تقارير وإضاءات

الدولة في فكر د. عبد الكريم بكار

إعداد علاء الدين ال رشي

 

غادر بكار بلاده نتيجة موقفه الرافض للتطرف السياسي الذي تزعمه حافظ أسد، في فترة كانت السمة الأساسية في سوريا؛ الاغتيال السياسي والجسدي لكل معارض، فإما أن تطيع أو أن تقتل أو تشرد.. انتقل د. بكار من حمص ومن سوريا إلى المنفى ليكمل مشواره المعرفي.. يعد د. بكار أحد أبرز وجوه النهضة والتربية والفكر الإسلامي في العالم العربي اليوم بعيدا عن الاستنساخ السائد وعن تقمص كل شيء وافد، قدم الدكتور بكار نتاجه المعرفي العميق في هضم متوازن للتراث دون تقديس وفي وعي الواقع دون تزييف.
‎آلية التفكير النوعي لبكار
‎مزج بكار ذلك كله باستصحاب:
‎- العقل.
‎- القرآن وصحيح السنة .
– ‎وعي الواقع .
‎- اجتهادات سابقة ولاحقة دون تنطع أو تسيب.
‎يرى الدكتور بكار أن التاريخ الإسلامي حافل بالثورات على الحكومات وانتفاضات التمرد على النظم السياسية السائدة، فما تكاد الحكومة تتمكن من إخماد ثورة أو حركة احتجاجية حتى تنفجر ثورة جديدة

عاش هذا العالم الأصيل في الخليج العربي وبقي على توجهاته العلمية الوسطية بل واصلها لتصبح أكثر توافقية وتوثيقية وتوفيقية ومعاصرة؛ و سرعان ما بنى لنفسه موقعا علميا متميزا في الجامعات والمنتديات العلمية في الخليج ومن ثم ليعرف بكتابه الشهير “المسلمون بين المواجهة والتحدي”. ‎الدكتور بكار يرى أن المطلوب من العقل المسلم أن يظل في حركة ترددية بين الوحي بوصفه مصدرا للتشريع والتقنين وبين الواقع الذي ستنزل عليه الأحكام وثمرات الاجتهاد.

‎إن العالم المسلم المتخصص والمتمكن من علوم الشريعة مطالب بالاجتهاد في شؤون زمانه كما كان أسلافه من أهل العلم مطالبين بالاجتهاد في شؤون زمانهم، لكن الانحطاط الحضاري يفسد كل شيء، ومن الواضح في هذا السياق أن حركة العقل هي انعكاس لحركة اليد، فحين تكون الحياة العامة موّارة بالتغير والتطور، فإنها تحث العقل على الاجتهاد وتوليد الأحكام التي توفر الغطاء الفقهي وتوفر الفتوى لمعالجة الأوضاع الجديدة).ص١٨

سأتوقف عند فكره السياسي وفقهه الدستوري في محاولة جادة لتقديم مسح معرفي متكامل حول موقفه الراشد في قضايا الحكم والتعامل مع هوية المجتمع.
‎جذور الأزمة الدستورية

‎يعترف الدكتور بكار بأمرين مهمين:
‎١- إن الفقه السياسي أو ما ُيعرف بـ”السياسة الشرعية” ظل على امتداد التاريخ الإسلامي المدماك الأضعف في صرحنا الفقهي الشامخ، وهذا لا يعود إلى جمود الواقع المعيش فحسب، وإنما ظل كذلك لأن تطويره كان كثيرا ما يصطدم برغبات وأوضاع السلطة الزمنية المهيمنة على الفضاء العام، ومنه المجال العلمي والاجتهادي؛ في حين أن‎ الفقه المتعلق بالعبادات مثلا كان طليقا وحرا إلى حد بعيد.

‎٢- التاريخ الإسلامي كان في كثيرمن مراحله زاخرا بالحروب والقلاقل والصراعات والفتن، وذلك للعديد من الأسباب، وهذا أثار مخاوف الفقهاء من الوقوع في الفتن، وانشطار الدول والمجتمعات، مما جعلهم ينظرون لاجتماع الكلمة والتخويف من الفرقة، وفي هذا الإطار تم منح الشرعية لولاية “المتغلب” لكن هذا كان في الحقيقة على حساب تطوير الأساس النظري للنظام السياسي الإسلامي وعلى حساب نقد الإخفاقات السياسية الهائلة التي عانى منها المسلمون في وقت مبكرجدا من تاريخ حضارتنا الزاهية ص ١٩.

الفقه الدستوري والتاريخ والراهن
‎يرى الدكتور بكار أن: (التاريخ الإسلامي حافل بالثورات على الحكومات وانتفاضات التمرد على النظم السياسية السائدة، فما تكاد الحكومة تتمكن من إخماد ثورة أو حركة احتجاجية حتى تنفجر ثورة جديدة في مكان ما من أرض الدولة الإسلامية) ص ٦. ويعلل ذلك فيذهب إلى أن جذر تلك الثورات (يعود إلى الكثير من الأسباب، والتي قد يكون من أهمها: عدم الاهتداء إلى نموذج في إدارة الشأن العام يؤمّن استقرار البلد دون الجورعلى حقوق الناس وكرامتهم. ‎الأرض التي يبسط الحاكم المسلم سلطانه عليها كثيرا ما كانت تتسع بسبب حركة الفتوحات الدائبة، مما جعل تراكم الخبرة السياسية والإدارية في التعامل مع الجماهير غاية في الصعوبة بسبب تغير المعطيات على نحو مستمر) ص ٦.
د. عبد الكريم بكار (مواقع التواصل)

‎يسجل الدكتور ملاحظة عميقة على الواقع العربي والإسلامي بعد الثورات فيبين أن (في السنوات الأخيرة تفجر الوضع السياسي في عدد من الدول العربية، وسقطت أنظمة حكم وقامت أنظمة جديدة، وقد ثار جدل عريض بين قطاع واسع من الشباب والكهول حول شكل الدولة التي ينبغي العمل على إقامتها، وما زال ذلك الجدل محتدما حتى هذه اللحظة، وقد تبين من خلال ما ينشرعلى مواقع التواصل الاجتماعي ضآلة ما لدى معظم الناس من معرفة بأسس الحكم ومبادئه الكبرى وأدواته وأشكاله، بل كثيرا ما يكون ذلك مختلطا ومشوها، وقد رأينا في بعض البلاد من نصب نفسه خليفة للمسلمين من خلال مبايعة بضعة ألوف من الناس له، كما رأينا من يعملون على إنشاء إمارة إسلامية على رقعة ضيقة من الأرض، وهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على حاجة الناس إلى قدر كبير من الثقافة السياسية المبصرة حتى لا يقتتلوا، وحتى لا يدمروا أوطانهم ومقدرات بلادهم) ص٦.

‎يرى د. بكار أن الإصلاح أساسه الفرد وأن نواة الدولة الحرة هي الفرد الصالح ولذلك يؤكد على: 

النظام السياسي المحَكم والمتطور هو الذي يحدد الواجبات والمسؤوليات والحقوق للسلطة، وللشعب، وهو الذي يتيح التخلص من الحكومة السيئة أو العاجزة من غير إراقة دماء

‎ 1- عدم الانجرار إلى معارك توهن القوة وتزيد من تعقيد الأمور وتفويت الفرص: (ألا نعتبر معركة المرجعية الدستورية هي المعركة الفاصلة التي ليس بعدها أي معركة، فهذا غير صحيح، فنحن رأينا دولا عديدة تنص دساتيرها على أن دين الدولة الإسلام وعلى كون الشريعة هي المصدر الأساسي للتقنين، ومع هذا فقضاؤها فاسد والحقوق فيها مضيعة، وحالها الحضارية يرثى لها، ولا أرغب أن يفهم من هذا التهاون في أمر الدستور، فهذا مما لا يقوله أي متابع للشأن السياسي والحقوقي في أي بلد، لكن الذي أود قوله هو أن المرجعية الحقيقية والأساسية للناس هي معتقداتهم ونظرتهم للحياة بالإضافة إلى الراسخ من طموحاتهم وتطلعاتهم، كما أن لما يتواطأ عليه المجتمع وما ينشأ عليه الصغار من عادات وتقاليد أهمية بالغة في صلاح المجتمع وفساده، ويتضح من هذا أن المعركة الأساسية وبعيدة المدى ليست معركة الدستور، وإنما معركة تصحيح العقائد وتربية النشء على آداب الإسلام وترشيد الأعراف الاجتماعية السائدة، وصياغة الطموحات والتوجهات المتشبعة بالإيمان والمنضبطة بالقيم الإسلامية الرفيعة) ص ١٤ .

2-ضرورة تفعيل المسؤولية الذاتية حيث يرفض تعليق العمل بالشريعة بحجة فقدان الدولة.
‎ يقول د. بكار (تعليق تطبيق الشريعة بحكومة إسلامية هو تعليق غير سديد لأنه في الحقيقة يؤدي إلى اختزال الشريعة إلى عشر ما هي عليه، كما أنه يشكل نوعا من الفرار من المسؤولية الأخلاقية والشرعية عن تطبيق الشريعة، وهذا كله يعني أن تطبيق معظم أحكام الشريعة لا يتوقف على وجود حكومة إسلامية، لكنه يعني أن وجود حكومة إسلامية هو شيء جيد) ثم يتساءل (لكنه لا يعني تطبيقا للشريعة في كل الأحوال) ص ١٣

يُبين د. بكار؛ أن الدولة التي تدعي الإسلامية وتكون قاصرة في فهم دورها وواجباتها ستجر الويلات (إذ إن التاريخ يعلمنا أن سوء تعامل الحكومة التي تدعي الالتزام بالدين أوتصطبغ بصبغته ظاهرامع الناس، قد يؤدي إلى شيوع الإلحاد والتمرد على أحكام الدين وآدابه، وذلك أن الناس حين يقهرون سياسيا من جهة ما فإنهم يردون عليها من خلال محاربة القيم التي تؤمن بها، وهذا شيء خطير للغاية!) ص١٣. ‎(فالنظام السياسي المحَكم والمتطور هو الذي يحدد الواجبات والمسؤوليات والحقوق للسلطة، وللشعب، وهو الذي يتيح التخلص من الحكومة السيئة أو العاجزة من غير إراقة دماء). ص ٢٢

3- فتح باب الاجتهاد والتجديد في الفقه الدستوري؛ حيث نراه يمضي في تأكيد أن دائرة الاجتهاد في الإسلام تضيق حين تكثر النصوص، وتتسع حين تقل النصوص، وهذا في الحقيقة من عظمة هذا الدين وكماله. والشريعة في بعض الأحيان تصمت صمتا تاما تجاه بعض الأمورالمتغيرة، فلا تسن أي تشريع، وذلك من أجل إتاحة الفرصة الكاملة لعقولنا كي تجتهد وتبدع وتبتكر، أي أن نبحث الخلاف بروح متسامحة وعلى اعتقاد أن الصواب قد يكون مع المخالف على ما أَّصله الإمام الكبير(الشافعي) حين قال: “مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب”. ومنها أيضا: أن نعبر عن آرائنا بصيغة تفيد الترجيح والاجتهاد بعيدا عن القطع والجزم.
(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى