كتاباتكتابات مختارة

لماذا يغيب الحل الإسلامي عن خطاب دعاتنا ومصلحينا؟

بقلم أحمد التلاوي

من نافل القول التأكيد على أن العالم من حولنا يتطور بشكل متسارع، وباتت حتى عبارة مثل “عصر السرعة”، من الماضي المنتهي، بل إنها حقيقة أن فكرة دخول العالم عصر الثورة الصناعية الثالثة التي تعتمد على الاستغلال المكثَّف للمعلومات، والتي كان العالم يناقشها في السنوات القليلة الماضية مع دخوله إلى عصر الرقميات، صارت بدورها قديمة.

فالعالم دخل بالفعل إلى عصر الثورة الصناعية الرابعة، التي تستند إلى منظومة من الأطر السايبرانية التي خلقت فيما بينها عالمًا افتراضيًّا متكاملاً، صار هو الأساس لدى مئات الملايين وربما المليارات حول العالم.

وتتضمن هذه الأطر، مفردات مثل التجارة الإلكترونية والعالم الاجتماعي الافتراضي، حيث يلتقي الناس ويبيعون ويشترون وربما يتزاوجون عبر أسلاك السايبرانية.

هذه التطورات وغيرها، خلقت واقعًا جديدًا للإنسانية، في مختلف مجالات التفاعل البشري، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وحتى منظومة القيم والأخلاقيات، بل وطرائق التفكير والمنطق نفسها لدى البشر.

وبالتالي، فقد ظهرت الكثير والكثير من المشكلات التي أضيفت على مشكلات أخرى تعانيها في الأصل مجتمعاتنا المسلمة في ظل كونها في مرتبة أدنى من السُّلَّم الحضاري.

في ظل هكذا واقع، يُضاف عليه من الأصل حقيقة مهمة، أن الأمة تواجَه بحرب في عقائدها وقيمها، بل وفي وجودها نفسه، بينما نجد أن الخطاب الدعوي لا يزال يقف عند حافة المثاليات والتنظير.

الأمة تواجَه اليوم بحرب في عقائدها وقيمها، بل وفي وجودها نفسه، بينما نجد أن الخطاب الدعوي لا يزال يقف عند حافة المثاليات والتنظير

فمن بين أسوأ الآفات التي نجدها في بعض العلماء ودعاة الإصلاح -بفرض أنهم أهل لذلك- الخطاب المثالي الساذج الذي لا يعالج أية مشكلات، ولا يتضمن أية خطوات عملية لمواجهة الواقع المحسوس ، حيث يركز فقط على ترديد الأصول التي لا خلاف عليها وتشكِّل فيما بينها المنظومة العقيدية والأخلاقية في الإسلام.

فلا يتم الخوض في الجوانب التطبيقية لأية مشكلات قائمة على أرض الواقع.

بطبيعة الحال، فإن الإيمانيات من أهم معينات الإنسان للتغلب على مشكلاته، لكن الأمر فيه نقطتان:

الأولى- أن هذا الجانب ضعيف في الأصل في أوساط المسلمين في ظل عقود، بل وربما قرون طويلة من الابتعاد عن الدين بمفاهيمه الصحيحة، بأطره التربوية ومنابر التنشئة الحقيقية فيه، مثل الأسرة والمسجد والمدرسة.

وبالتالي، فإنه قبل أن تطلب من الإنسان الاستعانة بالإيمانيات والعبادات في التغلب على مشكلاته، ينبغي عليك تأهيله لها أولاً، وهذا كان منهج النبوة الناجح الذي ظل النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” ثلاثة عشر عامًا يربي الناس عليه، ولذلك فتح الله تعالى على المسلمين العالم القديم بإمبراطورياته كافة، في أقل من ثلاثين عامًا.

قبل أن تطلب من الإنسان الاستعانة بالإيمانيات والعبادات في التغلب على مشكلاته، ينبغي عليك تأهيله لها أولاً

النقطة الثانية- أن هناك حقيقة عقيدية يتجاوز عنها الكثير من العلماء والدعاة وهم يحددون للناس ماهية “الحل الإسلامي”، أو كيف يكون الإسلام هو الحل بالمعنى الحقيقي الكامل للعبارة، وهي ضرورة الأخذ بالأسباب.

بل إن الإيمان بالأسباب جزء من الإيمان برب الأسباب؛ لأن طلاقة القدرة التي تغني عن الأخذ بالأسباب هي لله عز وجل وحده فقط، وبالتالي، لتحديد الفارق بين الخالق والمخلوق، فإن الخالق هو الغني الحميد، بينما المخلوق دائمًا ما يكون في حالة عوز واحتياج، سواء لخالقه، أو للأمور التي خلقه الله تعالى عليها، مثل الطعام والشراب وغير ذلك.

وهذه أمور، المسلم فيها متساوٍ مع غير المسلم، فكما يقول القائل: لو رمى مسلمٌ وكافر نفسيهما في البحر، فسوف ينجو الذي يعرف العوم منهما؛ حيث قوانين الله تعالى لا تحابي أحدًا!

وهنا تكمن مشكلات الكثير من الدعاة، حتى في أوساط الحركيين والصحويين الذين هم من المفترض أنهم الأقرب إلى الواقع العملي على الأرض، والأكثر احتكاكًا بقضية الأسباب والنواحي الموضوعية للمشكلات، حيث لا تجدهم يعلمونك العوم.

فهناك من تحدثه في أمور وقضايا ذات طابع موضوعي، ومشكلات قائمة بحاجة إلى معالجات تطبيقية موضوعية بحتة، وبحاجة للأخذ بأسباب عديدة لأجل ذلك، تجده يردد الخطاب المعنوي المتسامي الذي لا علاقة له حتى بالجانب الإيماني الخاص بالأزمة التي تمر بها.

فهناك من يكون طفله على وشك الموت مرضًا، فتجد من ينصحه بأن يخلص النية وأن يحب الناس من حوله. فهل هكذا شفي طفله؟!

ويعكس ذلك مشكلة مفاهيمية شديدة الأهمية في مدركات هذه العينة من “العلماء” والحركيين، وهي غياب حقيقة عمرانية مهمة خلقنا الله تعالى في سياقها؛ حيث خلقنا الله عز وجل في عالم يعج بالأمور التي تحتاج من الإنسان إلى أفعال وتحركات، وبالتالي، هو بحاجة إلى مَن يعلمه كيف يفعل وكيف يتحرك وبأية صورة وفق الآليات التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية، فلا يأتي فعلاً محرَّمًا.

كذلك هو بحاجة إلى موارد تنفقها، سواء مال أو جهد أو وقت، وبالتالي، هو بحاجة لمن يقول له كيف يتصور الإسلام، وكيف تتصور الشريعة كسب الإنسان للمال، وكيفية الحفاظ على موارده منه، وكيفية إنفاق وقته وجهده في الاتجاه الفلاني الذي يشكل منظومة تحركاته لمعالجة مشكلاته.

أما الاستناد إلى التصورات “العلوية” هذه فقط، فهذا ينقل الدين للأسف إلى خانة يتهمه بها الكثيرون من خصومه وخصوم الدعوة، وخصوصًا العلمانيين والماديين والملحدين، مثل “الدروشة” كما تُتَّهم بعض الصوفية، أو أنه “مجرد أداة لجماعات” تريد إحكام سيطرتها على أتباعها، أو “مخدر” أو ما شابه، حاشا لله تعالى.

الاستناد إلى التصورات “العلوية” هذه فقط، فهذا ينقل الدين للأسف إلى خانة يتهمه بها الكثيرون من خصومه وخصوم الدعوة، وخصوصًا العلمانيين والماديين والملحدين، مثل “الدروشة” كما تُتَّهم بعض الصوفية، أو أنه “مجرد أداة لجماعات” تريد إحكام سيطرتها على أتباعها، أو “مخدر” أو ما شابه

ولو نظرنا إلى النموذج النبوي، الذي هو نبراس كل مسلم، وهو القدوة الحسنة بنص القرآن الكريم، فإن النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، كان قد في بشر في بعض الحالات الصعبة، وهو ما قد يستغله الكثير من القادة الحركيين في وقتنا الراهن لأجل إلهاء الصف عن الواقع، أو صرفهم عن المشكلات القائمة من دون جذر حقيقي تكون معه معالجات الموقف.

وإننا نقول إن الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينما بشر في هذا الموقف أو ذاك، فقد كان نبيًّا، ويعلم أن الله تعالى سوف يفعل كذا وكذا في المجال التطبيقي وليس مسألة ثقة في الله تعالى فحسب؛ لأن الله تعالى أطلعه “بالفعل” على أمور مستقبلية كثيرة، وكشف له حُجب الكثير مما يحيط به، مثل المنافقين واليهود ومؤامراتهم وغير ذلك.

في المقابل، كان الناس يثقون في مرئياته المستقبلية؛ لأنهم يؤمنون أنه نبي، وأنه مؤيد من ربه، والقرآن الكريم قال لهم إنه لا ينطق عن الهوى.

كذلك لم يكن تسليمهم له “عليه الصلاة والسلام”، عن إيمانيات فحسب، وإنما هم وثقوا فيه وسلموا له مصيرهم وآمنوا به عن بينة؛ لأن الله تعالى أراهم دلائل نبوته ورسالته.

فحتى في هذه الحالة، أتى الله تعالى بأدلة مادية موضوعية لإقناع الناس.

كما أن محمدًا “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” نفسه لم يجلس يتفيأ في ظلال الكعبة ويتمنى على ربه سبحانه وتعالى، ويشارك الناس محبتهم، بل إنه عمل واجتهد وذهب هنا وهناك وأوذي، وشاءت حكمة الله تعالى أن يمرّ النبي “عليه الصلاة والسلام” بكل الخبرات التي يمكن أن يمر بها مسلم بعد ذلك؛ لكي نفهم هذه الحقيقة، أننا لابد أن نخرج إلى الواقع بخطابنا وحركتنا، وأن نأخذ بالأسباب.

فالله تعالى لم يحابِ نبيه “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، وهو أكثر أهل الأرض إيمانًا، وأخلصه الله عز وجل لنفسه، بل جعله الله سبحانه يخوض متاهات الحرب، ومشاق السياسة  ودهاليز العمل السري من مؤامرات ودسائس وعمل مضاد، وذلك إلى أن تمت له إقامة الدولة، ثم فتح مكة المكرمة، فظهور الدين على شبه الجزيرة العربية بالكامل.

فهذا النبي، فمَن أنت أو أنا؟!.. كيف يمكن أن أقنِع الناس بكلام مثالي غير عملي قائم على التنظير، بينما أطفالهم يموتون جوعًا أو مرضًا أو بغاز الكلور، أو لا يجدون هم أنفسهم قوت يومهم.

النتيجة المؤسفة أن الكثير من الناس قد انصرفت عن دينها؛ لأن الإيمانيات لم تنغرس فيهم بشكل سليم، فيما لم يجدوا في الدين حلولاً لمشكلاتهم، بينما هذا من صميم وظائف الدين كما أرادها الله عز وجل.

النتيجة المؤسفة أن الكثير من الناس قد انصرفت عن دينها؛ لأن الإيمانيات لم تنغرس فيهم بشكل سليم، فيما لم يجدوا في الدين حلولاً لمشكلاتهم، بينما هذا من صميم وظائف الدين كما أرادها الله عز وجل

الحلول العملية موجودة، لكن الكثير من متصدري المشهد الدعوي والحركي لا يفكرون في استظهارها، بينما النفس الإنسانية جُبِلَتْ على الضعف، ولها احتياجاتها، والله تعالى هو الذي خلقها، فهو يعلم عنها ذلك… يقول تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [المُلْك:14]، لهذا جعل لذلك “إجراءات” للتعامل، مثل سهم المؤلفة قلوبهم مثلاً، والذي أوقفه سيدنا عمر بن الخطاب “رضي اللهُ عنه” لمَّا ثبت الدين واطمأنت دولته في الأرض.

إن مفهوم الحل الديني لمشكلاتنا، قاصر عند الدعاة بشكل عام، وكما قال البعض: إن التيارات الدينية التي تزهد في استعمال العقل أو تعتبر استعماله تجاوزًا للنص الشرعي، جعلت الدين معزولاً عن الحياة، وينتهي لمَّا يطوي الإنسان سجادة الصلاة!
من ناحية أخرى، فإن بعض الجماعات جعلت الدين العملي لو صحَّ التعبير، صنوًا لها، إما لخدمة تنظيم أو لخدمة أفكار غير سوية أو غير سليمة عن “الجهاد” مثلاً.

كما أن الحل الديني لمشكلاتنا قاصر في نقطة أننا سوف نجده فقط وتفصيلاً في القرآن الكريم.

وهي نقطة يجب شرحها بدقة للناس؛ لأنهم سوف ينصرفون فورًا إذا ما بحثوا بالمفهوم الضيق لفكرة أن القرآن الكريم به كل حلول مشاكلنا كما يقول بعض المتحمّسين.

فالقرآن الكريم أتى بقواعد عامة، وذلك لحكمة شاءها الله عز وجل؛ لكي يكون صالحًا لكل الأزمان والأمكنة، لكن القرآن دعانا للبحث عن حلول مشكلاتنا في كتب الإدارة والاقتصاد والسياسة، فلا يتعارضان .

في القرآن الكريم هناك –مثلاً– قاعدة اقتصادية ومعيشية وسلوكية مهمة. ولا تسرفوا.. ولا تبذِّروا.. لكن تطبيقها العملي متروك للعلم والعقل والأسباب وهكذا.

وفي الأخير، فإن في ديننا، هناك دنيا وآخرة، وهناك ماديات ومعنويات، وهناك نفس وجسد، وهناك واقع له باب كامل في الفقه، يتجاوزه الكثيرون، بحيث لا يقول أحدٌ إلى الآن بدقة للناس: كيف الإسلام يكون الحل، بينما هو كل الحل!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى