كتب وبحوث

محنة الإسلام بين عالم مأجور وجاهل متطوع

إعداد : د. خالد سعد النجار

 بسم الله الرحمن الرحيم

رغم كثرة المحن التي تعرض لها الإسلام إلا أن أشدها خطرا وأعظمها نكاية في جسده محنة وقوعه بين براثن عالم مأجور وجاهل متطوع، تلك المحنة التي استهدفت معالمه بالتشويه، فخرج منها بغير صفائه الأول، ومن ثم فقد فاعليته في توجيه الناس إلي حياة مثلى ملئها سعادة الدنيا والآخرة، ومع تزايد الطعنات من أتباع الهوى وطلاب الدنيا، تقهقرت مكانة الدين في النفوس، وتوالت الأزمات والنكبات عندما سار الناس وراء أهوائهم وتركوا تعاليم ربهم، وصدق والله ابن مسعود -رضي الله عنه- حيث قال: ( أنتم اليوم في زمان الهوى فيه تابع للعلم، وسيأتي عليكم زمان يكون العلم فيه تابعا للهوى ) (1)

العالم المأجور

(إن آفة رجال الدين -حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة- أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلي البر ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء من يملكون المال أو السلطان كما كان يفعل أحبار اليهود) (2)

ومواقف الوصوليين – الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا – مواقف قديمة قدم الحق والباطل، فمنها ما ذكره السيوطي أنه قدم على المهدي عشرة محدثين، منهم: فرج بن فضالة، وغياث بن إبراهيم – وكان المهدي يحب الحمام – فلما أدخل غياث قيل له: حدث أمير المؤمنين. فحدثه عن فلان عن أبي هريرة مرفوعا: «لا سبق إلا في حافر أو نصل» وزاد فيه «أو جناح» فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم. فلما قام، قال: أشهد أن قفاك قفا كذاب، وإنما استجلبت ذلك. ثم أمر بالحمام فذبحت (3)

وهذا الفاجر بن هانئ شاعر المعز العبيدي الفاطمي الذي كان يقول للمعز

ما شئت لا ما شاءت الأقدار — فاحكم فأنت الواحد القهار

وقال فيه أيضا:

أرى مدحـه كالمـدح لله إنـه — قنوت وتسبيح يحط من الوزر

وفي أيامنا تلك ما أكثر المداهنين والمروجين للباطل، وما أكثر الشعارات والأحاديث البراقة التي تحمل في طياتها السم الزعاف، وصدق رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» (4)

فمن طليعة هؤلاء هذه الشرذمة التي أطلقت على نفسها (دعاة تحرير المرأة) واستهدفت في حقيقة الأمر عفة وطهارة المرأة، وأرادوا توجيهاها إلى التهتك والرذيلة.

لقد عمدوا إلى الكتاب والسنة يتصفحون أوراقهما، وإلى كتب الفقه والأحكام ينقبون عن اجتهادات الأئمة فيها وأقوال الفقهاء، لعلهم يجدون في ثناياها ما يعينهم على أن يغسلوا عن أنفسهم عار (حجاب المرأة)!! الذي عيرهم به الغربيون، ورأوا فيه أبرز عيوب الإسلام، فإذا بهم يقعون على أقوال لبعض الأئمة تجيز للمرأة أن تبدى وجهها وكفيها، وتخرج كذلك من بيتها لحوائجها. ويؤخذ منها -أيضا- أن المرأة يجوز لها أن تشهد الحرب لسقي المجاهدين ومداواة الجرحى، ثم وجدوا في تلك الأقوال إذنا بخروج المرأة إلى المسجد للصلاة وجلوسها للتعلم والتعليم، فكفاهم هذا القدر من المعلومات لأن يدعوا أن الإسلام قد أعطى للمرأة حرية مطلقة، وأن الحجاب من تقاليد الجهلاء، اتخذه المتأخرون من المسلمين الجامدين المتشددين، ولا أثر له في آية ولا حديث، وإنما القرآن والسنة يعلمان الحياء والعفاف على سبيل التوجيه الخلقي العام، وليس فيهما قانون أو ضابط يقيد حركة المرأة وتنقلها بقيد ما.

لقد أخذ هؤلاء أقصى ما أعطاه الإسلام من حرية للمرأة، واتخذوه نقطة البدء وبداية المسير، فيتقدمون في سبيل الحرية ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام، فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين، بل يجاوزه إلى تعرية الشعر والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيأة القبيحة المعروفة.

وعلى الدرب سار «دعاة الإصلاح» الذين تربوا في دهاليز الغرب العلماني، وانبهروا بتقدمه المادي وغضوا الطرف عما في مناهجهم من إلحاد ومادية وإباحية، ثم عادوا إلى بلادنا ليفتعلوا عداوة بين العلم والدين، في محاولة لإقناع الجماهير بأن الإسلام هو العائق الأوحد في وجه التقدم، وأن تعاليمه العتيقة الرجعية أصبحت لا تناسب عصرنا، وأن سبيل النهضة كما يقول عميدهم المزعوم: ( واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب ) ومن هنا بدأت حملة مسعورة من قبل المستنيرين -على حد زعمهم- على كل ما هو إسلامي.

فهذا يستنكر دور الإسلام في إدارة شئون الحياة، ويندد بالخلافة الإسلامية، ويحاول جاهدا إثبات أنها نظام تعارف عليه المسلمون، وليس في أصول الشريعة ما يلزم به، وأنها قامت على القهر والغلبة، وحرمت علماء المسلمين أن يؤلفوا في العلوم السياسية، لأن الخلفاء كانوا يكرهون هذا العلم، ويعتبرونه أخطر العلوم على سلطتهم، ثم يقرر في النهاية أنه: ( لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم ).

وآخر يهاجم اللغة العربية مؤكدا أنها مظهر تأخرنا اللغوي الذي هو من أعظم الأسباب لتأخرنا الاجتماعي، ويهاجم الذين يتمسكون بالعربية، ويرى فيهم باعثين للأمس، ويقول: ( وما أحرى أهل بلادنا أن ينشطوا من عقالهم طالبين التحرر من رق لغة صعبة المراس، قد استنزفت أوقاتهم وقوى عقولهم الثمينة، وهى مع ذلك لا توليهم نفعا، بل أصبحت ثقلا يؤخرهم عن الجري في مضمار التجديد، وحاجزا يصدهم عن النجاح ) ثم يدعوا إلى مطلبه الأخطر والأعظم وهو ( اتخاذ الخط اللاتيني يحمل الأمة إلى الأمام مئات السنين، ويكسبها عقلية المتمدنين، ويجعل دراسة العلوم سهلة، وهو خطوة نحو الاتحاد البشري ).

وهكذا يتوالى مسلسل الإفساد الفكري والفتاوى المأجورة: كالدعوة لإحياء الحضارات القديمة أو القوميات العرقية لتدعيم الانتماء لها وإذابة الهوية الإسلامية، وكإباحة الغناء والتمثيل والرقص الماجن بحجة أنها من الفنون الجميلة التي لا تتعارض مع الذوق الإسلامي العام، والقول بأن الربا المحرم هو الربا الفاحش وأن الفائدة القليلة لا تدخل نطاق التحريم .. وغيرها وغيرها مما يطول المقام بذكره. نسأل الله الصون والسلامة.

الجاهل المتطوع

طغت السذاجة على البعض حتى ظنوا أن صدق الإخلاص للإسلام كاف لأن ينافح المرء عن دينه ويدعو إليه دون خلفية علمية تمكنه من ذلك. وتحت ستار «مصلحة الدعوة» حدثت تجاوزات وتساهلات شوهت الدعوة، ولقد أجمع العقلاء في كل عصر ومصر على أنه من عمل عملا بغير علم فإنه يفسد أكثر مما يصلح، قال تعالى: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين } [يوسف:108]

( فالبصيرة من أهم أسس الدعوة إلى الله، لأن الدعوة بالجهل تضر أكثر مما تنفع, والبصيرة للقلب كالبصر بالنسبة للعين، وبالبصيرة يفرق المؤمن بين الحق والباطل والسنة والبدعة والمصلحة والمفسدة، ومقام الدعوة مقام خطر تزل فيه أقدام ويضل فيه أقوام، والانحراف فيه يمتد خطره أجيالا، ويتحمل صاحبه أوزارا، ولذا كان تحصيل البصيرة من الفرائض على كل أحد وعلى الدعاة إلى الله خصوصا ) ( 5)

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) (6).

وقد كان السلف -رضي الله عنهم- أبر الناس قلوبا، وأوسعهم حلما، وأغزرهم علما، وما كان أحدهم يستحي أن يقول لما لا يعلمه لا أعلمه، ولا لما يدريه لا أدريه. قال الإمام مالك -رحمه الله-: لأن يعيش الرجل جاهلا خير من أن يقول على الله ما لا يعلم.

وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها. قال: سل. فسأله الرجل عن المسألة، فقال: لا أحسنها. قال: فبهت الرجل، كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء. فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال تقول لهم، قال مالك: لا أحسن.

وما زال الناس يبتلون بهذا الطراز النكد من المتعالمين قديما وحديثا، فيروى أن رجلا كان يفتى كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمه ليس لها أصل هي «الخنفشار» فسألوه عنها، فأجاب على البديهة، بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها.

قال شاعرهم اليماني

لقد عقدت محبتكم فؤادي — كما عقد الحليب الخنفشار

وقال داود الأنطاكي في ( تذكرته ) كذا وقال فلان وفلان .. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستوقفوه، وقالوا: كذبت على هؤلاء، فلا تكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحقق لديهم أن المسكين جراب كذب.

أما اليوم فلقد صارت قضية التعالم داء عضال في جسد الدعوة الإسلامية، ومرجع ذلك حب الدنيا وحب الرياسة فيها، حتى أصبح المتعالم لا يلوى على شيء، كي يشار إليه بالبنان، فاليوم فقيها لا تعجزه فتوى، وغدا مفسرا قد أحاط بكتاب ربنا علما، وبعد غد محدثا محققا .. إلى آخر هذا العبث والكذب والاختلاق والجهل المزمن الذي ليس من الدين في شيء، بل هو من أمارات الساعة. فعن أبى أمية الجمحي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر ) (7)

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا.

وقال بشر الحافي: من أحب أن يسأل فليس بأهل أن يسأل.

ودخل رجل على ربيعة فوجده يبكى، فقال ما يبكي؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه. فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم.

فكيف لو رأى زماننا؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش والمصادر

(1) الزهد الكبير للبيهقي ج2ص165 (2) في ظلال القرآن ص 68 ج 1 (3) تاريخ الخلفاء للسيوطي (4) رواه أحمد / مسند العشرة المبشرين بالجنة رقم 137 (5) فضل الغي الحميد / ياسر برهامي / دار الإيمان – مصر ص 87 (6) البخاري – كتاب العلم رقم 98، مسلم – كتاب العلم رقم 4828 (7) رواه الطبراني ( صحيح ) انظر حديث رقم: 2207 في صحيح الجامع. ‌

  • عودة الحجاب محمد بن إسماعيل الجزء الأول
  • الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر د/ محمد حسين
  • التعالم وأثره على الفكر والكتاب بكر أبو زيد

*المصدر : موقع صيد الفوائد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى