كتابات

الأدب مع المخالف

بقلم د. ياسر عبد التواب

يجب على الداعية المنصف أن يتأدب مع المخالفين وأن يتسع صدره لانتقاداتهم و التي قد لا تكون منصفة بدورها، فهم وإن عصوا الله تعالى فيه فلا يبرر ذلك أن نبادلهم معصية بأخرى.

وقد بلغ الإنصاف بالإمام ابن تيمية أن يتسع صدره على من كفره وبدعه وفسقه فيقول في كلام بديع: وَأَنَا فِي سِعَةِ صَدْرٍ لِمَنْ يُخَالِفُنِي فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ أَوْ تَفْسِيقٍ أَوْ افْتِرَاءٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ. فَأَنَا لَا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ. بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. وَذَلِكَ أَنَّك مَا جَزَيْت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}

ومن الأدب مع المخالفين أن يتورع المسلم عن لمزه أو الإساءة إليه بأي صورة من الصور ولا سيما إن كان ذلك يجره إلى التقول عليه بغير علم أو رميه بما ليس فيه فإن صفة المؤمنين هي أن ينزهوا أنفسهم عن الصيد في الماء العكر واستغلال الفرص للإساءة للمخالفين.

ويأتينا الدرس هنا من النساء وقد اعتدنا في دنيا النساء على التخليط وترديد الإشاعات والنيل من المخالفات عن طريق الغيبة والوقوع في الأعراض ..لكن هذا المثل السامق يكشف لنا عن طيب معدن المرأة المسلمة في موقف زينب بنت جحش من محنة أم المؤمنين عائشة الطاهرة المبرأة لما قيل في حقها ما هي بريئة منه وكانت محنة للجميع فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة ترمى في أعز ما تعتز به. ترمى في شرفها. وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع وترمى في وفائها. وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير.. ثم ترمى في إيمانها. وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة. وهي زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

ها هي ذي ترمى، وهي بريئة غارة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئاً؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحي يتلبث، لحكمة يريدها الله، شهراً كاملاً؛ وهي في مثل هذا العذاب.

ولقد سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، في شأنها قبل نزول القرآن ببراءتها فكان ممن سألهم زوجه السيدة زينب بنت جحش  فماذا كان ردها؟

قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينبَ بنت جحش -زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم -، عن أمري: يا زينب، ما علمت، أوما رأيت [أو ما بلغك]؟ فقالت يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ إلا خيرًا. قالت عائشة: وهي التي كانت تُسَاميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله تعالى بالورع.

وهكذا المؤمنين في غيرتهم أو خلافاتهم قوم أطهار يطلبون المعاذير ويبعدون عن أنفسهم قول السوء وظن السوء.

ويدركون حجم الأذى الذي قد تمثله كلمة في غير موضعها ولذا قيل إن المؤمن لسانه من وراء قلبه إن تكلم بكلمة مرت على قلبه فإن أنكرها تورع عنها وإن أقرها تكلم بها والمنافق عكس ذلك يسعى بالسوء ويحب الإساءة وهذا ما وصفه الله تعالى متوعدا أولئك الذين يرمون الناس بما ليس فيهم فقال: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (112) سورة النساء.

وهذا ما قاله أيضا  الرسول الكريم فيما ما صح في الحديث: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”. وفي الحديث الآخر:”إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر” متفق عليه فهو فاجر في خصومته يرمي الآخرين بما ليس فيهم وعليه كل ما توعد به الله تعالى المنافقين إلا أن يتوب.

ومن الأدب مع من يخالفك عدم الإلزام بما لم يلتزم المخالف فمن الإنصاف عدم تقويل الشخص بما لم يقله أو إلزامه بما يلتزم به وعدم تحميله ما لم يتحمله وإزالة اللبس عن كلامه وحمل كلامه على ما يريد ولو استطاع يحمله على أحسن المحامل فذاك حسن، ونبراسنا في هذا ما جاء في الحديث عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ  قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنْ السِّلَاحِ قَالَ أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ).

فمن الإنصاف أن لا نسيء الظن بغير بينة واضحة؛ بل يجب أن نكف في حال اللبس حتى تكون الصورة واضحة جلية، عن ابن عباس أن (رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، فقال: هل ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد، أو دع).

يقول ابن القيم رحمه الله: (وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ، كما قيل في هذا المعنى:

تقول هذا جنى النحل تمدحه:: وان نشأ قلت ذا قيء الزنابير

مدحا وذما وما جاوزت وصفهما:: والحق قد يعتريه سوء تعبير

فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق او باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ، ثم أعط النظر حقه ناظرا بعين الإنصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة ،، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه ،، وما سلم من هذا إلا من اراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق وقد قيل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ::: كما أن عين السخط تبدي المساويا

وقال آخر:

نظروا بعين عداوة لو أنها ::: عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا

 ومن الأدب مع المخالف الإنصاف في نقل الشبهات عن أهلها والرد عليها : ونقصد بذلك أن المسلم إن احتاج أن ينقل شبهة قد انتشرت واستشرت فإنه لا بد ان ينقلها بأمانة فلا يغفل بعض مواطنها وليعلم بأن على الحق نورا وأن عليه ان يبحث عن الحق ويتعب نفسه في الاستقصاء ليقوم بما هو واجب عليه في الرد على الشبهات أما في حال الخوف من عدم القدرة على أداء هذا الواجب كما ينبغي فليحل الأمر لغيره حتى لا يسيء من حيث لا يدري.

قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (80) سورة البقرة.. ومن ذلك قوله تعالى {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} (116) سورة البقرة.. وقوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (81) سورة التوبة.. وقوله تعالى :{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } (15) سورة فصلت.

المصدر: صوت الأمة الحر.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى