كتاباتكتابات المنتدى

معالم النصر والتمكين من خلال سيرة الملك العادل نور الدين الزنكي (2)

دور الزهد واليقين في تحقيق التمكين

معالم النصر والتمكين من خلال سيرة الملك العادل نور الدين الزنكي (2)

دور الزهد واليقين في تحقيق التمكين

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

فهم نور الدين محمود زنكي ـ رضي الله عنه ـ من خلال معايشته للقران الكريم ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم  ومن تفكره في هذه الحياة؛ بأنَّ الدنيا دار اختبار ، وابتلاء ، وعليه فإنَّها مزرعة للآخرة ، ولذلك تحرَّرَ من سيطرة الدنيا بزخارفها ، وزينتها ، وبريقها ، وخضع ، وانقاد ، وأسلم نفسه ظاهراً وباطناً ، ومن هذه الحقائق:

* اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبـه بالغربـاء ، أو عابري سبيل ، كمـا قـال النبي صلى الله عليه وسلم  : «كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل». (سنن الترمذي ، كتاب الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح)

* وأن هذه الدنيا لا وزن لها ، ولا قيمة عند رب العزَّة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم  : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، ألا إنَّ الدُّنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله ، وما والاه ، أو عالماً ، أو متعلِّماً».

* وأنَّ عمرها قد قارب على الانتهاء؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم  : «بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه: السبابة ، والوسطى». (مسلم ، كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة رقم 867)

* وأن الاخرة هي الباقية ، وهي دار القرار ، كما قال مؤمن آل فرعون:  ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠﴾ [غافلا: 39 – 40]. كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب الملك العادل نور الدين محمود الشهيد ، فترفَّع ـ رحمه الله ـ عن الدّنيا وحطامها ، وزهد فيهما ، وإليك شيئاً من مواقفه: (من أخلاق النصر في جيل الصحابة، د.السيد محمد نوح، ص 48 ، 49)

1 ـ قال ابن الأثير: «وحكى لنا الأمير بهاء الدين علي بن الشكري ، وكان خصيصاً بخدمة نور الدين ، قد صحبه من الصبا ، وأنس به ، وله معه انبساط ، قال: كنت معه في الميدان بالرُّها؛ والشمس في ظهورنا ، فكلّما سرنا تقدمنا الظل ، فلما عدنا صار ظلنا وراء ظهورنا ، فأجرى فرسه وهو يتلفت وراءه وقال لي: أتدري لأيِّ شيءٍ أجري فرسي ، وألتفت ورائي؟ قلت: لا ، قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا ، تهرب ممن يطلبها ، وتطلب من يهرب منها قلت: رضي الله عن مَلِك يفكِّر في مثل هذا. (الباهر ص 164 دور نور الدين محمود في نهضة الأمة 128)

 2 ـ تشبَّه نور الدين محمود بعمر بن عبد العزيز في زهده ، وقد كان الأخير حاكماً لأقوى دولة على الأرض في زمنه، فكان نور الدين لا ينفق على نفسه ، ولا على أهله ، إلا من مُلكٍ اشتراه من سهمه من الغنائم ، وكان يُحضر الفقهاء ، ويستفتيهم فيما يحلُّ له من تناول الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ، فيأخذ ما يفتونه بحله ، ولم يتعداه إلى غيره البتة. (الباهر ص 164 دور نور الدين محمود في نهضة الأمة 128)

قال العماد الأصفهاني: «كان رسم نفقته الخاص في كل سنة من جزية أهل الذمَّة مبلغ ألفي قرطاس، يصرفه في كسوته ، ونفقته ، ومأكوله ، ومشروبه ، وحوائجه المهمة ، حتى أجرة خياطه ، وطباخه ، ومن ذلك المقرر المعين النزر ، ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر ، ويفضه على المساكين ، وأهل الفقر». (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 39)

3 ـ وأما ما يهدى إليه من الثياب ، والألطاف ، وهدايا الملوك من المناديل ، والسكاكين ، والمهاميز ، والدبابيس ، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه بل يعرض نظره عنه ، وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصِّل أثمانها الموفورة ، ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة. (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 40)

* وأما مقرُّ سكن حاكم الجزيرة ، والشام ، ومصر ، واليمن؛ فكان داراً متواضعة ، تطلُّ على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال ، ألحق بها صُفَّةً يخلو فيها للعبادة ، فلما ضربت الزلازل دمشق ، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب. فهو يبيت فيه ويصبح ، ويخلو بعبادته ، ولا يبرح. ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب.

4 ـ زهده في الألقاب: عندما تَفْقُدُ قيادةٌ ما القدرةَ على الإسهام الجادّ في حركة التاريخ؛ يتحوّل همها إلى منح النياشين ، والألقاب لمن يقدرون من أجل أن تغطي عجزها وانكماشها ، لكن رجلاً فاعلاً كنور الدين يرفض هذه المنح خوفاً أن يكون في طياتها الكذب ، والمبالغة ، والزيف ، وخوفاً أن تقوده إلى نوع من الاعتداد ، والغرور ، كثيراً ما انتهى إليهما القادة العاملون ، أما نور الدين الذي علّمه التجرد كيف يكون الرفض؛ فإنه يتمنع حتى النهاية عن الذهاب مع الإغراء إلى ما يريد الشيطان لا ما يريد الله.

تلقَّى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية ، ومعها «قائمة» بألقابه التي كان يُذْكَر بها على منابر بغداد:…اللهم أصلح المولى ، السلطان ، الملك ، العادل ، العالم ، العامل ، الزاهد ، العابد ، الورع ، المجاهد ، المرابط ، المثاغر نور الدين ، وعدَّته ركن الإسلام وسيفه ، قسيم الدولة وعمادها ، اختيار الخلافة ومعزها ، رضيَّ الإمامة وأثيرها ، فخر الملَّة ومجدها ، وشمس المعاني وملكها ، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها ، محيي العدل في العالمين المظلومين من الظالمين ناصر دولة أمير المؤمنين.

لكن نور الدين أسقط جميع الألقـاب ، وطرح دعاءً واحداً يقول: اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي. وثمة رواية أخرى تمنحنا مزيداً من الأضواء عن الموضع ، وتتضمن كلمات وجملاً من إنشـاء نور الدين نفسه..روي أنه كتب رقعة بخطه إلى وزيره خالد بن القيسراني ـ بعـد أن استفزته كثرة الألقاب ـ يأمره أن يكتب له صـورة ما يدعى لـه بـه على المنـابـر ، وكـان مقصـوده صيـانة الخطيب عن الكذب ، ولئلا يقول ما ليس فيه، فكتب ابن القيسراني كلاماً ودعا له فيه ، ثم قال: وأرى أن يقال على المنبر: «اللهم وأصلح عبدك الفقير إلى رحمتك ، الخاضع لهيبتك ، المعتصم بقوتك ، المجاهد في سبيلك ، المرابط لأعداء دينك ، أبا القاسم محمود زنكي».

فكان جواب نور الدين: هذا لا يدخله كذب ولا تزيُّد. وكتب بخطه في أعلى الصفحة: مقصودي ألاَّ يكذب على المنبر أنـا بخلاف كل ما يـقال. أفرح بما لا أعمل؟ والتفت إلى وزيره قائلاً: الذي كتبت به جيد، اكتب به نسخاً إلى البلاد. (مرآة الزمان، 8/322 ـ 323)

ثم أضاف ثم يبدؤون بالدعاء: اللهم أَرِهِ الحق حقاً اللهم أسعده ، اللهم انصره ، اللهم وفقه..من هذا الجنس. (هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص 274)

إن القيادة التي تريد أن تنهض بالأمة ، وتمارس فقه النهوض في حياتها عليها أن تمنع كل ما من شأنه أن ينمِّي روح النفاق ، والتزلف للمسؤولين؛ لأن ذلك يوفر النقد البنّاء ، وحرية الرأي ، للشعوب حتى يعرف القادة أخطاءهم ، فيصلحوها في حركته النهضوية ، وعلى القيادة أن تتصف بالتجرد لله في أعمالها ، وتزهد في حطام الدنيا الزائل. لقد كان زهد نور الدين زهد المؤمن الذي لا يرغب في الدنيا ، وما فيها من ملذات ، وشهوات ، ويسعى ويعمل للآخرة دار النعيم والخيرات.

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “الدولة الزنكية” للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • من أخلاق النصر في جيل الصحابة د.السيد محمد نوح.
  • عيون الروضتين في أخبار الدولتين، شهاب الدين بن إسماعيل المقدسي.
  • دور نور الدين محمود في نهضة الأمة، عبد القادر أحمد أبو صيني.
  • نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل.
  • هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد عرسان الكيلاني.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى