تقارير وإضاءات

نساء الإيغور.. صوت المضطهدين المدوي الذي لا تريدك الصين أن تسمعه

نساء الإيغور.. صوت المضطهدين المدوي الذي لا تريدك الصين أن تسمعه

إعداد ميرفت عوف

في عام 2016، منح برنامج القيادة للزوار الدوليين المرموق (IVLP) التابع لوزارة الخارجية الأميركية فرصة نادرة لطالبة القانون الإيغورية بجامعة هارفارد ريهان أسات، وذلك عندما سمح لشقيقها الأكبر، إيكبار، بالقدوم من شينجيانغ والمشاركة في البرنامج، حيث كان حضور الشقيق كافيا لانتزاع الفتاة -ولو لفترة قصيرة- من غُربتها، ومنحها فاصلا من البهجة التي جلبتها أحاديث الشقيقين الشائقة عن الأهل والأقارب والأحلام والطموحات.

 

بعد انتهاء وقت البرنامج، وحلول موعد عودة إيكبار إلى موطنه، لم يُخفِّف من وحشة ريهان سوى وعد شقيقها بأنه سيعود مع والديْهما لحضور حفل تخرجها كونها أول طالبة أويغورية تُنهي دراستها للحقوق في هارفارد، لكن إيكبار لم يكن يحلم في أبشع كوابيسه بالمصير الذي ينتظره في شينجيانغ، فبمجرد وصوله إلى مسقط رأسه، قامت السلطات الصينية باعتقاله والزج به في مراكز الاحتجاز التي تُكدِّس الصين داخلها أكثر من مليون شخص من أبناء عِرقية الإيغور، وبعد أن قضى سنوات قيد الاعتقال، حُكم عليه مطلع عام 2020 بالسجن 15 عاما بتهمة “التحريض على الكراهية العِرقية والتمييز العِرقي”.

 

على مدار هذه السنوات، وجدت المحامية الإيغورية الشابة نفسها أمام تحدٍّ كبير، حيث كان عليها البحث عن طريقة تُناصر بها شقيقها دون أن تضر بوالديها اللذين لا يزالان يعيشان في الإقليم، وبالكاد يُجريان اتصالا قصيرا معها كل فترة خوفا مما قد ينالهما من بطش الحكومة الصينية، لكن ريهان قرَّرت التحلي بالشجاعة في العام الماضي، مُدشِّنةً حملة للإفراج عن شقيقها بعدما روت قصة معاناة عائلتها لأول مرة في مؤتمر هارفارد للقانون.

لم تكن ريهان أول امرأة أو شابة من الإيغور تخوض هذا الاختيار الصعب وتُقرِّر ترسيخ جهودها لفضح ممارسات الحكومة الصينية والانتهاكات البشعة المُرتكبة في معسكرات شينجيانغ، لكنها انضمت إلى مجتمع بات يضم اليوم العشرات من نساء الأويغور اللواتي تمكنَّ من الفرار من الصين واخترن ألا يصمتن عن البوح بوقائع مروعة تعرَّضن لها بوصفهن ضحايا وشهود، ففيما يتعرَّض الجميع داخل معسكرات الاحتجاز إلى المعاملة السيئة والحرمان، تعاني النساء معاناة إضافية من جرائم الاغتصاب المُمنهج والإذلال الجنسي التي يمارسها الصينيون تحت ذريعة مواجهة التطرُّف الديني.

قامت بعض هؤلاء النسوة بالإدلاء بشهاداتهن أمام الكونغرس الأميركي والأمم المتحدة، فيما تحدَّثت أخريات إلى وسائل الإعلام لخلق زخم للمقاومة، وهناك مَن اخترن تدوين تجاربهن المؤلمة في كتب أو مذكرات شخصية مثل غلبهار هايتيواجي، اللاجئة الإيغورية المقيمة في فرنسا التي حكت تجربتها في كتاب بعنوان “الناجية من الجولاج”، نسبة إلى المعتقل الصيني الذي احتُجِزت فيه.

 

على مدار التاريخ، تمتعت نساء الإيغور بوضع مساوٍ للرجال، بل إنه كان يفوقهم في بعض الأحيان، فنساء الشرق الأقصى، بمَن في ذلك نساء شينجيانغ، كُنَّ دوما أوصياء على أنفسهن، وهي مزية حُرمت منها النساء في الكثير من الدول والمناطق الأكثر رفاهية. لذلك، حين شرعت حكومة ماو تسي تونغ الصينية إبان الثورة الثقافية في فرض عقيدتها الشيوعية بالقوة على الأقليات في البلاد، وقفت الهوية الثقافية الفريدة للإيغور حاجزا أمام نجاح تلك السياسة القسرية، حيث هبَّت النساء لحماية ثقافة الإقليم وعاداته وتقاليده ومظاهر الحياة الدينية فيه، وكُنَّ في طليعة مقاومة الميول المركزية للحكومة الصينية، التي استهدفت الهوية الثقافية الثرية لسكان الإقليم ذي الغالبية المسلمة، وهو ما جعلهن ينلْن نصيبا وافرا من القمع.

 

وحتى مع صدور قانون الزواج الجديد في الصين عام 1979، الذي فُرِضت بموجبه سياسة الطفل الأوحد على جميع الأُسر الصينية، كانت نساء الإيغور قادرات على الحفاظ على معدلات مواليد مستقرة، وذلك بفضل قانون تنظيم الأسرة الخاص الذي أصدرته سلطات شينجيانغ عام 1981 بموجب سلطة الحكم الذاتي، حيث كان يحق للإيغوريين الذين يعيشون في المناطق الحضرية إنجاب طفلين، بينما مُنح قاطنو المناطق الريفية حق إنجاب ثلاثة أطفال.

 

ونتيجة لذلك، بدأ الوضع الديمغرافي والتمدد السكاني في الإقليم يُثير مخاوف السلطات في بكين، لتشرع في تطبيق سلسلة من الإجراءات القسرية تهدف إلى إخضاع الأقليات العِرقية في البلاد لسياساتها المركزية، فمنذ مطلع التسعينيات تقريبا، بثَّ الحزب الشيوعي الصيني العديد مما سُمِّي بحملات مناهضة الانفصالية التي هدفت إلى إخماد بوادر الاضطرابات، لكن النهج الصيني اتخذ منحى أكثر قسوة بكثير مع صعود الرئيس شي جين بينغ، وما صاحب ذلك من انعطاف متزايد للصين نحو الحكم الأوتوقراطي، وتغير النظرة الحكومية إلى إقليم شينجيانغ بوصفه محطة مهمة في مبادرة الحزام والطريق الحيوية.

خلال السنوات الأربعة الماضية، أعطى الرئيس الصيني الضوء الأخضر لشن حملة قمع غير مسبوق تحت ذريعة مكافحة التطرف الديني في الإقليم، بمساعدة حزمة من القوانين الجديدة التي صُمِّمت لفرض قيود على حياة الإيغور، وكان العدد الأكبر من هذه القوانين يُركِّز على تغيير الهوية الثقافية وأنماط الحياة الاجتماعية للمجتمعات الإيغورية ما جعلها تستهدف النساء مباشرة، مثل سياسات التعقيم القسري والغرامات الباهظة المضاعفة التي فُرِضت على الأُسر المخالفة لسياسة الطفل الأوحد التي زُجَّ بموجبها مئات الآلاف من الأشخاص في السجون والمعسكرات، ناهيك بإجبار النساء على الزواج الجبري من رجال الهان، وأخيرا وليس آخرا، هناك برنامج الاقتران المثير للجدل الذي نشرت الصين بموجبه أكثر من مليون عامل حكومي في غرف معيشة الأقليات العِرقية ومناطق تناول الطعام وأماكن صلاة المسلمين وحفلات الزفاف والجنازات والمناسبات العامة الخاصة بهدف التأكُّد من التزام الأُسر المسلمة في الإقليم بسياسات تغيير الهوية المفروضة من قِبَل النظام الصيني.

 

غالبا ما تحكي النساء الإيغوريات قصصا مروعة حول القمع الحكومي، ومنها على سبيل المثال ما حَكَته السيدة العشرينية تورسوناي زياودون حول ما أصابها بعد عودتها إلى محل إقامتها في إقليم شينجيانغ بصحبة زوجها، بعد أن أمضيا خمس سنوات عمل في كازاخستان، فبمجرد وصولهما إلى الإقليم، سارعت الحكومة الصينية لاستجواب الزوجين ومصادرة جوازَيْ سفرهما، قبل أن تحتجزهما لفترة مع مجموعة أخرى من المواطنين الإيغور.

فيما بعد، أُطلق سراح الزوجين لكن لم يُسمح سوى للزوج بالسفر إلى كازاخستان، إذ تتعمَّد الحكومة الصينية عدم السماح للعائلات بالمغادرة إلى الخارج لثني مَن ينالون حريتهم عن الحديث حول ما تعرَّضوا له وما يكابده رفاقهم من مآسٍ، لكن محنة العائلة لم تقف عند هذا الحد، حيث أعادت السلطات اعتقال زياودون في مارس/آذار 2018، واقتادتها بصحبة مجموعة من النسوة إلى معسكر للاحتجاز، وقبل توزيعهن على الغرف أُجبرن على خلع حجابهن وجُرِّدن من ملابسهن وانتُزعت منهن الأقراط الذهبية، وخلال الشهرين الأولين من الاعتقال، أُجبرت جميع النساء المعتقلات على الخضوع لبرامج الدعاية الشيوعية الذي تُطلق عليه الحكومة الصينية اسما مُلطَّفا هو “برنامج التحوُّل من خلال التعلُّم”.

 

لكن الرعب الحقيقي كان يحدث في الليل، مع اقتراب أصوات خُطى الرجال المُلثمين من حجرات النساء، ومزالج الأبواب التي تُفتح بعنف، ليدخل منها السجانون لاصطحاب الفتيات عنوة في رحلة مظلمة غالبا ما كُنَّ يعدْن منها بوجه غير الذي ذهبن به. وقد كان على “زياودون” أن تختبر بنفسها تلك التجربة القاسية في إحدى ليالي شهر مايو/أيار 2018، حين جاء رجل مُلثم لاصطحابها برفقة امرأة أخرى إلى غرفة مظلمة، حيث بدأ الجنود في التحقيق معها حول زوجها، في الوقت الذي قاموا فيه باغتصابها بوحشية وتعذيبها بالصعق باستخدام عصا كهربائية في أعضائها الحساسة.

قصَّت زياودون حكايتها تلك ضمن شهادات صادمة أدلت بها نساء محتجزات في معسكرات صينية لشبكة “بي بي سي” في فبراير/شباط الماضي، من تلك الشهادات أيضا -على سبيل المثال- ما كشفته مُعلمة محتجزة سابقا تُدعى “سايراغول ساوتباي” حول واقعة اغتصاب جماعي مروعة لفتاة شابة تبلغ من العمر 20 عاما، اغتُصبت على مرأى ومسمع نحو 100 معتقل آخر، وتصف المعلمة الواقعة قائلة إنه أثناء تناوب بعض أفراد الشرطة على اغتصاب الفتاة، كان آخرون يراقبون باقي المعتقلين عن كثب، ويعاقبون أي شخص يُبدي أي معالم للاستياء أو المقاومة، أو حتى يحاول إغماض عينيه والنظر بعيدا.

في تلك المعتقلات أيضا، خضعت النساء لفحوصات طبية غير مُبرَّرة، وأُجبرن على تناول حبوب وحقن بالقوة مرة كل 15 يوما، بعدما ضخَّت الحكومة الصينية مبلغ 37 مليون دولار في برامج التعقيم القسري. وكما يؤكد تقرير أعدَّه الباحث الصيني أدريان زينز، فإن نساء الإيغور اللائي يمتلكن عددا أكبر من المسموح به قانونا من الأطفال يُجبرن على تركيب اللولب الرحمي (IUDs)، بينما تُكْرَه أخريات على إجراء جراحة التعقيم، وهناك نسوة أسوأ حظًّا أُجبرن على إجهاض أجنّتهن في مراحل مختلفة من الحمل، ما تسبَّب في النهاية في انخفاض معدلات النمو في أكبر محافظتين في إقليم شينجيانغ بنسبة 84% بين عامَيْ 2015-2018.

 

في بلد آمن للجوء، جلست صوفيا (اسم مستعار)، وهي امرأة من شينجيانغ، ومن حولها صور رُسمت بقلم رصاصي، تُصوِّر إحداها مشهدا لصفوف طويلة من المحتجزين أُجبروا على الخروج إلى ساحة معتقل، وأخرى تُصوِّر نساء يستحممن وأمامهن كاميرات مراقبة، وثالثة لنساء يتلقين حقنا مجهولة، لم تكن هذه سوى مشاهد مفجعة استحضرتها صوفيا من ذاكرتها لفترة اعتقال مريرة مدتها ستة أشهر قضتها في مخيم في أورومتشي عام 2018.

كان الرسم هو الطريقة التي اختارتها صوفيا لمواجهة آثار محنتها، بعد نجاحها في الهرب من الصين أواخر عام 2018، فبعد أشهر طويلة من الصدمة منعتها من الكلام أو البوح، أصبحت صوفيا قادرة أخيرا على وصف المعاناة التي تعرَّضت لها. ففي صباح كل يوم، كانت النساء المعتقلات يخضعن لتفتيش مهين على أنغام الأغاني الصينية الوطنية والهتافات التي تُمجِّد الرئيس “شي جين بينغ”، قبل أن تُجبر النسوة على الجثو على رُكبهن لمدة ساعتين لحين بدء دروس الدعاية الشيوعية، وفي المساء تُقاد النساء إلى الغرف المظلمة، وقد وصلت الأمور إلى حد إجبار المعتقلات قبيل الإفراج على دفع ثمن الطعام السيئ الذي قُدِّم لهن، فكان على صوفيا دفع نحو 1800 يوان (نحو 276 دولارا) مقابل الطعام الذي استهلكته.

 

لكن شهادة صوفيا ورسومها تفعل اليوم أكثر بكثير من مجرد البوح، وتُعَدُّ جزءا من جهد نسائي لفضح سياسات الصين وممارساتها الشائنة ضد شعب الإيغور. بدأت هذه الجهود عشوائية منذ عدة سنوات، لكنها اتخذت شكلا منظما منذ عام 2019، بعدما سرَّبت آسيا عبد الله (47 عاما) أول مجموعة من الملفات السرية التي وثقت وقائع الانتهاكات في مراكز الاحتجاز غير عابئة بالتهديدات التي تلقَّتها من النظام الصيني ووكلائه، وفيما يبدو، فإن شجاعة آسيا قد ألهمت العديد من النساء لكسر حواجز الصمت ومشاركة قصص معاناتهن مع العالم.

تكتب نساء الإيغور اليوم في الصحف، ويتحدَّثن إلى وسائل الإعلام وفي المؤتمرات حول تجاربهن الشخصية والاضطهاد الذي يتعرَّض له الشعب الإيغوري من قِبَل الحكومة الصينية، وفيما يبدو فإن أحاديث النساء تُثير ذعر الحزب الشيوعي بشدة، ليس فقط لأنها تهدم الرواية التي يُصدِّرها للعالم حول “مكافحة الإرهاب” في شينجيانغ، ولكن أيضا لأن الروايات المتواترة حول التعذيب والاغتصاب والإذلال الجنسي تُلوِّث الصورة المشرقة التي ترغب بكين في تصديرها عن نفسها.

 

ونتيجة لذلك، لا تدخر الصين، بترسانتها الإعلامية وجيوشها الدبلوماسية، جهدا لتكذيب روايات نساء الإيغور، فالنساء ذوات البنية الجسدية الضعيفة اللواتي كُبِّلن واغتُصبن في مراكز الاحتجاز، يخرجن اليوم للعلن وتشهد أجسادهن قبل كلماتهن على حقيقة المعاناة اللائي تعرَّضن لها. ولحُسن الحظ، لم يعد أحدٌ قادرا على تكذيب هذه الروايات التي تدعمها اليوم آلاف الوثائق المُسرَّبة والعشرات من صور الأقمار الصناعية التي تكشف وقائع السياسة القسرية التي مارستها الصين في الظلام لسنوات، بعيدا عن أعين العالم.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى