كتب وبحوث

مقاصدُ الشريعة .. ورقةٌ نقديّة للأغلاطِ المعرفيّة عند التيار الحداثي

(لتحميل الورقة يرجى الضغط على الرابط “تحميل الورقة“)

إعداد الحضرمي أحمد الطلبه

تأخذ القراءة للنص من أجل إفهامه وتَفَهُّمِهِ كثيرًا من الطاقة الفكرية لدى المشتغلين بالعلوم الإسلامية، وقد سعت القراءات الجدية للنص إلى إيجاد آليات معيارية تضبط علاقة اللفظ بالمعنى، وتُقَنِّنُ دلالة المنطوق على المفهوم ليتم تفادي أي تفسير مجاني، أو تأويل عبثي، فكان علم أصول الفقه هو الأداة المعيارية الأقوى لحماية النصوص من التلاعب بدلالتها، كما شكّل شبحًا مخيفًا للمتطفلين فكريًّا على العلوم الإسلامية، فسعوا بكل ما أُتوا لتجاوزه أو تجنبه ليتمكنوا من ممارسة هوايتهم المفضلة؛ وهي اللعب بالدلالات والحقائق الشرعية، مستعملين في ذلك نظريات التأويل الحديث لتجاوز المرجعية الإسلامية، واعتبار النصوص الشرعية نصوصًا لغوية، وعليه فإن المداخل اللغوية كافية في تفسيرها واستخلاص معانيها، ونظرا لتكامل البناء المعرفي الديني وصعوبة هدمه من الخارج ومشقة تجاوز آلياته أثناء ممارسة عملية الهدم من الداخل؛ فقد أدى ذلك ببعضهم إلى العدول عن تجاوز المعارف الإسلامية، فعمدوا إلى ضرب بعضها ببعض، والتعلية من شأن بعضها من أجل إسقاط البعض الآخر.

فكانت المقاصد راية الحداثيين التي يتجمعون حولها ويحتشدون تحتها ويرفعونها في مقابل أصول الفقه، ويتخذون منها ذريعة لتبديل الشرع، وترك كل ما لا تهواه أنفسهم، ونحن في هذه الورقة نُجَلِّي المقاصد الشرعيةَ، ونبين مدلولها وكيف مارس الحداثيون التمويه الثقافي من خلال استخدامهم لها بعيدًا عن الضوابط الشرعية، وسوف نبدأ بالمقاصد من المنظور الحداثي لنحاكمها إلى المنظور الشرعي.

المقاصد في الفكر الحداثي:

لقد اهتم الحداثيون بالمقاصد وأعلوا من شأنها، وذلك من أجل تخفيف حد النظرية الصارمة لأصول الفقه واستبدالها بمفهوم المقاصد([1])، كما اعتقدوا التضارب الدائم بين النصوص الثابتة والمصالح المتغيرة، وهذا يعني وِفْقَ النظرية المقاصدية عند الحداثيين إلغاء تفعيل النصوص لصالح المقاصد التي تراعي المصلحة، يقول فهمي هويدي: “إذا حدث التعارض بين النصوص وبين أيٍّ من مصالح الناس المعتبرة، فلا مجال لتطبيق الأولى، وتُغَلَّبُ المصلحة على النص في الثانية”([2]).

وبنوا على هذا تخطئة الفقهاء الذين يربطون تطبيق الشريعة بتطبيق أحكامها، فتطبيق الشريعة عند الحداثيين يكون بتطبيق روحها([3]).

وذهب الجابري إلى أبعد من ذلك فرأى أن العلة ليست موجبة للحكم، وانتقد القاعدة المعروفة “الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا”، واعتبر أن المصلحة هي الحاكمة على النص([4])، ومراده من ذلك ألا يتقيد بالعلة التي هي مناط الحكم؛ لأنها قد تقيده في التعامل مع النص بوجودها من عدمه، فَعَوَّضَ ذلك بِالتَّمَلُّصِ منها وتعليق الحكم بمفهوم عائم هو المصلحة، دون أن يضع لها تعريفًا أو ضابطًا، وتوصلوا من خلال هذا الطرح إلى أن فكرة النسخ ليست خاصة بالنص الشرعي، بل هي موكولة إلى الأمة؛ لأن الأحكام ليست مطلقة بل نسبية خاضعة للظروف الزمانية والمكانية، ولهذا فقد نسخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم المؤلفة قلوبهم، وأوقف توزيع الأرض المفتوحة على الغانمين([5]).

وقد توالت كلمات الحداثيين في تمجيد المقاصد ورفعها في وجه أصول الفقه كأداة للاستنباط، كما جعلوا منها سجنًا للنصوص الشرعية المرتهنة للواقع الاجتماعي والسياسي والزماني حسب زعمهم، واعتبروا أن الفكر الديني مرتبك بسبب سيطرة فكرة قداسة النص واعتباره متجاوزًا لواقعه، ولا حَلَّ إلا في التخلص من قداسته لصالح المصلحة والمقصد، كما فعل عمر بن الخطاب([6]).

واعتبروا المقاصد هي الملاذ الوحيد الذي يُـمـَكِّنُ المجتهد الحداثي من نسخ ما فُقِدَتْ مصلحته، ويتخلص من سلطة النص ويصبح حُرًّا في كيان التشريع الإسلامي.

هذه هي محصلة المقاصد في الفكر الحداثي ويحسن بنا بعد عرضها بإيجاز أن نتجول بها في روضة النصوص الشرعية؛ لنرى هل تَمَكَّنَ أصحابها من رؤية الحديقة الشرعية الغنّاء على حالها؟ أم كان همهم كيف يتسللون لها لواذًا بعيدًا عن أعين الحراس؟ فدخلوها ليلًا فسقطوا في الآبار الساقية لها دون أن يروها على حقيقتها، ولنبدأ بتفصيل المقاصد من منظور شرعي:

المقاصد في الشريعة:

إن التفصيل في شأن المقاصد يفيدنا كثيرًا في بناء تصور معرفي سليم حول المقاصد، وقبل الحديث نمرُّ في إطلالة سريعة على تعريف موجز لها:

المقاصد: جمع مَقْصَدٍ، قال في لسان العرب: القصد الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء على الاعتدال أو الجور([7]).

ولم يبتعد الأصوليون بمعناها الاصطلاحي عن المعنى اللغوي لها.

وإذا أردنا فهم المقاصد من منظور شرعي فلابد من فهمها في الإطار الشرعي الذي حددته النصوص لها؛ وذلك من خلال دراسة مقاصد الشريعة في جوانب عدة:

أولها: قصد الشارع من وضع الشريعة: فتكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون ضرورية.

والثاني: أن تكون حاجية.

والثالث: أن تكون تحسينية.

فأما الضرورية، فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقِدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين، والحفظ لها يكون بأمرين:

أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.

والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.

فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين([8]).

مراعاة الضروريات من جانب الوجود تكون بفعل ما به قيامها وثباتها، ومراعاتها من جانب العدم تكون بترك ما به تنعدم، كالجنايات، فلا يقال: إن مراعاتها من جانب الوجود بمثل الصلاة، وتناول المأكولات مثلًا هو مراعاة لها من جانب العدم، إذ بفعل هذه الأشياء التي بها الوجود والاستقرار لا تنعدم مبدئيًّا أو لا يطرأ عليها العدم، فما كان مراعاة لها من جانب الوجود هو أيضًا مراعاة لها من جانب العدم بهذا المعنى([9]).

فإذا كانت الشريعة جاءت لحفظ الكليات الخمس؛ فإن أعظم هذه الكليات وأساسها هو الدين، وبه تحفظ، فلا يمكن أن يتم تجاوزه لأنه هو الذي به تعرف الكليات الأخرى، فلزم على المكلف أن يُرْجِعَ مفهوم المصلحة إليه، “ولا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟

وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضهم لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم لهم، وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنها وقبيحها بالعقل؟ أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل؟ أن يكون الفاعل سببًا لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسببًا لما يبغضه ويؤذيه، وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعًا أخرى؛ لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم”([10]).

فإذا كان الأمر على هذا النحو فإن المصالح التي سعت الشريعة لجلبها والمفاسد التي سعت لدفعها ضربان: أخروية ودنيوية، “فإذا ثبت أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، فذلك على وجه لا يختل لها به نظام، لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تنحل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعًا لها، إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديًّا وكليًّا وعامًّا في جميع أنواع التكليف والمكلفين من جميع الأحوال”([11]).

وهذه المصالح والمفاسد المعتبرة شرعًا إنما هي معتبرة من حيث تقوم بها حياة الناس دنيا وأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب المصالح أو درء المفاسد، فلا عبرة بهوى المكلف، بل الشريعة قاصدة لإخراج المكلف عن داعية هواه ليكون تبعًا للشرع فيما يدع ويذر، وقد جعلت اتباع الهوى في تحديد الحق مفسدة خالصة، قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُون} [سورة المؤمنون:71]. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [سورة الجاثية:18].

وعليه فإن المصالح تراعى شرعًا مادامت مصالح، فإذا تعارضت فإنه يقدم بعضها على بعض، فالمصالح الأخروية مقدمة على المصالح الدنيوية؛ لأن المصالح الدنيوية عاجلة وفانية والمصالح الأخروية باقية وأبدية، ولأن المصالح الدنيوية خادمة للمصالح الأخروية([12]).

حتى لا نقع فيما وقع فيه الحداثيون من التمويه على القارئ والخوض في العموميات فإننا نضع النصال على النصال، ونُعرِّفُ المصالح والمفاسد، ونبين جهة معرفة كل واحدة منهما، “فالمصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها، والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها.

وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية.

فأما لذات الدنيا وأسبابها، وأفراحها وأسبابها، وآلامها وأسبابها، وغمومها وأسبابها؛ فمعلومة بالعادات.

وأما لذات الآخرة وأسبابها، وأفراحها وأسبابها، وآلامها وأسبابها، وغمومها وأسبابها؛ فقد دل عليها الوعد والوعيد والزجر والتهديد.

 فأما اللذات ففي مثل قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُون} [سورة الزخرف:71].

وأما الأفراح ففي مثل قوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [سورة الإنسان:11].

وقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [سورة آل عمران:170].

وأما الآلام ففي مثل قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون} [سورة البقرة:10].

وأما الغموم ففي مثل قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق} [سورة الحج:22].

فهذه هي قاعدة المصالح والمفاسد التي تعرف بها([13]).

والقارئ للشريعة عمومًا يجد أنها مراعية للمقاصد جارية في جميع التكاليف على حفظها؛ لكن الذي قد يقلق الحداثي ويبين خلله المنهجي هو أن المقاصد ليست هي المصالح، بل هي شيء أعم من ذلك، وهي محددة بقضايا كلية، وأهم هذه القضايا مُتَجَاوَزٌ لدى الحداثيين ألا وهو الدين، فجميع من تكلم في المقاصد يتكلم عن حفظ الدين وأنه هو المقصد الأول، وبقية الكليات بالنسبة للدين هي بمثابة الحاجيات، فهي خادمة له وتابعة، ولا تراعى إلا من جهة موافقتها له، وإلا كانت أهواءً غير معتبرة شرعًا، ومن أهم قواعد المقاصد الشرعية: أنْ لا يُردَّ بها أي حكم جزئي، فإذا ثبت نصٌّ شرعي أو حكم فقهي؛ فلا يجوز أن يُنقَض ويُتجاوَز بدعوَى أنه مخالف لقاعدة مقاصدية؛ فهذا باطلٌ لا علاقة له بعلم المقاصد؛ “فإنَّ ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه”([14]).

وحين تُعْرَضُ النظرة المقاصدية الحداثية على الميزان الشرعي للمقارنة بينها وبين ما قرره أهل الاختصاص وشهدت به النصوص الشرعية؛ يتبين أن الفكرة ليست لها أسس علمية متينة تنبني عليها، كما تعاني من غموض وارتباك في جانب التأصيل لها، وذلك ما سوف نتناوله في العنوان الموالي:

الحداثيون والأغلاط المعرفية في الاستدلال بالمقاصد:

إن أكبر خطأ ارتكبه الحداثيون هو الاختزال لنظرية المقاصد، فهم لم يقوموا بعملية استقرائية للنصوص الشرعية، وإنما اكتفوا بالعمومات، مما جعل محاولة مواجهتهم للمنجز المعرفي مواجهة فاشلة بكل المعايير، فمن المستبعد أن تكون المقاصد بهذه الأهمية ولا توجد نصوص مُحَدِّدَةٌ لها وضابطة، مع أن الشريعة تناولت الأحكام الجزئية بالتفصيل فكيف تترك القضايا الكلية؟! وقد ظهر غلطهم في التعامل مع النصوص من جهتين:

الجهة الأولى: اعتقاد التعارض بين الكلي والجزئي: وهذا غلط فاحش عندهم وقد مثلنا له بأمثلة مرت معنا في أول هذه الورقة العلمية، والحقيقة أنه لا يوجد تعارض بين كلي وجزئي فالقضايا الكلية بُنِيت على استقراء للجزئيات، فلا يتصور التعارض بينهما؛ لأن الكليات ما سُمِّيت كليات إلا بانسجامها مع الجزئيات، وكونها جامعة لها لا مخرجة لها، وعليه” فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص -مثلًا- في جزئي معرضًا عن كليِّه؛ فقد أخطأ.

وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليِّه؛ فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه.

وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عَرْضِ الجزئيات واستقرائها؛ وإلا فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما هو مضمَّن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات؛ فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي، والجزئي هو مظهر العلم به.

وأيضًا؛ فإن الجزئي لم يوضع جزئيًّا؛ إلا لكون الكلي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة، وذلك تناقض، ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي أو توهم المخالفة له، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي؛ دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءًا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءًا منه، وإذا أمكن هذا؛ لم يكن بدٌّ من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع”([15]).

فالمستقري لتفاصيل الشريعة الإسلامية، يجد أنها فَصَّلَتْ الكيفيات التي يحصل بها التعبد لله عز وجل؛ وشددت في أمرها وحضت على الالتزام بها، ووصفتها بأنها حدود الله ومحارمه، وَحَذَّرَتْ من التفلُّتِ منها أو الافتيات عليها، ووجَّهت اللَّوْمَ الشديد على من تعدَّاها أو تجاوزها، ورَتّبَت العقوبة الشديدة على من خالفها، والشريعة مع كل تلك التأكيدات لم تُلمِح إلى أنها إنما جاءت بتلك التشريعات مُرَاعَاةً لظروف العصر، بل أَكَّدَتْ في نصوص كثيرة إلى أن تشريعاتها ملزمة إلى يوم القيامة. وكل هذه التشريعات التفصيلية هي بمجموعها منتظمة تحت قواعد كلية يتحصل منها مقصد الشارع، فهو يتحصل بمجموعها لا ببعضها، ولا يمكن أبدًا أن يُحَصِّلَ الإنسان مقصد الشارع دون أن يأتي بهذه الجزئيات وفق النسق الشرعي والترتيب الإلهي الذي رُتِّبَتْ فيه، فقول الحداثيين بخصوصيتها بالزمان والمكان يؤدي حتمًا إلى إبطال الشريعة جملة وتفصيلًا؛ لأنه ليس فيها ثابت، وما ذكر من الأحكام في القرآن هو مجرد أمثلة يمكن تغييرها لصالح الواقع والمصلحة المتوهمَين، وهذا الاستنتاج الحداثي ينفي عن الشريعة صفة الإصلاح، لأنها لا تغير الواقع السيء، وإنما تتكيف معه وتصوغ أحكامها وفقًا له، وهذا قول يعرف بطلانه بمبادئ العقل والفطرة.

الجهة الثانية: السطحية في التعامل مع المقاصد: وهذا أمر لا يخفى على أي مهتم بدراسة الفكر الحداثي وإنتاجه العلمي في التعامل مع النصوص، فالذي يقارن بينهم وبين الفقهاء والأصوليين يجد فرقًا شاسعًا، فيجد أن الفقهاء المنضبطين بالآليات الشرعية في التعامل مع النصوص لهم إنجازات معرفية هائلة في شتى المجالات الفقهية عبادات ومعاملات وأنكحة، وعندهم أجوبة شاملة لأغلب النوازل التي تَعْرِضُ لهم، بينما تَتَّسِمُ القراءة الحداثية حتى في طورها المقاصدي بالغموض وضعف الإنتاج وصعوبة الاستنباط، فكثير من الأبواب لا رأي لهم فيه يذكر، وبعض الأبواب لهم فيه آراء لم يتفقوا عليها ولم تكن محل تسليم، والسبب هو سطحية التفكير المقاصدي عند الحداثيين واتسامه بعدم الجدية، فالشريعة مثلًا من مقاصدها حفظ الدين فإذا وُجِدَ في الناس انتهاك لحرمة الدين واستهزاء به؛ فإن النظرة المقاصدية تقتضي تفعيل كل الأحكام التي من شأنها حفظ الدين كحد الردة والتعزير وغيرها، لكن في النظرة المقاصدية الحداثية الأمر مختلف، فتُرفع الحرية في وجه التكاليف الشرعية وتُجعل  مقصدًا من مقاصد التشريع، مع أن التكليف والأمر والنهي يناقضانها في مفهومها الفلسفي والحداثي، فهذا الاستصنام المنهجي لمفهوم الحرية أربك الحداثيين في التعامل مع النصوص الشرعية الضابطة للحرية، كما جعل أمرهم عليهم غُمَّةً في التعامل مع مقاصد الشريعة، فلم تتسم فكرتهم بالجدية وإنما غلب عليها الاستثمار والتوظيف بدل الاستدلال والالتزام، وسوف نبين للقارئ الكريم أن ما يقوم به الحداثيون من الإشادة بالمقاصد ليس إلا تستُّرًا بها أمام المصداقية العلمية لآليات شرعية أخرى ليحققوا مآرب خاصة، وذلك ما سوف نتناوله تحت عنوان الاستلال بالمقاصد عند الحداثيين.

الاستدلال بالمقاصد عند الحداثيين والفجوات المعرفية:

إنه من نافلة القول أن أُؤكِّدَ للقارئ الكريم أن الحداثيين لا يرفعون بنصوص السنة رأسًا حتى ولو صحت، لكن للقارئ أن يستشكل -وأنا معه- أَنَّ أغلب ما سوف يناقش من أدلة الحداثيين هو استدلال بالسنة غير المتواترة! فما وجهه؟

لست بصدد الإجابة عن الحداثيين في علّتهم في أخذ بعض الأحاديث والاستدلال بها، لأني على يقين أن ذلك لم يكن وفق ميزان علمي معتبر، وإنما حسبي أن أتنزل معهم فأقبل دليلهم، مع أنه لا يصلح أن يكون دليلًا وفق شروطهم لا من جهة الثبوت ولا من جهة الدلالة، لكني سوف أناقشه من الوجه الذي استدلوا به، فقد قاموا بتوظيف بعض الأحداث للاستدلال بها على أن المصلحة مقدمة على النص، وعليه فإن إمكانية نسخه حتى من طرف الأمة أمر وارد، بل هو المقبول.

وممن فعَّل الاجتهادات العُمَرِية بشكل مكثف: نصر حامد أبو زيد؛ فإنه برّر مواقفه التي توصل فيها إلى أن العقائد الدينية مرتهنة بالواقع، تتغير بتغيره، وتتبدل بتبدله، بالاعتماد على بعض اجتهادات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مثل موقفه من نصِّ المؤلَّفة قلوبهم؛ إذ أن عمر بن الخطاب لم يتعامل مع النص كسلطة دائمة عندما وضعه في سياقه([16]). فبادروا إلى وصف فعل عمر بأنه إلغاء للنص وتقديم للمصلحة عليه، كما استدلوا بتعطيله لحد السرقة عام الرمادة؛ بأنه أكبر دليل لهم على أن الدليل القطعي والحكم القطعي يمكن تحيينهما وتعطيلهما لصالح الواقع والمصلحة، وإذا أخذنا في فحص هذه الاستدلالات وتحليل هذه الوقائع سوف يتكشف لنا حجمُ الكوارث المعرفية التي أصيب بها المشروع الحداثي أثناء محاولة الاستنجاد بالمقاصد كقاعدة خلفية يحارب من طرف خفي منها النصوص الشرعية. ولنبدأ بقصة المؤلفة قلوبهم:

أولا: القصة كما هي

روى البيهقي في السنن بإسناده عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ قَالَ: جَاءَ عُيينة بْنُ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ عِنْدَنَا أَرْضًا سَبِخَةً لَيْسَ فِيهَا كَلَأٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقْطَعَنَاهَا لَعَلَّنَا نَزْرَعَهَا وَنَحْرُثَهَا، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْإِقْطَاعِ، وَإِشْهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَيْهِ وَمَحْوِهِ إِيَّاهُ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ” إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَأَلَّفُكُمَا وَالْإِسْلَامُ يَوْمَئِذٍ ذَلِيلٌ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ فَاذْهَبَا، فَأَجْهِدَا جَهْدَكُمَا لَا أَرْعَى الله عَلَيْكُمَا إِنْ رَعَيْتُمَا ” وَيُذْكَرُ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أَحَدٌ، إِنَّمَا كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ انْقَطَعَتِ الرِّشَا، وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَمَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ فَلَيْسَ الْيَوْمَ “([17]).

ومن قرأ القصة واستحضر سياقها تَبَيَّنَ له حجم السطحية التي تعامل بها الحداثيون مع القصة، وسذاجة الاستنتاج الذي ذهبوا إليه، فنحن حين نرجع إلى أوصاف الأصناف المعتبرة في الزكاة المذكورة في الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [سورة التوبة:60].  فهذه أوصاف عرَضِية ليست لازمة للشخص، فالشخص قد يُعْطَى اليوم من الزكاة لأنه متصف بصفة من هذه الأوصاف، ويمنع غدًا لتغير صفته إما إلى غنى إن كان فقيرًا، أو الحرية إن كان عبدًا، أو بسداد الدَّيْنِ إن كان غارمًا، أو بالإقالة إن كان عاملًا، وكل ما فعل عمر أنه رأى انتفاء هذه الصفة في حق بعض أصناف الزكاة ولم يُلغها، فعمر علَّق الحكمَ بعلّته وجودًا وعدمًا في هذه الحادثة، ولم يلغه ولم يَدَّعِ ذلك؛ ولذلك لم يعتبر أحدٌ من السلف ما فعله عمر إلغاء للحكم وإبطالًا له، فهذا حفيده عمر بن العزيز عمل بحكم المؤلفة قلوبهم لأنه رأى علّته قائمة([18]).

وثمّت فجوة معرفية أخرى تتعلق بقصة عمر، وهي تدل على عدم استيعاب الأحداث والنظر نظرة متكاملة للمرويات، فهم حين سلطوا عدستهم الانتقائية على حادثة المؤلفة قلوبهم غفلوا عن أمور أخرى من تصرفات عمر تأتي على بنيانهم من القواعد، وتؤكد أن عمر كان يعمل  بالنص ويُعلى من شأنه حتى في مقابل المصلحة، ويؤكد ذلك التزامه تقبيل الحجر الأسود وتأكيده على أن ذلك ليس مراعاة لمقصد بل لمجرد التأسي، فقد قَبَّلَ الحجر الأسود وقال:” أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَلَكِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ”([19]).

وقال:” مَالَنَا وَلِلرَّمَلِ؟! إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: شيئ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَه”([20]).

فهذه تصرفات لعمر أيضا التزم فيها بالنص حرفيًّا فما وجه تركها وأخذ الأخرى؟!

ولو اعتمدنا هذه الطريقة الانتقائية القائمة على العجلة في الاستنباط ورد الاستقراء بالوقائع الجزئية لأبطلنا الشريعة، ولعل العجب يشتد أنهم استدلوا بفعل عمر على إلغاء النص في مقابل التيسير، وأغمضوا جفونهم عن التشديد في الحكم للمصلحة؛ ولذلك وقائع أيضًا تشهد له، منها تشديد عمر في مسألة الطلاق، فقد روى طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: “هات من هنَاتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم”([21]).

فهذا القلب للدليل يبين عدم المنهجية عند الحداثيين، ومستوى الارتباك في التعامل مع النصوص، وكان الأولى أن تُجَمعَ الوقائع وتدرس من ناحية الثبوت والضعف، ثم ينظر في مستندها ومدى انسجامها مع المعنى الكلي للشريعة في كل باب، أَمَّا أن يُنتقى منها وتُجعل  الحوادث العينية ناقضة للأصول؛ فإن هذا لا يمكن تصنيفه علميًّا إلا في إطار العبث الاستدلالي بالنصوص، ومن المحال عقلًا وشرعًا أن تكون المقاصد مراعاة بهذه المنهجية التي يتكلم عنها الحداثيون، ثم لا يكون لها مما يشهد لها من النصوص إلا وقائع تاريخية وليست نصوصًا شرعية، ولو حوكمت إلى المنطق الحداثي نفسه في التعامل مع الوقائع وتفسيرها لكانت باطلة، فكيف إذا حوكمت إلى المنهجية العلمية الأكثر تعقيدًا وصرامة.

لم ينتهِ المسير بعد بالحداثيين في قضية المقاصد المحزنة، بل هناك دليل آخر لهم يجعلون منه مقصدًا من مقاصد الشريعة، ودليلًا على تغليب المصلحة على النص، وهذا هو بين يديك:

تعطيل عمر لحد السرقة عام الرمادة:

أثر عمر رواه عبد الرزاق في مصنفه([22])، وابن أبي شيبة في مصنفه ([23]).

وسوف نتسامح فلا نُعْمِلُ الآليات الحديثية الصارمة والمقلقة للتيار الحداثي؛ لأنها بطبيعة الحال لن تسعف الحداثيين، فالحديث طبقًا لها ضعيف لوجود المجاهيل فيه، وفي المقابل نَغُضُّ الطرف عن شرط الحداثيين في قبول الحديث وهو التواتر والْقَطْعِيَّةُ في المعنى، فكِلا المسلَكين لا يخدم التيار بل يشهد ضده، وإنما سوف نُخَفِّضُ المعايير العلمية ونتعامل مع النص كما لو أنه ثابت، ونناقش مضمونه ونحلّله ونبين هل هو دليل لهم فيما يذهبون إليه من رد النصوص وإعمال المصالح؟

من المعلوم لدى المسلمين أن الحدود في الشريعة لا تقام بمجرد الوقوع فيما يوجبها؛ فلا بد من توفر شروطها وانتفاء موانعها، وقد أرشدت السنة إلى أهمية البينات فيها، وأن قيام الشبهة مُسقطٌ للحدِّ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن وجدتم لمسلم مخرجًا فخلوا سبيله»([24])، فهذا نص مقيِّد لآية السرقة، وهو أن كل سرقة لا توجب الحدّ، وقد بَيَّنَ عمر أن الدافع له في ذلك إعمال هذا النص والتخصيص به، لا إبطال النص الآخر لأجل المصلحة كما يتوهم هؤلاء، فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن عمر بن الخطاب قال: “لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات”([25]). وتحقُّقُ الشبهة يدرأ الحدَّ بإجماع العلماء، وقد حكى الإجماع عليه ابن قدامة([26]).

فكان من رأي عمر أن من الشُّبَه التي يُدرأ بها الحد المجاعة الشديدة، وليس هو ما ذهب إليه الحداثيون، فكل ما فعل عمر أنه عمل بمقيِّدات أُخَرَ للنص ولم يلغه كما يتوهم الحداثيون، فهذه الفجوة المعرفية الواضحة والتي تظهر في اقتطاع النص من سياقات عدة، واختياره للتشريح دون تمريره على أي أداة فحص علمية سواء كانت حديثية أو أصولية أو فقهية؛ دليل على عدم الجدية أو الكسل البحثي، فمن المعلوم  أنه لا يكفي في بناء القول والإقناع به مجرد ادعاء الصحة له؛ وإنما لا بد من إقامة الأدلة الصحيحة عليه، مع الإجابة عن اللوازم التي تنافي القول وتُحدِث التناقض فيه، وتثير الأسئلة الملحَّة عليه، وتمنع الأخذ به والاقتناع بصحته.

والخطاب الحداثي قرّر أصولاً تتنافى مع القول بأن الشريعة لها مقاصد لا بد من اعتبارها والأخذ بها وتحكيمها، فتكرير الحداثيين لفكرة النص المفتوح، والذي يحتمل معانٍ عدة ينقض أصلهم القائل بأن الشريعة لها مقاصد، ثم هم مع القول بمقاصدية الشريعة لم يحددوا هذه المقاصد ولم يبينوها، بل اكتفوا بتكرير معنىً عائم وهلامي وهو المصلحة، ثم عند أول اختبار علمي يظهر عدم استيعاب المقاصد وفهمها في إطارها، فلْنَقُل – مثلًا-  أن الشريعة شرعت حد الردة لحفظ الدين، والقتل لحفظ النفس، والقطع من أجل حفظ المال، فالذي يجري على المقاصد هو أن تُفَعَّلَ هذه الحدود عند فُشُوِّ أي ظاهرة من هذه الظواهر، لكن الفكر المقاصدي الحداثي يقول: لا بل تُقدَّم المصلحة ويُعطَّل الحد، ومن جهة أخرى حين نعتبر النصوص ظنية كلها ونُعمل المصالح القطعية؛ أليس من حق سائل أن يسأل: أين الدليل الذي دل على اعتبار المصالح؟

فإن كان نصًّا فهذا لا يعدو كون المصالح ظنية؛ لأن ما ثبت بالظني لا يمكن أن يكون قطعيًّا مطلقًا!!

وإن كان غير النصوص لزمهم تعيينه، وذلك ما لم يفعلوا.

ومن الأمور التي تبعث على اتهام الفكر الحداثي بعدم الجدية العلمية أنه حين جعل من المقاصد صنمًا لم يستطع إقامة دليل علمي على اعتبار المقاصد من منظوره؛ لأنه كيف يمكن أن تكون المقاصد بهذه الدرجة ثم لا يوجد ما يشهد لها من النصوص إلا هذه الأدلة التي استشهد بها الحداثيون، وهي أدلة لا تصمد، فلا هي بالمسلمة ثبوتًا ولا بالمقبولة معنى، ولو قمنا بمقارنة بين جهود الفقهاء والأصوليين وبين جهود المشروع الحداثي في بيان مقاصد الشريعة العامة والخاصة والمادية والمعنوية منها؛ فإنا نجد أن الفقهاء استطاعوا من خلال الجمع بين مقاصد الشريعة ونصوصها أن يحققوا إنجازات هائلة ويُفَعِّلُوا الفقه في حياة الناس، بينما كان المشروع الحداثي يخسر كل يوم علميًّا جزءًا كبيرًا من رصيده، وتظهر هذه الخسارة عند محاولة الاجتهاد أو الاستنباط، ولك أن تقارن بين المنجزات العلمية الهائلة للفقهاء وبين منجزات المشروع الحداثي، فإن المشروع الحداثي يموت عند العناوين ويُدفن عند المضامين، فلن ترى له أي قيمة عند ممارسة العملية الاجتهادية، ولن تجد له أي استنباط ينافس عند طرق الأبواب الشرعية من عبادات وقضاء ومعاملات، بل يكتفي بإسقاط أكبر كَمٍّ من النصوص والأحكام، دون أن يقدم بديلًا عنها، أو يقيم دليلًا علميًّا سالمـًا من المعارض على أحقيته في إسقاطها.

لقد كان الفقهاء والأصوليون مدركون بتمام الوعي لخطر العملية الاجتهادية ذات البعد المقاصدي من غير المؤهلين، فانصبت تحذيراتهم على أهمية التفريق بين مقاصد الشريعة وأهواء الناس، ونبهوا على أن المقاصد ليست وسيلة لرمي النصوص وعدم اعتبارها، لذا يقول الشاطبي: “فإن ما يخرم قاعدةً شرعيّةً أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص، كما تقدم في المسألة قبل هذا، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطراد، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف، وإذا كان كذلك، فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادًّا لما تمهد في الشريعة، فهو فاسد باطل”([27]).

وبطبيعة الحال فإن عمليات التأويل التي قام بها الخطاب الحداثي بما تضمنته من استحضار واستبعاد موجه للنصوص فإن طبيعة الوحي قد تَأَبَّتْ على ذلك، وبقي الوحي ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه، فمع كل النصوص التي اقتطعوها فقد بقيت النصوص ذاتها تنقض النتائج النهائية للخطاب، وأصبحت صورة الخطاب المقاصدي صورة تلفيقية تعاني من الهشاشة العلمية نتيجة الانتقائية وعدم المنهجية، مع المسارعة في تعميم الأحكام قبل استقراء جزئياتها، فيجعلون من المثال قاعدة، ومن النادر مقصدًا، ومن الشاذّ مطردًا، هذا بالإضافة إلى تغليب النَّفَسِ الاستهزائي والصراخ الإنشائي في الدعوة للاجتهاد والتجديد، والتصنيف السلبي لكل رأي أو معيار يقف سدًّا أمام المشروع الحداثي، الذي يعاني أوّل ما يعاني من إثبات الجدية والانضباط العلمي.

 

([1]) ينظر: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، محمد أركون (ص170).

([2]) التدين المنقوص، هويدي (ص 176).

([3]) ينظر: جوهر الإسلام، محمد عشماوي (ص 37).

([4]) ينظر: وجهة نظر، الجابري (ص 63).

([5]) ينظر: التجديد في الفكر السلامي، عدنان امامة (463).

([6]) ينظر: الدين وتطبيق الشريعة، الجابري (ص 12).

([7]) لسان العرب (4/140).

([8]) الموافقات للشاطبي (2/9).

([9]) ينظر: شرح العضد على ابن الحاجب (2/ 238)، والمستصفى (1/ 251) ، وشرح المحلى على جمع الجوامع (2/ 280).

([10]) الفتاوى، لشيخ الإسلام (3/114- 115).

([11]) الموافقات، للشاطبي (2/37).

([12]) ينظر: القواعد الكبرى، للعز بن عبد السلام (1/12).

([13]) ينظر: المرجع السابق (1/15-16).

([14]) الموافقات (2/556).

([15]) الموافقات (3/7-8).

([16]) ينظر: مفهوم النص، لنصر أبو زيد (ص104).

([17]) السنن الكبرى، للبيهقي (13189).

([18]) الطبقات الكبرى، لابن سعد (5/558).

([19]) مسند أحمد (361).

([20]) صحيح البخاري (1605).

([21]) مسلم (1472).

([22]) مصنف عبد الرزاق (18990).

([23]) مصنف ابن أبي شيبة (10/28).

([24]) الحاكم في المستدرك (8163) وصححه.

([25]) مصنف بن أبي شيبة (28493).

([26]) المغني لابن قدامة (9/565).

([27]) الموافقات (2/454)

(المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى