطاليين موحدا العشائر السودانية في جهاد كامل طوال أربعة أعوام (1895-1899) ولعب على الانقسام الاستعماري ﻹقامة دولة قصيرة العمر انتهت بموته في 1920.[5]

بفحص هذه الحالات اﻷربع، فإن الارتباط الضروري بين الصوفية والكيانات الاجتماعية-السياسية المسالمة المروضة يمكن بالكاد أن يصمد في وجه اﻷدلة. فقد قدمت الصوفية ردود أفعال مختلفة للهجمات الاستعمارية. فقاد عبد القادر نضالا سياسيا معاديا للاستعمار مستخدما شرعية صوفية ولكنه لم يملي هوية روحية على دولته؛ بينما دفعت الظروف بالسنوسيين إلى الجهاد، كما يجادل فيكور، تماما كما قاتل التيجانية الميالون للدعة بخلاف ذلك، تحت قيادة الحاج عمر، ضد المسلمين غير الملتزمين والحكام الوثنيين بدلا من قوات الاستعمار، بينما تحقق مشروع عبد الله الصوفي-السياسي والاجتماعي في دويلة صغيرة أنكرتها طريقته نفسها، فاعتمد على سلطته التقليدية الشخصية التي افتقدت إلى مشروع سياسي طويل اﻷمد. في كل الحالات، دخلت الصوفية في نزاع سياسي-عسكري ‘كرد فعل’ وسواء انتصرت أم لم تنتصر فقد حصدت دعما كبيرا في حروب ضد الغزاة ودفاعا عن الهوية اﻹسلامية، والاستقلال السياسي، وحقوق الناس، أو المصالح الطائفية.

ويعتبر هذا النمط جديدا حتى بالنسبة للصوفية السابقة والتي شاركت في حملات الغزو على الحدود مع البيزنطيين وأوقفت الهجمات على أراضي المسلمين الرئيسية. فقد انضمت كل صفوف علماء الصوفية إلى حملات الخلافة اﻷموية (661-750) على الحدود البيزنطية.[6]

ويروي ابن الجوزي في ‘صفات الصفوة’ عن أئمة وقادة الصوفية الذين رابطوا في المدن وعلى الثغور، وانضموا إلى المحاربين في المعارك وخفروا ممرات الجبال وأعالي القلاع. وتشمل اﻷمثلة عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ/ 797 م) الذي ضمت إنجازاته العسكرية المرابطة مرات عدة على الحدود ومنازلة محاربين معروفين للأعداء وذلك كله بينما عمل على تأليف ‘كتاب الجهاد’ الذي يكون اﻷقدم بين أعمال تالية كثيرة مشابهة.[8]

وتبرز مرويات سيرة المبارك انضباطه الذاتي الذي تطور إلى ‘كتاب الزهد’ الذي اكتسب انتشارا واسعا في اﻷندلس المسلم. ويأتي نموذجه تاليا على إبراهيم بن أدهم (ت 161 هـ/ 777 م)[9] الذي حشد علماء وزهاد الصوفية وطور فكرة أن الشهادة هي السبيل اﻷفضل لتكوين المجتمع اﻹسلامي بجهود المؤمنين الأفراد وسعيهم للخلاص الذاتي.[10] ويتمثل تراث ابن أدهم في وصفه لمجتمعه ‘كمخلصين متمرسين، تشمل أنشطتهم “كثرة الصيام، ابتلاع التراب أو الوحل، واﻹصرار التام على كسب العيش.”[11] ومن ثم، فمن الثابت أن علماء الصوفية قد التحقوا بالحرب على حدود المسلمين بداية بالقرن الثامن.[12]

في القرن الثالث الهجري، انخرط مئات المتطوعين الصوفية في الحشد للجهاد، يحثون الحكام على القيام بحملات وقائية، ويرابطون في زواياهم، ويعلمون تلاميذهم في الثغور البحرية وممرات الجبال، ويلقون خطبا بلاغية ضد اﻷعداء لتحميس الجنود المسلمين. ومتبعا اﻷمثلة السابقة، يروي التاريخ عن حاتم اﻷصم (ت 237 هـ/ 851 م) والذي مات في رباطه على ممر جبل وهو يدافع عن أراضي المسلمين؛ وعن يزيد البسطامي (ت 261 هـ/ 848 م) المعروف بـ’سلطان الصوفية’، والذي نذر نفسه إما في مسجد أو في رباط عسكري طيلة أربعين عاما؛[13] وعن أبي حمزة الصوفي (ت 269 هـ/ 882 م) والذي أشاد به إمامه الجنيد “لالتحاقه بالحملات في رداء الصوفية”؛ وعن سرى السقطي (ت 253 هـ/ 867 م) والذي ترجع إليه معظم طرق الصوفية، وابن أخيه اﻹمام الجنيد (ت 297 هـ/ 910 م)، وهو عالم صوفي معروف ‘وإمام عصره، كما يصفه ابن اﻷثير؛[14] وكلاهما التحق بالحملات ودافع عن أراضي المسلمين.

ثمة أمثلة قليلة لعلماء صوفية مشهورين التحقوا بالحرب وقادوها ضد قوات البيزنطيين، وآخرين بنوا مساجدهم وبيوتهم على الثغور البحرية والجبال وأمضوا نهارهم في الصلاة وليلهم في الحراسة. وتشمل اﻷمثلة في طرسوس: أبو عبد الله النبجي (ت 225 هـ/ 840 م)، وأبو العباس الطبري، وزهير بن شعبة المروزي (ت 285 هـ/ 898 م). وأكثر من ذلك، التحق بعض الصوفية بالحرب في البحر، مثل علي الرازي المذبوح (ت 245 هـ/ 859 م). وبنهاية هذا القرن، نضجت الطرق الصوفية وأصبح لها مناهج منظمة وسبل انخراط، ونظم، وعادات جمعية.

فعلى سبيل المثال، كانت ‘الفتوة’ أو الجندية ممارسة مستقرة للحماية المجتمعية والجهاد ضد الغزاة. وووعظ بها وطُورت كوسيلة لإحلال العدل وحماية التماسك الاجتماعي، والحفاظ على النظام، ومجابهة التعديات. وكانت ‘فتيان الثغور’ شارة واسعة الانتشار للطرق الصوفية المرابطين في زواياهم وبيوتهم لممارسة الذكر والجهاد وتدريب وتعليم قلوب التلاميذ الجهاد الأكبر، بينما يشيدون بكفاءتهم البدنية.[15]

استمرت الصوفية في القرنين الرابع والخامس الهجريين في الحشد ﻷجل الجهاد وﻷجل الحقوق الاجتماعية-السياسية من خلال قادة كثر: ابن مرزوق الصقري (ت 330 هـ/ 942 م) وإبراهيم بن علي الصوري (ت 471 هـ/ 1078 م). وهناك آخرون واصلوا المرابطة على الثغور الساحلية وبنوا المساجد والبيوت والمقابر على الرمال. وتشمل اﻷمثلة في مصر أضرحة سيدي جابر، وسيدي بشر، وسيدي علي الشاطبي، وسيدي العجمي، وأبي الفتح الواسطي،[16]

وفي الشام، أرسلان الدمشقي (ت 541 هـ/ 1146 م) المعروف ‘بإمام الصوفية وشيخ المجاهدين’ والذي راسل الملك العادل نور الدين محمود (ت 569 هـ/ 1174 م).[17] ولخص اﻹمام الشعراني (ت 973 هـ/ 1565 م) الوجه الجهادي للصوفية كقسم “بتكريم الجنود والحرس بالمال والغذاء، ورعاية أبنائهم، وسؤال الله الشهادة في سبيله …،” بينما يصف محيي الدين بن عربي (ت 637 هـ/ 1240 م) “الفتوة” بأنها “مقام القوة؛ فمن تنقصه القوة لم يبلغ هذا المقام.”[18]

بالمثل عززت جوانب الفروسية والجوانب الروحية للفتوة خلال العصر العباسي في ظل الشيخ عبد الجابر بن يونس البغدادي (ت 583 هـ/ 1187 م) وخلال الحروب الصليبية. فعزز الملك نور الدين محمود موقعه السياسي والعسكري بدعم المجاهدين الصوفية وزواياهم؛ وكان هو نفسه يكن احتراما كبيرا لعلماء الصوفية، يحيي موالد كبار علماء المسلمين ويرمم أضرحتهم، مثل أبي سليمان الدرني (ت 205 هـ/ 820 م) واﻹمام اﻷعظم أبي حنيفة النعمان (ت 149 هـ/ 767 م).[19]

مع سقوط الدولة الفاطمية في مصر، أنشأ الناصر صلاح الدين اﻷيوبي (ت 589 هـ/ 1193 م)، وهو أيضا محارب صوفي وابن الملك نجم الدين أيوب (ت 568 هـ/ 1173 م)، زوايا كثيرة وبيوتا للصوفية في مصر وفي دمشق لتعزيز التدريب الروحي والعسكري، ورتب لها أوقافا عدة رفعت من شعبيته وصيته كعالم صوفي، وحاكم عادل، ومصلح خيّر.[20] وخلال الدولة اﻷيوبية، قاد محيي الدين بن عربي جيوش المسلمين ضد الحملة الصليبية الثالثة ودعا جمهور المسلمين إلى الجهاد.[21]

ويقول ابن عربي في ‘مواقع النجوم’: “أي بني لتعلم أن الله إذا أراد أن يرفع عبده، يضعه قرب عدوه ليحث عبده على القتال، فإذا انتهى من العدو القريب (نفسه) التفت يقاتل الأعداء اﻷبعد …”[22] ويصف ابن تغﻻي بردي، وهو مؤرخ مسلم معروف، أيضا اﻹمام أبو الحسن الشاذلي (ت 656 هـ/ 1258 م) بأنه “الإمام العلامة والمقاتل في الثغور.”[23]

ويصف ابن دقيق العيد تلميذه، اﻹمام العز بن عبد السلام (ت 660 هـ/ 1262 م) العالم الصوفي الشاذلي، بأنه ‘سلطان العلماء'[24] الذي قاد التمرد ضد الملك اﻷشرف الصالح إسماعيل، حاكم دمشق حينها، والذي تنازل عن القدس، وطبرية، وعسقلان للصليبيين كجزء من تنافسه السياسي مع سلطان مصر نجم الدين اﻷيوبي. وقاد العز الغضب الشعبي، وأصدر فتوى تحظر بيع السلاح، وأوقف الدعاء للملك الصالح، وروي عنه قوله “… لقد أذنبت في حق نفسك وحق اﻹسلام، ذنبا لا يكافئه إلا الشرك.”[25] ورد الصالح بعزل العز وحبسه ببيته مما أدى باﻷخير إلى الهجرة إلى مصر، حيث رحب بقدومه نجم الدين آخر ملوك اﻷيوبيين وولاه رئاسة قضاة مصر.

وكما فعل في دمشق، حشد العز الناس ورفع مطالبهم ضد سادة وأمراء المماليك الذين فرضوا ضرائب ممتدة وأصدروا أوامر ظالمة لتحقيق مكاسب شخصية. وقضى العز بأن شراءهم وبيعهم وزواجهم غير شرعي كونهم يظلون ‘عبيدًا’ وفق قواعد الشريعة. ودفع اﻹمام بقوة بالغضب الذي أدى بأمراء وسادة المماليك أخيرا إلى أن يباعوا ويشتروا في السوق، ووزع المال المتجمع على فقراء وضعاف المسلمين. وسمي منذ ذلك الحين ‘بائع المماليك.’ وعرف أيضا بتلقيه خرقة الصوفية من اﻹمام الشهاب السهروردي (ت 587 هـ/ 1191 م)، وحضور الذكر، ورقص السماع في دوائر.[26] وكإمام صوفي، وقائد سياسي، وكبير قضاة مصر، كان العز أيضا رجل حرب. ففي الحملة الصليبية السابعة، التحق باﻹمام الشاذلي، ومجد الدين القشيري، ومحيي الدين بن سراقة، والمجد الخميمي في معركة المنصورة (647 هـ/ 1249 م) تحت قيادة السلطان اﻷيوبي الملك الصالح نجم الدين، وفي مواجهة الصليبيين الفرنسيين الذين قدموا تحت قيادة الملك لويس التاسع. وفي نفس المعركة حث شيخ الصوفية أحمد البدوي وخليفته اﻷول الشيخ مرزوق الشباب على الجهاد ودربوهم لتحرير اﻷسرى المسلمين.[27]

أثبت العز صوقيته المحاربة مرة أخرى في معركة عين جالوت (1260 م) والتي قاتل فيها تحت قيادة السلطان المملوكي، الملك المظفر سيف الدين قطز ضد قوات المغول التي استولت على بيسان ومثلت تهديدا خطيرا للملك المستقر حديثا بعد عامين فقط من سقوط بغداد في 1258 م. وفي اجتماع بالملك قطز، والعلماء، والسادة، واﻷمراء، أصدر العز فتوى تقصر فرض الضرائب على تمويل ‘الجهاد’. وحث على أن “بإمكانكم أخذ أموال الناس لدعم الجهاد فقط بعد أن يدفع الملك وأمرائه ما يملكون من أموال وجواهر وذهب، وبعد أن تصبح ثرواتهم مساوية لما يملكه العامة وعندما يملكون فقط سلاحهم وخيلهم. وإذا، بعد ذلك كله، ظل ثمة حاجة للمال، يكون فرض الضرائب مشروعا.”

وتم تطبيق فتواه؛ ووضع قطز وأمرائه ثرواتهم في هذه الحرب وانتصروا على المغول الذين تراجعت جيوشهم إلى إيران والعراق تاركة مصر في أمن وأمان في أيدي المماليك.[28] ومتبعا مثاله، اعتاد اﻹمام الدسوقي (ت 695 هـ/ 1296 م) نقد السلطان اﻷشرف بن قلاوون للمظالم مطالبا إياه بالحضور إلى منزله لمناقشة مطالب الناس. وروي عنه قوله: ،من يرد أن يراني، فليأتي إلى بابي.”[29]

في مصر العثمانية روى الجابري عن شجاعة وبطولة الشيخ الدردير (ت 1204 هـ/ 1790 م)، وريث الشيخ علي الصعيدي في مذهب الفقه المالكي في الجامع اﻷزهر. ووفق الجابري، ففي عام 1200 هـ/ 1786 م اعتدى أحد سناجق مراد بك، حاكم مصر حينها، على بيت تاجر لحوم، فسرق أمتعته، وأهان حريمه. وفي اليوم التالي، كما يروي الجابري، ذهب العامة والجيران إلى الشيخ الدردير وطلبوا منه أن ينصرهم ويعيد المتاع المسروق. فجمع اﻷخير الناس من اﻷزهر والمناطق المجاورة، ونظم هجوما مقابلا على منزل المعتدي، وأصدر فتوى بأن يسترد الناس متاع الضحية أو يموتون شهداء. وعندما شعر أمراء المماليك بحدة الغضب، تفاوض سليم أغا ومحمد كتخدا الجلفي مع الدردير في منطقة الغورية ووعدا بإعادة المتاع المسروق.[30]

وشكل الصوفية في هذا العهد مجموعات حقوقية نيابة عن أنفسهم وعن المجتمع الأوسع، محولين معارضتهم إلى عنف ضد الأمراء المعتدين لتحقيق العدل ووضع حد لسلطة فرض الضرائب. ولحق بعض العلماء الصوفية بالطبقة الحاكمة أيضا مستفيدين من دعم عثماني قوي للصوفية وعلى أساس أن المماليك، بالتعريف، أبناء آباء غير مسلمين.[31] وسمح هذا للسلطة الصوفية بأن تتمأسس من خلال عملية وراثية داخل عشائر بعينها مما أدى إلى اختيار “نقيب للأشراف” (السلطة الصوفية العليا).

وبينما لعب عمر مكرم (ت 1822 م) دورا مصيريا مع الشيخ محمد السادات (من الطريقة الوفائية) والشيخ البكري في إقامة مراد بك وإبراهيم بك في السلطة، قاد معارضة شعبية ودافع عن سلامة العامة وحقوق ملكيتهم. ومن ثم، تمتع علماء الصوفية في مصر العثمانية قوة رمزية وفعلية: فقادوا المسيرات، وعلقوا العادات الدينية الجماعية، ووعظوا حاثين على المقاومة في خطب الجمعة، وقادوا المقاومة المسلحة ضد المعتدين، فأغلقوا اﻷسواق وحظروا كل تبادل اقتصادي/تجاري، وقطعوا الطرق، وشلوا الحياة العامة، دائما دعما لحقوق الناس.[32]

وخلال الاحتلال الفرنسي لمصر، قاد الشيخ السادات ثورة القاهرة اﻷولى (1798 م) بينما قاد مكرم الثورة الشعبية الثانية في القاهرة (1800 م)[33] وهو ما أدى إلى طرده إلى فلسطين.[34] بعد عدة أعوام، استعاد العثمانيون السلطة ومرة أخرى ساعد مكرم في فرض محمد علي كوالي عثماني لمصر،[35] قبل أن يكتشف أنه قد ساعد ديكتاتورًا سلطويًا، ومن ثم انقلب إلى المعارضة.

في النهاية، عُزل مكرم عن قيادة الصوفية، وعهد محمد علي بالمنصب إلى عائلة السادات المهادنة وساهم في تلطيخ سمعة مكرم في الدوائر العثمانية الحاكمة.[36] مثال آخر هو أحمد عرابي (1841-1911 م) الذي قاد الثورة الشعبية ضد المستعمرين اﻹنجليز وكان عالما صوفيا معروفا، تمتع جده بروابط عائلية بالسيد أحمد الرفاعي الصعيدي. وفي الجيش المصري، ثُبتت سلطة عرابي الروحية بالإحالة المستمرة إلى القرآن واﻷحاديث النبوية إلى جانب روابطه الصوفية مع اثنين من الشيوخ المعروفين، الذين عينهما عرابي في مجلس توجيه الثورة – الشاذلي حسن العدوي، واعظ صوفي وعالم، ومحمد العش (ت 1882) الذي توفي في السجن لدعمه ثورة عرابي الشعبية.[37]

يثبت التاريخ إذًا أن الصوفية كانت دائما ساحة للحشد السياسي، والجهاد المبادر والوقائي، والدفاع عن حق الناس في المعارضة وتأكيد واجبات الحكام. لقد شكلت دائما جزءا مكونا للإسلام السياسي. وتكرس المناهج التكوينية للإخوان المسلمين جهدا كبيرا من أجل التعليم الروحي واﻷخلاقي للأعضاء المنخرطين فيها. وفي وقت مبكر من تطوره عكس المجتمع الصوفي خطا متصلا من الاشتباك الجدلي مع القضايا الاجتماعية-السياسية التي تركز على العدالة والسعي لنيل الحقوق الاجتماعية الاقتصادية والسياسية كموقع مركزي لتطهير الذات وجوهر للصوفية. في نفس الوقت، التركيز البحثي على الزهد كحافز ﻹقامة صوفية ذات طرق/منظمة قد أسهم في إساءة فهم الصوفية على أنها ظاهرة مهادنة وموالية للسلطة، ومن ثم وصف تمظهر وحيد للطرق ومرحلة متأخرة لتطورها في البلدان العربية ما بعد الاستعمار.

بالطبع، يعتبر دور الزهد، والمادية، والسياسة، والحرب، والشريعة موضع جدل في كل من الحالات المذكورة سابقا. فبعض الجماعات الصوفية تلتزم فعلا بالنموذج الذي ترعاه اﻹمارات، ولكن هذا يبقى وجها واحدا، وحتى مرحلة متأخرة للصوفية. ويقارب هيك هذه النقطة قائلا: “ثمة جوانب كثيرة للغاية للصوفية حتى أنه يصعب التعرف عليها جميعا. فعلى سبيل المثال، برغم تركيزها على الخلاص اﻷخروي، فللصوفية أبعاد اجتماعية-سياسية هامة. وقد كان اﻷولياء في اﻹسلام مستشارين وأيضا متحدين للسلاطين، وفي أوقات قدموا مباركتهم للحكم الشرعي، وفي أوقات أخرى أكدوا سلطتهم الروحية فوق القوى المدنية في حينها.”[38]

ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن الصوفية ظاهرة غير قابلة للتصنيف، وكلية، أوحتى غامضة. وقد أعطى جيب وبوين بعض اﻹرشادات بتصنيف الفرق، والقادة، والمجتمعات الصوفية إلى ثلاثة أنواع: (1) طرق علماء الصوفية السنية التي دعمها تاريخيا الملكين نور الدين وصلاح الدين، (2) الصوفية الجهادية على ثغور السواحل والجبال والتي شكلت الزوايا: والتي اتبعت تعليما روحيا وعسكريا للدفاع عن أراضي المسلمين، و (3) الصوفية الروحانية: في مجتمعات محلية ركزت على التصوف المجتمعي/اﻷخلاقي والأدائية الجماعية.[39]

وقد ركز هذا الجزء باﻷحرى على أدوار الصوفية متعدد الأوجه والمنصات في المجتمع وخلال التاريخ كوسيلة ﻹثبات أن ‘الصوفية الحديثة، في صورتها الحالية تمثل جنوحا عن نمط ذو تاريخ طويل من النضال ﻷجل تغيير اجتماعي-سياسي. ويتعامل الجزء الثاني من هذه الورقة مع انزياحات السلطة بين الطرق الصوفية وبين سلطات دولة ما بعد الاستعمار في مصر، وتعتمد على سرديات وملاحظات السوق الشاب النامي الداعم والمتبني للصوفية الحديثة، وتختبر إمكانية إحياء منصات حشد تعتمد على السعي الصوفي اﻷساسي للعدل والحقوق[40]


الحواشي

[1] بصفة عامة تُعرف الصوفية بأنها “بعد نخبوي للإيمان اﻹسلامي، الطريق الروحاني إلى الاتحاد بالروح مع الله.” وتدفع الورقة بمجال التركيز ﻷبعد من ‘الخبرة’ الفردية بالصوفية كبديل لحشد مُسير-روحيا اجتماعيًا وسياسيا بهدف التغيير. وهي تنفي بالدليل التاريخي التناقض المروج له بين الصوفية، على جانب، وبين ‘الجهاد’، والمقاومة/المعارضة السياسية، والدفاع عن الحقوق، والسعي للعدالة والحريات السياسية والمدنية -بصفة رئيسية حماية الحقوق المدنية في الملكية والحياة، على الجانب اﻵخر.[2] S. Vikor, Knut (2017), ‘Sufism and Colonialism’, Cambridge University Library, Downloaded from https:/www.cambridge.org/core. Cornell University Library, p.215, accessed from: https:/www.cambridge.org/core/terms. Link[3] Ibid, pp:216-7.[4] Ibid, p.218.[5] Ibid, p. 222.[6] Bonner, Michael (2006) Jihad in Islamic History, Doctrines and Practice Princeton University Press and Oxford, UK, p.119.[7] ابن الجوزي، جمال الدين أبي الفرج (معاد نشره في 2012)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص 768.[8] Ibid 774.[9] ترد وفاته في ‘البداية والنهاية’ في عام 162 هـ.[10] Bonner, ibid, P. 121, 134.[11] Bonner, ibid.[12] أنظر للمزيد من المعلومات: أسعد الخطيب، “البطولة والفداء عند الصوفية: دراسة تاريخية”، دار التقوى، دمشق، الطبعة الخامسة، ص 63-7.[13] الخطيب، مصدر سابق، ص 70.[14] مقتبس في الخطيب، مصدر سابق، ص 71.[15] المقريزي، “الخطط المقريزية” المجلد الثاني ص 427. متحدثا عن زوايا الصوفية ودورها في تقديم التعليم الروحي والعسكري، مقتبس في الخطيب، ص 83.[16] الخطيب ص 76.[17] الخطيب ص 85.[18] كلاهما مقتبس في الخطيب، مصدر سابق، ص 80.[19] المصدر السابق ص 89-90.[20] المصدر السابق ص 90-117.[21] إسماعيل راضي، “صور من جهاد الصوفية”، مركز اﻹمام الجنيد للأبحاث والدراسات الصوفية، (موقع إلكتروني) آخر مشاهدة بتاريخ 28/01/2019الرابط[22] ص 96، مقتبس في الخطيب ص 120.[23] في الخطيب ص 124.[24] سعاد ماهر، “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون”، المجلس اﻷعلى للشؤون اﻹسلامية، القاهرة، مصر، المجلد الثاني، ص 280.[25] ماهر، مصدر سابق، ص 255، 277.[26] ماهر، المجلد الثاني، ص 280.[27] ماهر، المجلد الثاني، ص 313، والخطيب ص 126.[28] ماهر، المجلد الثالث، ص 23-24.[29] ماهر، المجلد الثاني، ص 308.[30] ماهر، المجلد الخامس، ص 289.للمزيد عن دور علماء الصوفية في مصر المملوكية والعثمانية، أنظر أيضا، إبراهيم محمد إبراهيم (مترجم)، مايكل ونتر، “المجتمع المصري تحت حكم العثمانيين”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 205-280.

عن الحالة المذكورة وتلك المتصلة بالتقاضي والضرائب وتحقيق العدل في مواجهة الحكام إقرأ المزيد في، محمد جلال كشك، “ودخلت الخيل اﻷزهر، اﻷزهر للإعلام العربي، الطبعة الثالثة، 1971، ص 102-105.

[31] وينتر، مصدر سابق، ص 287-8.[32] كشك، مصدر سابق، ص 77.[33] الخطيب، مصدر سابق، ص 194.[34] وينتر، مصدر سابق، ص 296.[35] المصدر السابق.[36] المصدر السابق، ص 297.[37] الخطيب، ص 193-4.[38] Heck, P. (2007) “Sufism – What is it exactly?”, Religion Compass, vol. 1 no.1, p. 150 cited in Muedini, Fait (2015) “Sufism and Anti-colonial Violent Resistance Movements: The Qadiriyya and Sanussi Orders in Algeria and Libya” Open Theology vol.1 p.136[39] A. R. Gibb, Hamilton and Bowen, Harold (1957), “Islamic Society and the West. A Study of the Impact of Western Civilization on Moslem Culture in the Near East” translated by Ahmed Aybas, republished by Dar al-Kutub al-Wataniyya, UAE, vol. 2 p.264.[40] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

(المصدر: المعهد المصري للدراسات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى