كتابات

السياسة الشرعية والأخلاق

بقلم د. أكرم كساب.

لا شك أن الأخلاق من دائرة الثوابت التي يضيق فيها عمل السياسة الشرعية؛ إلا أن مساحة ما يمكن للسياسة الشرعية أن تعمل فيها، ومن ثم فإن من الحقائق التي يجب التسليم بها: أن السياسة لا تكون شرعية إلا إذا انطلقت من الشريعة وعادت إليها، ليس شرطا أن تنطلق بنصوص صريحة، وإنما الشرط أن تدور في فلك نصوصها وروحها ومقاصدها وأهدافها، والشريعة تلزم الساسة والسياسة بالأخلاق، فليست السياسة الشرعية سياسة ميكافلية تبرر غايتها وسيلتها، وإنما الجانب الشرعي يحدد الغاية والأخلاقي منه يحدد الوسيلة (بل هي سياسة مبادئ وقيم، تلتزم بها، ولا تتخلى عنها، ولو في أحلك الظروف، وأحرج الساعات. سواء في علاقة الدولة المسلمة بمواطنيها داخليا، أم في علاقتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات. إن الإسلام يرفض كل الرفض الوسيلة القذرة، ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة… فالخبيث من الوسائل، كالخبيث من الغايات مرفوض، ولا بد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة) مدخل عام لمعرفة الإسلام/ د: يوسف القرضاوي.

ولهذا فإن الأخلاق حاضرة وبقوة في عالم السياسة، حتى إن محمد عبد الله دراز في دراسته الرائعة (دستور الأخلاق في القرآن الكريم) جعل مباحثا كاملا في الفصل الخامس تحدث فيه عن (أخلاق الدولة)، تحدث فيه عن العلاقة بين الرئيس والشعب، وعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول حال السلم وحال الحرب.

إن الأخلاق الكبرى -وكل الأخلاق- التي تنادي بها الفطر السليمة، والشرائع السماوية، لا يمكن أن تغيب في عالم السياسة أبدا، فالعدل والمساوة والإنصاف والأمانة والوفاء والرحمة وما يلحق بذلك من القيم الإسلامية حاضر في عالم السياسة لا يمكن أن ينفك بعيدا عنها..

ألم يقف القرآن معاتبا النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كاد أن يحكم على خصم يهودي بما بين يديه من أدلة وقرائن، فقال له: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} إلى قوله سبحانه: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}(النساء: 105- 113)، يقول (صاحب الظلال): هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً.. إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة، التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين… والإسلام ناشىء في المدينة، ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم، تمثل خطراً حقيقا على تماسك الصف المسلم وتناسقه.. في هذا الوقت الحرج، الخطر، الشديد الخطورة.. كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة، لتنصف رجلاً يهودياً، اتهم ظلماً بسرقة ولتدين الذين تآمروا على اتهامه…. في ظلال القرآن (2/ 751) باختصار.

إن عالم السياسة في الإسلام يرفع شعار {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ}(النساء: 91)، فالوفاء بالعهد خلق من أخلاق الدولة كما أنه خلق من أخلاق أفرادها، ويشير سيد قطب إلى ذلك فيقول في تفسير هذه الآية: ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقاً لما يسمى الآن «مصلحة الدولة» فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقا «لمصلحة الدولة»! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهداً ولا تعاوناً على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب..

وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية فنعم العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام. في ظلال القرآن (4/ 2191).

لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم معليا لقيمة العدل حين كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية فقال مغضبا:”أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” متفق عليه.

لقد جاءت نصوص الشريعة آمرة الناس بالأمانة {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(النساء: 158)، والأمانة هنا كما قرر العلماء بكل معانيها، ومنها الأمانة السياسية، وفيها روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ” رواه البخاري ، وفي المسند عند أحمد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم قوله:” مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلًا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَعْطَى أَحَدًا حِمَى اللهِ فَقَدِ انْتَهَكَ فِي حِمَى اللهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، أَوْ قَالَ: تَبَرَّأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ” رواه أحمد.

وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بدرس عملي، حين أرسل ابن اللتبية، فحاد عن الطريق المستقيم، فعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا» ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ” أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ” ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي.

إنها الأخلاق في عالم السياسة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى