كتب وبحوث

ما ينبغي لإمام المسجد معرفته من الأحكام الفقهية

 

إعداد : د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فهذه رسالة لطيفة في بيان جملة من الأحكام الفقهية الخاصة بإمام المسجد، مما تنبغي معرفته، والتذكير به؛ لأهميته، أو لقلة من ينبه عليه، أسأل الله تعالى أن ينفع بها من قرأها، أو قرئت عليه، اللهم آمين.

توطئة:

الإمام: في اللغة: مأخوذٌ من أمّ يؤم إذا قصد، ومنه التيمم، فالإمام من اُقتدي به في أمرٍ، وإمام الصلاة من تبعه الناس في أدائها جماعةً.

وصلاة الجماعة: هي اجتماع المصلين لأداء الصلاة في مكان، وزمان واحد.

♦ وصلوات الجماعة على أقسام:

1 – منها ما يتكرر كل يوم؛ كصلاة الفرائض.

2 – ومنها كل أسبوع؛ كصلاة الجمعة.

3 – ومنها كل سنة؛ كصلاة العيدين والتراويح.

4 – ومنها ما يتكرر في المناسبات؛ كصلاة الكسوفين والاستسقاء.

والمسجد: يطلق على مكان السجود وأعضائه، كما يطلق على محل إقامة الصلوات المفروضة.

والمسجد على المعنى الثاني له إطلاقان:

1 – الإطلاق العام: فيطلق على الأرض كلها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:” جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا”.

2 – الإطلاق الخاص: ويطلق على ما أذن صاحبه بالصلاة فيه مطلقًا،[1] أو ما أعدّ للصلاة فيه دائمًا، وجُعل خاصًا بها؛ سواءً بني أو لم يبنَ.[2]

وللمسجد رسالة عظيمة في الإسلام:

1 – فهو محل إقامة الصلوات، وإظهار الشعائر الدينية.

2 – وهو محل تعارف الناس، والسؤال عن أحوالهم، ومساعدة بعضهم لبعض، وتشاورهم في أمورهم الدينية والدنيوية.

3 – وهو محل طلب العلم، والتزود منه، ونشره بين الناس، والاستفـتاء، والالتقاء بأهل العلم.

4 – وهو كذلك محل تسيير الجيوش والسرايا، واستنهاض الهمم بتتبع أحوال المسلمين، إلى غير ذلك من جوامع إقامة الدين، ونشر الخير بين الناس في شتى المجالات.

♦ وقد اختلف أهل العلم: هل الإمامة أفضل أم الأذان؟.

1 – فقيل الإمامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولاها بنفـسه، وكذا خلفاؤه من بعـده، ولأنها أُنيطت بالأقرأ والأعلم؛ فدل ذلك على فضلها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للأئمة بالرشاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين”.

2 – وقيل: الأذان، لأنه أشق، وفيه دعوة عموم الناس لهذا الخير، ولكثرة الأحاديث الواردة في فضله.

أحكام مستنبطة من إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وتوجيهاته:

وينبغي أن تكون الإمامة في أصحاب العلم والتقوى والصلاح، وغير العالم بأداء الصلاة لا يقدم على العالم بها اتفاقًا، ويقدم الأقرأ، وهو الأكثر حفظًا للقرآن، وتصح الصلاة خلف الفاسق، مع كراهتها، ويحرم على إمام المسلمين تنصيبه، وإن طرأ الفسق على الإمام عُزل عن الإمامة، وتصح إمامة الصبي بالبالغين في الفرض والنفل، وتصح إمامة المرأة للنساء، لا للرجال، وتقف في وسطهن، وتصح إمامة الأعمى، ولا تصح إمامة أميّ لقارئ.

والأذان متعلق بنظر المؤذن، والإقامة بنظر الإمام، ويتأكد عليه قبل الصلاة اتخاذ السترة، وأن يحرص على تسوية صفوف المصلين، ويقبل عليهم بوجهه، ويحثهم على ذلك، وتتحقق تسوية الصفوف بثلاثة أشياء: الأول: إتمام الصف الأول فالأول، وسدّ الفرج بالتراصّ، والثاني: التقارب بين الصفوف، وبين الصف الأول والإمام، والثالث: استقامة الصف بالمحاذاة بين الأعناق، والمناكب، والأكعب، لا برؤوس الأصابع، ولا يسمح لهم أن يتقدموا عليه، وإذا علم الإمام أن المأمومين قد انضبطوا في تسوية في الصفوف شُرع له ترك تنبيههم.

ولا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة، بل لو صلى منفردًا، فالتحق به بعض المصلين جاز، وإن ابتدأ الإمام الصلاة قاعدًا صلوا خلفه قعودًا، وإن ابتدأها قائمًا، ثم اعتلّ فجلس، صلوا خلفه قيامًا، وللإمام الراتب إذا جاء – ولو بعد أن فرض الناس بالصلاة – أن يتقدم ليؤمهم، فإن فاتته ركعة فأكثر، فالأولى ألا يتقدم.

ويستحب أن يجهر بآمين، ويمد بها صوته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل قراءته، ويقف على رؤوس الآي، ويقرأ في كل ركعة سورة، وتارة يقسمها في الركعتين، وتارة يجمع في ركعة بين سورتين، ويطيل الركعة الأولى، ويقصر الثانية، ويقرأ في صلاة الفجر بطوال المفصل، وأحيانًا الواقعة، والطور، وق، ويقرأ أحيانًا بقصار المفصل؛ كالتكوير، والزلزلة، والمعوذتين، ويقرأ أحيانًا ستين آية فأكثر، ويقرأ الروم، ويس، والصافات، وفي الجمعة بالسجدة والإنسان، ويقرأ في صلاة الظهر في كل من الركعتين قدر ثلاثين آية، قدر قراءة ألم تنزيل السجدة، ويقرأ أحيانًا بالطارق، والبروج، والليل، والانشقاق، ويجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين قدر النصف، قدر خمس عشرة آية، ويقرأ في صلاة العصر في الأوليين قدر خمس عشرة آية، قدر نصف ما يقرأ في كل من الركعتين الأوليين في الظهر، ويجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين قدر نصفهما، وكان يسمعهم الآية أحيانًا، ويقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل، وأحيانًا بطوال المفصل وأوساطه، ويقرأ أحيانًا الطور، ومحمد، والمرسلات، وأحيانًا الأعراف، ويقرأ في صلاة العشاء في الأوليين من وسط المفصل؛ كالشمس، والانشقاق، ويقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقون أحيانًا، وأحيانًا بالجمعة والغاشية، وتارة بالأعلى والغاشية، ويقرأ في العيدين بهما، أو بـ ق، والقمر.

ويسكت سكتتين في الجهرية، سكتة قبل القراءة، وسكتة يسيرة بعد القراءة كلها، وقبيل الركوع، وله أن يستفتح المصلين إذا تعايا في القراءة، وإذا سجد للتلاوة في الصلاة يكبر في الخفض والرفع، ولا يسجد فيها مع سجدة ص.

ويأتي بالتسميع والتحميد، ويشرع تبليغ تكبيراته عند الحاجة، ويجوز أن يخصّ نفسه بالدعاء إن دعا سرًا.

ويصح أن يعود الإمام مأمومًا، والمأموم إمامًا، والمنفرد إمامًا، فإذا سلم الإمام بدأ بذكر: استغفر الله ثلاثًا، اللهم أنت السلام ومنك السلام، وتباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف.

توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم للأئمة في عهده:

(1) عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: يا رسول الله اجعـلني إمام قومي، فقال: “أنت إمامهم، واقـتدِ بأضعفهم، واتخـذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا”، أخرجه الخمسة، وفي لفظ: “اقدر القوم بأضعفهم”.

(2) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة، (وفي رواية للبخاري: إني لأتأخر عن صلاة الغداة) مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظةٍ أشد غضبًا من يومئذٍ، فقال: “أيها الناس، إنكم منفرون فمن صلى بالناس؛ فليخفف، فإن فيهم الصغير، والكبير، والضعيف، وذا الحاجة، [وفي بعض ألفاظ الحديث: السقيم، أو المريض]، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء”، متفق عليه.

(3) وعن جابر قال: صلى معاذ بأصحابه العشاء، فطوّل عليهم، وفي رواية عند البخاري: أنه قرأ بسورة البقرة أو النساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أتريد أن تكون يا معاذ فتانًا؟ [لا تطوّل عليهم]، إذا أممت الناس، فاقرأ: بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا يغشى”، متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي بعض الروايات: الضحى، والطارق، والبروج.

(4) وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه عند أحمد أن آخر ما فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: “إذا صليت بقوم فخفف بهم، حتى وقت لي اقرأ باسم ربك الذي خلق”، وعند ابن أبي شيبة قال: وقت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وأشباهها من القرآن.

والتخفيف الموافق للسنة:

(1) ألا يخل بواجبات الصلاة، وتكره السرعة التي تمنع المأموم من فعل ما يسن، أو تشق على من يتابعه من كبار السن.

(2) وألا يؤدي لفتنة الناس بتنفيرهم عن الصلاة، وهذا يختلف باختلاف وقتها، واستعداد الناس لها، وجودة قراءة الإمام، وكونها فريضة، أو نافلة يسن فيها التطويل، أو كونهم جماعة محصورين راضيين بالتطويل.

(3) أن يراعي حال الضعيف، والكبير، والصغير، وذي الحاجة، ويختار لهم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يشق عليهم، فإن اختلفوا اقتدى بأضعفهم.

ومنه يظهر أن سبب التخفيف: حضور من لا يطيق الإطالة؛ لمرض وضعف، أو لصغر، أو كبر، أو انشغال فكر بحاجةٍ، ولو دنيوية.

(4) ومع مراعاة الإمام للأحوال المعتادة، ينبغي عليه أن يراعي كذلك الأحوال الطارئة، ومن صور ذلك: ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: “ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة، ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه”، وفي رواية: “مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه”، وفي أخرى: “كراهية أن أشق على أمه”، وفي لفظ: “إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوز في صلاتي”؛ فدل على جواز الإطالة إذا علم رضا المأمومين بذلك، مع مراعاة ما يطرأ من حال.

أحكام راعتها الشريعة لحفظ هيبة الأئمة:

ارتسمت خطوط عريضة في الشريعة؛ لتحفظ لأئمة المساجد هذه المكانة، ومن ذلك:

(1)  طريقة اخـتيار إمام المسجد، فيختار الأفضل فالأفضل؛ ولذا استدل الصحابة رضي الله عنهم على أحقية أبي بكر الصديق رضي الله عنه بتولي الخلافة الكبرى بتقديمه في إمامة الصلاة، وقالوا: رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا.

(2) ارتبـاط إقامة المؤذن للصلاة بحضور الإمام، وقيام الناس لها برؤيته.

(3) أن موضع الإمام موضع التقـدم، ثم يلي الإمام أهل العلم والفضل، فيقومون خلفه.

(4) متابعة الإمام في أفعاله الظاهرة، وحرمة مسابقته، أو موافقته، أو التأخر عنه.

(5) أن المأموم لا ينبغي له أن يسبق الإمام بالانصراف من الصف، حتى ينصرف الإمام من موضعه.

(6) تغيير هيئة الصلاة في حالة الخوف على أوجه متعـددة جاءت بها السنة، وقد كان يمكن اتخاذ إمامين، يصلي بكل طائفة إمام، وتترك الصلاة على هيئتها.

(7) أن الإمام يتحمل بعض الأفعال والأقوال عن المأمومين؛ مثل السترة، والتشهد الأول إذا استتم قائمًا، وسجود السهو، وقراءة الفاتحة على قول له وجه، وجلسة الاستراحة على قول راجح.

(8) ومن الأحكام المنوطة بالإمام الراتب: كراهة الجماعة الثانية في مسجد فيه إمام راتب، (المغني لابن قدامة، 2/ 11)، وأفضلية صلاة الرجل ذي المكانة في مسجد قومه جبرًا لخاطر للإمام، (إعلام الموقعين لابن القيم، 2/ 160)، وتحريم الإمامة في مسجد به إمام راتب بغير إذنه، أو عذره؛ لعدم الافتيات على الإمام، أو التقدم على حقه، (وشرح النووي لمسلم، 4/ 365، الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 218)، بل للإمام إن جاء متأخرًا أن يدخل مع نائبه في الصلاة، أو أن يتقدم ويؤمهم، ( فتح الباري، 2/ 394)، وموافقة المأمومين للإمام في اجتهاداته ما دام أن لها اعتبارًا مستساغًا، ( فتاوى ابن تيمية، 23/ 371)، وتقديم الإمام الراتب على من هو أعلم منه، أو أفقه منه في الإمامة في مسجده، (الشرح الممتع لابن عثيمين، 4/ 291،299)، ومن أوضحها كذلك في بيان مكانة الإمام: أن يترك المأموم ركن القيام متابعةً لإمامه، وقد نقل ابن قدامة في المغني (2/ 50) عن الإمام أحمد قوله: ذلك لإمام الحي لأنه لا حاجة بهم إلى تقديم عاجز عن القيام إذ لم يكن الإمام الراتب، فلا يتحمل إسقاط ركن في الصلاة لغير حاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك كان هو الإمام الراتب.

ومما يوصى به لحفظ هذه المكانة:

1)  تطبيق ما سبق من سنن غائبة كفيلٌ بإحياء دور الأئمة، وإعادة هيبتهم في صدور الناس، على نحو ما أراد الشارع الحكيم.

2)  ضبط الأئمة لأفعالهم وأقوالهم وقراءتهم، حتى لا يكثر الخلل والسهو، أو الغلط الكثير في القراءة مما يُذهب بالهيبة أو بعضها.

3)  ترك بعض الأمور الني تبعث على تشويش صورة الأئمة عند الناس، مما ليس بآكد من حفظ هذا المقصد العظيم.

4)  عدم تقـديم أحد مقام الإمام للنيابة عنه مطلقًا، أو باستثناء صلاة التراويح إلا من تأهل لذلك، واكتسب محبة الناس.

5)  اهتمام الأئمة بإقامة الصفوف على الوجه الذي يمكن لهم من إقناع الناس بضرورة دورهم لإقامة الصلاة وأمور المسجد.

6)  الاجتهاد في القيام بالأعمال الأخرى المناطة بالمسجد؛ من تعليم ودعوة وخطابة وغير ذلك، مما يعيد للإمام مكانته اللائقة.[3]

7) الاهتمام بالإحسان إلى عوام الناس، والترفق بهم، ونفعهم ما استطاع؛ حتى لا يؤم قومًا هم له كارهون.

والله تعالى أعلى وأعلم.

———————————————

[1] ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة، (8/ 271).

[2] ينظر: المجموع الثمين، للعلامة العثيمين، (12/ 394).

[3] راجع تكرمًا: رسالة الوسائل العملية لإحياء رسالة المسجد، للمؤلف.

*المصدر : موقع الألوكة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى