ولادة البتول مريم وحفظ الله تعالى لها من وساوس الشيطان ونزعاته

ولادة البتول مريم وحفظ الله تعالى لها من وساوس الشيطان ونزعاته

 

بقلم د. علي الصلابي

 

ذكر الله سبحانه وتعالى نشأة عيسى ببيان نشأة أمه، بياناً لبطولات ما يعتقده النصارى فيه من أنه ابن الله تعالى عن ذلك، وأسلوب القرآن عنده رد وإبطال عقيدة، أن يبين أصلها فينقضه لتنقض هي تبعاً، فالجدال في فروع أصولها خاطئة لا يوصل إلى حق، فيزعمون أن عيسى ابن الله، تعالى الله، وعيسى له أم وأمه مريم، ومريم لها أم وأب، ولهما أمهات وآباء إلى آدم، فمن أين أتت بنوته لله؟ قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ (آل عمران: 35- 36).

ولذا ذكر الله الزوجية بين امرأة عمران وعمران، فقال: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ) إشارة إلى الأبوة والأمومة لمريم، وذكر الله اسم مريم، ولم يذكر اسم أمها؛ لأن نسب عيسى يرجع إلى مريم ثم أبيها، لا يرجع إلى أمها، والناس تنسب إلى آبائهم، واسم مريم: حنة، فعيسى هو ابن مريم بنت عمران، ولا يقال: عيسى ابن مريم بنت حنّة، وإنها ذكرت مريم، لأن عيسى نسب إليها لعدم الأب، ولما كان لمريم أب تركت الأم حنة وذكر الأب عمران، ولما كانت أم مريم لا أثر لها في نسب عيسى قال (امرأة عمران). وقد ذكر الله الأحوال التي اكتنفت الحمل بالبتول (مريم) وولادتها وتربيتها، ويلاحظ القارئ أن العبادة والنسك أظلاها وهي جنين في بطن أمها إلى أن بلغت مبلغ النساء واصطفاها الله لأمر جليل خطير، فأمها وهي حامل بها نذرت ما في بطنها لما تحرك الحمل في أحشائها أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، منقطعاً لعبادته وخدمة بيت المقدس، والمحرر: هو الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا ولا يشغله شاغل عن عبادة الله تعالى.

فقد أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها منذوراً لله، موقوفاً على عبادة الله خالصاً لدين الله، محرراً من كل قيد يقيّده في هذه الحياة، وأرادت لمولودها أن يحقق الحرية الحقيقية، وذلك بتحريره من قيود الذل والاستعباد المعنوي وأن لا يتقيد بالأهواء والشهوات والملذات، وأن لا تستعبده الدنيا وما فيها، وأن لا ينشغل بما فيها عما أوجبه الله عليه وكلفه به، وأن يستعلي على كل القيود التي تقيده وتعيق عبادته، فإن كان المؤمن هكذا فهو الحر المحرر الخالص لله، وإن لم يكن كذلك فهو عبد الدنيا والشهوة وأسير الهوى والضرورة.

وهذه القصة عن جدة عيسى عليه السلام من أمه تكشف لنا عن قلب (امرأة عمران) أم مريم، وما يعمره من إيمان ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك، وهو الجنين الذي تحمله في بطنها خالصاً لربها، محرراً من كل قيد ومن كل شرك، ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه، والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موحٍ، فما يتحرر حقاً إلا من يخلص لله كله ويفرّ إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل قيمة، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده فهذا هو التحرر إذن، وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية.

فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه أو في مجريات حياته أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله. فالصورة الوحيدة للتحرر هي تحقيق التوحيد والعبادة الخالصة لله، كما بينت جدة عيسى عليه السلام في مناجاته ودعائها للسميع العليم. وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران، بأن يتقبل ربها منها نذرها -وهو فلذة كبدها- ينمّ عن التوجه الخالص لله وبكليتها والتحرر من كل قيد، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه، (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). “إنك أنت السميع”؛ لجميع المسموعات التي من جملتها تضرعي ودعائي، “العليم”؛ لكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميري لا غير.

ولادة امرأة عمران بأنثى:

“فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى” لقد كانت تنتظر ولداً ذكراً فالنذر للمعابد لم يكن معروفاً إلا للصبيان، ليخدموا الهيكل وينقطعوا للعبادة والتبتل، ولكن ها هي ذي نجدها أنثى فتتوجه إلى ربها في دعاء حزين (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى)، فهي تتجه إلى ربها بما وجدت وكأنها تعتذر أن لم يكن لها ولد ذكر ينهض بالمهمة. “والله أعلم بما وضعت” والهدف من هذه الجملة التأكيد على علم الله بما وضعت وعلم الله بما في بطنها عندما نذرت نذرها، وعلم الله بما ستحمل وتضع قبل أن تحمل وتضع. إن الله هو الذي قدر أن يرزقها أنثى، لحكمة يريدها وهو العالم بذلك وعلم الله شامل لكل شيء محيط بكل شيء، يعلم الأشياء قبل وقوعها، ويوجدها وفق علمه بها، فمعنى جملة “والله أعلم بما وضعت”: الله أعلم بالمولود الذي وضعته، وأنه أنثى، وأنه جاء على غير ما توقعته وأرادته.

“وليس الذكر كالأنثى” وهي أيضاً ليست من كلام امرأة عمران وإنما هي تقرير لحقيقة قاطعة أراد الله بيانها في هذا الموضوع، وهذه الجملة خاصة بالسياق الذي وردت فيه وهو نذر ما في بطن امرأة عمران للعبادة والخدمة والوقف، والمعنى: ليس الذكر كالأنثى في هذا المجال، لأن خدمة بيت الله، والتفرغ لعبادة الله، في بيت الله لا يتساوى فيه الذكر والأنثى، فهو يحتاج إلى مزيد من الجهد، والقوة والجلد والتحمّل والصبر، يبذل فيه صاحبه كثيراً من الطاقة البدنية. وليس الذكر كالأنثى في هذا المجال، فالأنثى قد لا تقدر على أداء ذلك بصورة جيدة، فالذكر أكثر قوة وطاقة وجلداً من الأنثى.

المولودة اسمها مريم:

“وإني سميتها” و(مريم) اسم الأنثى الوحيد المذكور في القرآن، أما النساء الأخريات فإنهن يذكرن بألقابهن وكناهن فيقال (أم موسى) و(أخت موسى) و(امرأة فرعون) وهكذا، ومعنى (مريم) في لغتهم -كما جاء- العابدة وهي تتمنى أن تكون وليدتها عابدة خاشعة لرب العالمين وإذا كانت سمتها ساعة ولادتها بهذا الاسم، فهذا يدلُّ على امتلائها ووعيها بالغاية التي تريدها من مولودها منذ أن كانت تحنُّ للولد وتتضرع إلى الله أن يرزقها إياه، ولهذا عجلت وأعلنت اسمها تفاؤلاً وأملاً.

حفظ الله تعالى لمريم من وساوس الشيطان ونزعاته:

“وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم”؛ وما زال الحديث موصولاً عن مناجاة امرأة عمران لربها وتضرعها إليه أن يقبل وليدتها ويجعلها مباركة، ويحفظها من الشيطان الرجيم، فالمولى سبحانه وتعالى خير حافظ، وهو سبحانه أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، وفي هذه الدعوة التي توجهت بها امرأة عمران لربها إشارة إلى حرصها ورجائها في أن يحفظ الله لها بنتها ويرعاها حتى تشب وتكبر وتكون لها ذرية، ولقد استجاب الله تعالى لها.

وقد استجاب الله دعاء امرأة عمران فأعاذ مريم من الشيطان الرجيم، وأعاذ ذريتها -ابنها عيسى- من الشيطان الرجيم أيضاً، لم يكن للشيطان سبيل لمريم وابنها عيسى، ولم يكن له سلطان عليهما، فحفظها الله من وساوسه ونزعاته، بل إنه لم يمسّ مريم حين ولادتها، ولم يمس عيسى أيضاً حين ولادته، وصرح بهذه الحقيقة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد قال: “ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسّ الشيطان غير مريم وابنها”، ثم قرأ أبو هريرة راوي الحديث قول الله: “وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم” (البخاري، رقم 3431 –  مسلم، رقم 2366).

————————————————————————————————————————-

مراجــع المقال:

  1. علي محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام الحقيقة الكاملة، 2019م، ص. ص57 -63.
  2. سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط32 2003 م، 1/392.
  3. صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1998م، 4/ 175 -180.
  4. عبد العزيز الطريفي، التفسير والبيان لأحكام القرآن، مكتبة دتر المنهاج، الرياض، ط1 2017م، 2/582.
  5. فاروق حمادة، آباء وأبناء ملامح تربوية في القرآن الكريم، دار القلم، دمشق، ط1 1997م، ص 235.
  6.  القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة الرسالة، بيروت. لبنان، ط1، 2006م، ص 4/66.

 

 

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى