كتابات مختارة

هل نخدم الدين أم نستخدمه؟

بقلم مدحت القصراوي

تشفق على نفسك وإخوانك إن قمتَ بعمل وبذلت جهدًا، قد يكون حينها خالصًا، لكن لا تصبر النفسُ بألاعيبها وشهواتها حتى تتعجَّلَ الأجرَ وتَقصُر نظرَها على الدنيا لتحصُلَ على شهوة عاجلة، فتُحبط عملَها الذي قد يكون انعقد أجرُه في السماء، وتنفيه بعد ثبوته.

وهذا من أخبث مداخل الشيطان الذي يأتي بعد انعقاد العمل وتمامه، وبَذْل الجهد واستقراره، ثم في لحظة يتسرَّب إلى نقطة ضعف في نفسك، فينسف العمل المنعقد والأجر المكتوب، وكثيرًا ما يَغفُل الناسُ عن محبطات العمل بعد تمامه.

فمن المحبِطات اللاحقة المنُّ والأذى، ومنها العُجب والإدلال بالعمل على الله تعالى، ومنها الرياء اللاحق للعمل، وهو غير المقارن للعمل، ومنها تعجُّل الأجر، وطلب التعظيم والرياسة، والحفاظ على المكانة، وتقديم الكرسي…

ومن الأمثلة العملية المباشرة والصارخة: رجلٌ ينشر دعاءً له أو صلاة أو غيرها، ويقول: هذه صلاتي وإمامتي أو خطبتي بالناس، هذا صوتي… حتى تكاد يُخيَّل إليك أنه سيقول: (لاحظ الخشوع والتأثر والتأثير)! يَتيه بنفسه حيث لا يرى أحدًا سواه.

أصوات نديَّةٌ بالقرآن تطلب (الميكروفون) الخارجيَّ، واتساعَ الرقعة السكنية التي تستمع إليه! فإذا بالقرآن مطيةٌ من أجْل إبراز جمال الصوت وبروز شخص الإنسان، وليس لتوصيل آيات الله للخلق ليهتدوا بها وليقيم حجة الله تعالى.

خطيبٌ حقَّقَ نوعًا من الشهرة، وكان مؤثرًا في جمهور جيد، يقول للبعض: ألم تستمع إليَّ؟ أنا الشيخ فلان! لا بد أن تأتيَ وتستمع إليَّ.

آخَر بعد عُمر من الدعوة وبيان الحق، يطلب من التعظيم ومن التقديم جزاءَ ما قدَّم في سالف العمر؛ فيُطالِب الناسَ بموجب هذا التاريخ، من التعظيم والعرفان بالجميل! وعلامةُ هذا انكسارُ قلبه إذا لم يُقدَّم حيث يَنتظِر.

إذا تدبرتَ الأمر، وجدت أن العبد بين أمرين: إما أنه كان قد طلبَ شهوةَ نفسه مُقدَّمًا منذ البداية، وكانت الطاعةُ الظاهرة مطيةً لنيل مطالبَ دنيويةٍ خسيسة.

وإما أنه كان مخلِصًا حين العمل وقد قهر شهوتَه واستحضر الإخلاصَ، ثم غلبَتْه شهوةُ الظهور بعد ذلك، فأكل بعمله، وتعجَّل أجرَه، واستخدمه للحصول على غرض عاجل.

وهذا ما هو إلا امتطاءٌ للطاعة الظاهرة للوصول إلى أغراض خاصة، فيأكل الشخص بدينه، أو يصل به لشهرة، أو يحصل به على مال، أو ما هو أدنى! الطاعةُ هنا خادمة لأغراض الناس ومستخدَمةٌ لشهواتهم.

وتستطيعُ بسهولة أن ترى قبحَ هذه الأعمال، وقبحَ أحوال أصحابها، وما تورثه من قبحٍ يبدو في وجوه من يمتطي الطاعة الظاهرة ليتوصل إلى غرضٍ دنيويٍّ واضح؛ فيفقد العملُ رُوحَه وبرَكته وربانيَّتَه، ويصبح هذا العامل أحدَ المزاحمِين في سوق الدنيا على بضاعتها؛ لكنه يتَقَنَّع بمظهر طُلاب الآخرة، وهذا أشدُّ.

إنني أُذكِّر نفسي وإخواني جميعًا أنه لا جزاءَ محضًا في الدنيا، حتى ما يُكرم الله تعالى به الصالحين من محبة في قلوب الخلق، أو اتباع واحترام، أو شهرة، أو غير ذلك… هو ليس جزاءً محضًا؛ بل هو جزاء مَشُوب بالتكليف، وسيبقى التكليفُ حتى تخرج الروح من الأجساد، بل أعظم من هذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يُشيرُ إلى أن الكرامة (الخارقة) التي يُعطاها بعضُ العُبَّاد هي من جنس العطاء الدنيوي، وقد لا يُعطاها البعضُ لشدة يقينه؛ فيستغني به، وقد يُعطاها البعض فتكون له فتنةً لو لم يُحسن استخدامها والتعبد بها.

فالله تعالى سيسألنا عن هذه الشهرة وعن هؤلاء الأتباع وعن ثناء الناس، فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل أثنى على أخيه وزكَّاه: ((ويلك! قطعتَ عُنقَ أخيك – ثلاثًا))، ولما ندبَتْ زوجةُ أحد الصحابة زوجَها في إغماءة له في مرضه فقالتْ: واكذا واكذا! (تعدِّد عليه)، فلما أفاق قال لها: ما قلتِ شيئًا إلا قيل لي: أنت كذاك؟

واللهُ تعالى سيسألنا عن مقاصدنا في العمل، وعن إخلاصه والحفاظ على تجرده لله تعالى، أو أكْلِنا به ثمنًا قليلًا وغرضًا زائلًا.

إن ما يجبُ هو أن يكون طلبُنا من الناس.. فقط هدايتَهم؛ ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 57].

فاهتداء الناس وطاعتهم لربهم هو فقط جزاءُ المؤمن، وهو جزاء النفوس الشريفة؛ ومن هنا قال بعضُ السلف: (وددتُ لو أطاع الناسُ ربَّهم وأني كنتُ عبدًا مملوكًا!)؛ يعني لو كان الثمن أن يكون عبدًا مملوكًا في مقابل أن يُطيع الناس ربهم، لَفعَل، بل كان يتمنى هذا!

أما الجزاء المحض، ففي هذا الموطن: ﴿ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ﴾ [يونس: 30]، ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 185]، ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾ [الزلزلة: 6].

فمن يستخدم ظاهرَ الطاعة ليصلَ لشهوة مُحتقَرة، فلْيتقِ الله، وإن أراد تحصيلها فليس بما يبدو أنه طلبٌ للآخرة، فطاعة الله تعالى توصلك إلى أغراض أعلى وأجَلَّ.. إلى مرافقة النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، فلا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

إننا نقصد أمرًا غير ما يدَّعي العلمانيون أن مَن طلبَ إقامة الشريعة فهو يُتاجر بالدين؛ فهي حُجتهم لردِّ دين الله تعالى وأحكامه، واتِّهام المسلمين العاملين لإقامة الدين، لكن ما نقصده هنا هو التحذيرُ من تَسلُّل النفوس لأهواءٍ عكس ما يُظهره العمل.

فمَن أخلصَ في عمله ورجا أن يكون قد كُتِب له أجرُه، فلْيتقِ الله ولا ينسفه هباءً منثورًا، ولا ينقض الغزل من بعد إحكامه.

ولْنحذرْ تَسلُّلَ الشهوات، وخبثَ الشياطين، وإهانةَ الطاعات الظاهرة، والاستئكالَ بها، والاستخدامَ الخبيث لها، وامتطاءَ النفوس للرسالة النفيسة في أغراض لا قيمة لها… والله تعالى الهادي والعاصم.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى