كتب وبحوث

كتاب مسفر القحطاني.. الوعي المقاصدي في مجال حاجتنا الى الإصلاح الهادف والتغيير

بقلم عبد الله علي العليان

ترسيخ الوعي المقاصدي واستلهام روح الشريعة واكتشاف أهدافها ومقاصدها العامة، من الروافد الضرورية لفهم مكوناتها في المصلحة الشرعية لاكتشاف أدلة الأحكام بما يؤدي الى غايات الإسلام في تحقيق مصلحة الإنسان أو دفع مضرة عنه، لذلك فإن تعميق الوعي المقاصدي من خلال العمل بمقاصد الشريعة حاجة ماسة مع ظهور الكثير من المستجدات في عصرنا الراهن. ومن الدراسات التي اهتمت بهذا الجانب ما كتبه الدكتور مسفر بن علي القحطاني في مؤلفه الذي صدر عن الشبكة العربية للأبحاث في بيروت، وحمل عنوان “الوعي المقاصدي… قراءة معاصرة للعمل بمقاصد الشريعة في مناحي الحياة”.

غايات المقاصد

وفي تمهيد هذه الدراسة القيّمة يطرح القحطاني مسفر قضية تعريف مقاصد الشريعة بأنها المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في كل أحكامه أو معظمها، وهي الغاية التي من أجلها وضعت أحكام الشرع على الرغم أن مصطلح مقاصد الشريعة مصطلح مستعمل ورائج عند العلماء قديماً وحديثاً، لكنني – كما يقول د. مسفر: “لم أجد كما لم يجد غيري من الباحثين، تعريفاً دقيقاً لمصطلح المقاصد عند الأصوليين أو غيرهم من العلماء الأوائل.

حتى ان إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله الذي ألف في المقاصد تأليفاً لم يسبقه اليه أحد، لم يعرّف المقاصد، ولم يحرص على توضيح معناها، ولعل ما مهّده في تعريف المقاصد، كونه ألف الموافقات لفئة خاصة من الناس وهم العلماء وليس جميع العلماء، بل الراسخون في علوم الشريعة، وقد نبّه على ذلك صراحة بقوله: “ولا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريّان من علم الشريعة أصولها وفروعها ومنقولها ومعقولها غير مخلد الى التقليد والتعصب للمذهب”.

وفي الفصل الأول “أثر الوعي المقاصدي في منهجية الإفتاء المعاصر”، طرح مسفر أربع مسائل يرى أنها تلعب دوراً كبيراً في منهجية الافتاء، هي، أهمية الافتاء ومقامه في الشريعة، وفقه التيسير في الشريعة، والإفتاء بالتيسير بين الغالين فيه والجافين عنه، من ضوابط التيسير في الإفتاء، وقد استعرض الباحث في هذه المسائل أثر الوعي المقاصدي في منهجية الكثير من المجتهدين في العصور المتأخرة طارحاً مناهجهم، طرق ضوابطهم، مدى تقديرهم لكل فتوى وفق ظروف ووقت وحاجة المجتمع والبلاد اليها.

لكن الباحث يرى أن هناك الكثير من الآداب والضوابط ذكرها العلماء في معرض حديثهم عن الاجتهاد وأدب المفتي أعرضت عن بعضها لعدم الحاجة اليها في عصرنا الحاضر، كما أغفلت عن بعضها الآخر رجاء عدم الإطالة والتشعب.

ولعلي أكتفي – كما مسفر – بجملة من الضوابط المجملة ذكرها الإمام الخطيب البغدادي يحسن إيرادها في خاتمة هذا المبحث وهي كما قال رحمه الله: “ينبغي – أي للناظر المجتهد أو للمفتي – أن يكون: قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صاحب أناة وتؤدة، وأخ استثبات وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة مستوقفاً بالمشورة، حافظاً لدينه مشفقاً على أهل ملته، مواظباً على مروءته، حريصاً على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعاً عن الشبهات، صادفاً عن فاسد التأويلات، صليباً في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى، وطرق الاجتهاد، ولا يكون ممن غلبت عليهم الغفلة، واعتورهم دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفاً بالاختلال، يجيب بما لا يسنح له، ويفتي بما يخفى عليه”.

فقه العمران

وفي الفصل الثاني “الوعي المقاصدي بفقه العمران الحضاري” يرى الباحث ان هذا الجانب المهم لم يحض باهتمام كافٍ لكونه لصيق بحياة المسلمين ونظرتهم الى التحضر والتقدم المنشود باعتباره رهن المستقبل للأمة المسلمة في انطلاقتها لتحقيق أهدافها في مسيرة النهوض المرتجى الذي تسعى اليه الأمة في بناء قدراتها العقلية والفكرية والتنمية السليمة والواعية بسنن التحضر المدنية، وهذا لا يتأتى إلا إذا أدركت الأمة أهمية الوعي الحضاري” ومنزلته في إحداث التغيير لمجتمعاتنا المتخلفة وتأصيل مشروعية فقه العمران، أرى من المهم العمل الجاد في ابراز هذه الجوانب في فكر الأمة، وتشجيع التوجه نحو صياغة الذهنية الإسلامية لتأطير الوعي في كل مناحي الحياة.

وكل مشروع يراد له النجاح في أرض الواقع حتى لو بلغ من التخطيط والإعداد منتهاه، ولكنه لم تعه العقول النافذة ولم تدركه إفهامهم، وأقحموا في التنفيذ من غير وعي، فسوف يكون الحال بخلاف ما عليه التخطيط للمشروع، لذلك نحتاج في اعادة عمران مجتمعاتنا الى “اعادة تشكيل الذهن وتعميق التصور وتنمية الفكر نحو الرسالة الحضارية للإسلام بكل شمولها للمجالات العبادية والعمرانية وعمومها للزمان والمان والأفراد. فالبدء بالوعي هو أشبه بخطاب لعقل المسلم يعيد فيه قراءة الشريعة الإسلامية التي جاءت بالإشهاد على الناس من خلال سماحة الشرع وتقدمية أحكامه ودوره في علاج مشكلات المجتمعات والنهوض بأفرادها”.

المقاصد وأزمة التطرف

في الفصل الثالث من الكتاب يتحدث مسفر عن “الوعي المقاصدي وأزمة التطرف” مبرزاً ضرورة الأمن الذي تنشده “مقاصد الشريعة” في استقرار المجتمع والحفاظ على حقوق المسلمين وحياتهم وأموالهم من الاعتداء، وأولوية عصمة دماء المعصومين في الإسلام، وشرح الباحث في هذا الفصل الآراء الفاصلة في قضية الاستدلال الناقص في فهم نصوص الشريعة ومقاصدها الكلية من قبل بعض الغلاة، خصوصاً بعض الأعمال التفجيرية والتخريبية التي حدثت في السنوات الماضية في بعض البلاد العربية والإسلامية، ويرى الباحث أن الأزمة”التي مرت ببعض التجمعات الإسلامية أنتجت تطرفاً وغلواً على الصعيد الديني والسياسي والاجتماعي، والأسباب التي أنتجت هذا التطرف كثيرة ومعقدة ولكن عتاب الفقه الصحيح للنصوص الشرعية والجهل بمقاصد التشريع للجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان سبباً رئيسياً بل هو قاسم مشترك في أدبيات تلك الأفكار المتطرفة.

نقد العقلية

وفي الفصل الرابع “الوعي المقاصدي وأثره في بنية العقل المسلم”، يرى القحطاني أن هذه القضية تحتاج الى نقد وتحليل بصورة أكبر وأفضل لمناقشة الخلل في التراجع والذبول في العقلية العربية المسلمة وغياب التجديد والاجتهاد. لكن يرى أن ما قام به البعض من أمثال أركون وشحرور وحسن حنفي وجمال البنا والجابري، لا يرقى الى مستوى المنهجية التي تتوافق مع روح الأمة وتوجهاتها وقيمها في مسائل الاستدلال المبني على النصوص الشرعية بصورة دقيقة وعادلة، بل أن هذه المنهجية تستمد من الأدوات المعرفية لفلاسفة الأنوار الغربيين وصراعهم مع الكنيسة الخ – مضيفاً – أن الجابري”في مشروعه الكبير نقد العقل العربي قد ساهم بشكل كبير في تحليل ذلك الواقع الى حد ما.

لكن مساهمات الآخرين كانت أقل جهداً، وأقصر نظراً، بل بعضها أكثر تطرفاً عن المنهج الإسلامي، فتوصلت بالتالي الى نتائج فلسفية غير واقعية ما زالت خاصة بدوائر بعض المثقفين من التيار العقلاني، من دون أن تشمل كل أطياف الفقه والاجتهاد الديني لدى المسلمين.

ويطرح مسفر في ختام هذا الفصل أن العقل الغربي في عصرنا الراهن يتراجع ويهتز، بل وينقض من أساسه، والسبب – كما يراه – هو ثغرات واضحة في العقل المادي ومركزيته في النهضة الغربية الحديثة. بينما دور العقل المسلم لا يزال قاصراً عن احياء دوره السابق.

في اعادة تكوين منهجية البناء الحضاري الشامل للجوانب المعنوية والمادية، كما ان منهج الاستدلال الأصولي وقواعده المقاصدية قد أثمرت علوماً رائدة لا مثيل لها في الحضارات كلها. وما ان تم تغيبها عن الواقع الإسلامي وتهميش فعاليتها في التجديد والتغيير والاكتشاف عن معارف حديثة وعلاج للواقعات الجديدة، حتى دب الضعف في جسد المجتمعات الإسلامية وأعاقها عن التقدم والفعل الحضاري اللائق بهذه الأمة.

مظاهر الأزمة وحلولها

وفي الفصل الخامس” مظاهر أزمة الوعي المقاصدي في العمل المجتمعي” يتناول الباحث قضايا ساهمت في تهميش مقاصد الشريعة أو عزلها عن مواجهة واقعنا الراهن. ويرى ان المتأمل في تاريخنا الماضي يراه أشبه بالحلقات المترابطة وان كانت متفاوتة القوة لكنها متلاحمة بانسجام بسبب المشترك الديني والثقافي المتجذر في الأعماق، وعندما تختل تلك الرابطة الفكرية ويضعف دور الإيمان والعلم والفكر الناضج يتحلل ذلك الترابط وتتراجع حلقاته الى القاع كسلسلة انفكت احدى حلقاتها وهوت الى الأسفل، أو أشبه بسباق التتابع التي يحمِّل كل جيل للذي بعده تلك العصا المتجسدة في الإيمان والفكر والتي تنتقل عبر الأجيال المتلاحقة، وعندما يحملها شخص ضعيف القدرة والكفاية فإنه يؤخر كل الفريق معه ويشده نحو تقصيره الفردي، ومن ثم يصبح الفريق بأكمله يعدو خلف الأمم بعماء أو بغباء… والحل كما يراه مسفر القحطاني، هو الوعي وترسيخه في البناء الذاتي والمجتمعي هو واجب للمرحلة الراهنة والقادمة، وان أي اغتيار لدوره أو تهميش لفاعليته في الدعوة والتربية والإصلاح هو بداية الإعداد لعصر التطرف والعنف الفكري والتغالب الاجتماعي والعودة الى عصر مجتمع الغابة.

المصدر: صحيفة الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى