كتاباتكتابات مختارة

ملحمة «ملاذ كُرد» الكبرى

ملحمة «ملاذ كُرد» الكبرى

بقلم حمدي شفيق

في 26 أغسطس عام 1071م حقّق المسلمون السلاجقة واحدًا من أعظم الانتصارات الكُبرى في تاريخنا،

بسحق الجيش البيزنطي الهائل في موقعة «ملاذ كرد»، وأسر قائده الإمبراطور الشرس «أرمانوس» نفسه..

وكان قائد جيش المسلمين هو السلطان العظيم الغازي ألب أرسلان، رضي الله عنه وأرضاه،

 الذي أفاض المؤرّخون في ذكر مناقبه، ومنهم ابن الأثير الذي كتب عنه:

«كان عادلًا يسير في الناس سيرة حسنة، كريمًا، رحيم القلب، شفوقًا على الرعية رفيقًا بالفقراء، بارًّا بأهله وأصحابه ومماليكه،

كثير الدعاء بدوام ما أنعم الله عليه.. اجتاز يومًا بمرو على فقراء، فبكى، وسأل الله تعالى أن يغنيه من فضله،

وكان يكثر الصدقة، فيتصدق في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار،و كان حريصًا على إقامة العدل في رعاياه وحفظ أموالهم وأعراضهم»

وقال الإمام ابن كثير في «البداية والنهاية»:

كان أرسلان يقول: (ما كنت قط في وجه قصدته، ولا عدوًّا أردته، إلا توكلت على الله في أمري، وطلبت منه نصري)

وجاء في رواية: (ظننت أنني ملك الدنيا، وما يقدر أحد عليَّ، فأعجزني الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله وأستقيله من ذلك الخاطر،

وعلى القادة والحكام أن يستشعروا نعائم الله عليهم، وأن يتذكروا فضله وإحسانه وأن ينسبوا الفضل لله تعالى صاحب المَنّ والعطاء والإحسان والإكرام)..

ويسرد ابن كثير -رضي الله عنه- أحداث الموقعة التاريخية قائلًا: «أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والرخ والفرنج،

وعدد عظيم وعُدد ليبيد الإسلام وأهله،

فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه، وهم قريب من عشرين ألفًا، بمكان يقال له الزهوة، في يوم الأربعاء لخمس من ذي القعدة،

وخاف السلطان من كثرة جند الروم، فأشار الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يختار السلطان ألب أرسلان يوم الجمعة

بعد الزوال للمعركة، وذلك حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين.. وعندما تواجه الجيشان في «ملاذكرد»،

نزل السلطان ألب أرسلان عن فرسه، وسجد لله عز وجل، ومرّغ وجهه في التراب،و دعا الله واستنصره..

وقد كان ألب أرسلان عظيم الأمل في الله، فجمع فرسانه وخطب فيهم خطبة مؤثرة: من أراد الانصراف فلينصرف،

فما ههُنا سلطان يأمر وينهى، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف، وعقد ذنب فرسه بيده،

وقال: إما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيدًا إلى الجنة، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني،

فما أنا اليوم إلا واحد منكم وغازٍ معكم فمن تبعني ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة،

ومن مضى حقت عليه النار والفضيحة..

فقالوا: مهما فعلت تبعناك فيه وأعناك عليه، فبادر ولبس البياض وتحنط استعدادًا للموت،

وقال: إن قتلت فهذا كفني.. سأقاتل صابرًا محتسبًا، فإن انتصرنا فتلك نعمة من الله،

وإن كتبت لي الشهادة فهذا كفني جاهز، وأكملوا معركتكم تحت قيادة ابني ملكشاه».

إن الله ينصر من ينصره

وما كان الله تعالى ليخذل قائدًا صالحًا كهذا، خرج في سبيله، طالبًا للنصر أو الشهادة..

وأرسل سبحانه ريحًا عاصفة في وجوه الكافرين،

ملأت أعينهم بتراب كثيف فلم يبصروا فرسان المسلمين التي انقضت عليهم كالإعصار فأبادتهم في ساعات من نهار،

رغم التفوق العددي الهائل للفرنجة. ومتى كان الاسم ينتصر بالعدد أو بالعٌدّة ؟!!

وبعد فناء جيشه، تم أسر الإمبراطور «أرمانوس»، فلما أُوقف بين يدي السلطان ألب أرسلان سأله:

لو كُنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟ أجاب: كل قبيح..

فسأله ثانية: فما ظنك بي؟ فقال: إما أن تقتل وتشهرني -تفضحني- في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني إلى بلادي..

فقال السلطان العظيم: ما عزمت على غير العفو والفداء، فافتدى منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار،

وأن يطلق أسرى المسلمين، فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبَّل الأرض بين يديه، إجلالاً وإكرامًا،

وأطلق له الملك عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيَّعه فرسخًا،

وأرسل معه جيشًا يحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله..

وما فعل ألب أرسلان، إلا ما نص عليه القرآن، من مكارم الإسلام: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاءً} (الآية 4 من سورة محمد)..

نتائج موقعة ملاذكرد

وقد كانت للموقعة الكبرى نتائج بالغة الأهمية يُوجزها د.محمد على الصلابى قائلًا:

«إن انتصار ألب أرسلان بجيشه الذي لم يتجاوز خمسة عشر ألف محارب على جيش الإمبراطور أرمانوس الذي بلغ مائتي ألف في معركة (ملاذكرد)

كان حدثًا كبيرًا، ونقطة تحوّل في التاريخ الإسلامي، لأنها أضعفت نفوذ الروم في معظم أقاليم آسيا الصغرى،

وهي المناطق المهمة التي كانت من ركائز الإمبراطورية البيزنطية وأعمدتها..

وساعد هذا -تدريجيًّا- في القضاء على الدولة البيزنطية على يد العثمانيين،

كما أن انتصار المسلمين في هذه المعركة لم يكن انتصارًا عسكريًّا فقط بل كان انتصارًا دعويًّا،

إذ انتشر الإسلام في آسيا الصغرى، وضمت مساحة تزيد على400ألف كم إلى ديار المسلمين».

رضي الله عن السلطان ألب أرسلان، وعن سائر المُجاهدين، في كل زمان و مكان.

المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى