كتاباتكتابات مختارة

فلسطين هي البوصلة ج(1)

فلسطين هي البوصلة ج(1)

بقلم خالد عبد الرحمن

يشير تروتسكي إلى أنه من الخطأ الرهان على البرجوازية لتحقيق التغيير المأمول فقد أصبحت طبقة رجعية، ليس من مصلحتها قيادة هذا التغيير، صحيح أن البرجوازية في بدايتها وقت صراعها مع الإقطاع كانت أكثر تقدمية، إلا أنه مع ترسخ هيمنتها تراجعت عن كل هذا، بالتزامن مع صعود النزعات القومية نتاجًا للتنافس الرأسمالي بين قطاعات البرجوازية بالدول المختلفة. وانعكس كل هذا بالطبع على المسألة اليهودية في أوروبا، فشاهدنا في بداية القرن التاسع عشر كيف ظهر العديد من المفكرين اليهود، وكادت تختفي فكرة معاداة السامية مع انتصار البرجوازية وهزيمتها للإقطاع.

في ألمانيا مثالًا تعالت الأصوات المطالبة بحقوق اليهود في المساواة والاندماج في مجتمعاتهم، وفي 1843 تأصلت هذه المساواة في جميع أنحاء المملكة الروسية بما فيها التجنيد العسكرى، وفي 1847 أصبح من حق اليهود شغل الوظائف العامة، لكن لا يحق لهم توجيه أوامر للمواطنين المسيحيين، ودخل سبعة نواب يهود في برلمان فرانكفورت، ورغم ما أحدثه فشل ربيع الشعوب (الاسم الذي كان يعطى للحركات الثورية التي اشتعلت أوروبا في 1848) من تراجع للطبقة العاملة، وهيمنة للبرجوازية وصعود النزعات القومية، وصعود نجم معاداة السامية مرة أخرى، إلا أن هذه الثورات أعطت لليهود إمكانية الدخول التدريجي في الحياة السياسية والاقتصادية، إذ عمل نصف اليهود في التجارة، فأصبح بينهم تجار للماشية والقمح والنبيذ، وأصحاب للمحال التجارية، وكثر أيضًا العاملون منهم في الوظائف الفكرية مثل المعلمين والأطباء والمحامين والصحافيين، عمل اليهود بهذه الوظائف للتقليد اليهودي في مناقشة وتحليل القوانين في مجال العمل الفكري والقضائية وأيضًا من أجل تفضيلهم للعمل الحر لتجنب التعامل مع أصحاب الأعمال، وإن كان بعد أن أصبح بسمارك مستشارًا، منع اليهود من الوصول للمناصب العليا في الشئون الخارجية والجيش والإدارة، واستمر هذا الحال في عهد فيلهلم الثاني، ولكن بالمقارنة مع باقي دول أوروبا، اعتبرت ألمانيا هي أكثر الدول دمجًا لليهود في مجتمعها في هذه الفترة، وسيستمر هذا حتى سقوط فيلهلم الثاني، ثم انهيار دولة فيمار وتوازناتها الهشة، وصعود النازية وهزيمة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية بعد القرار الخطأ للحزب الشيوعي وقتها، بعدم التحالف مع الحزب الاشتراكي، بناءً على تعليمات ستالين، وبالتالي هزيمتهما معًا، وخروج الحزب الاشتراكي القومي بقيادة هتلر من الانتخابات منتصرًا.

ملاحظة: كان من المقرر أن يقام أول مؤتمر للصهيونية في ميونخ الألمانية، ولكن رفض الأغلبية المطلقة من اليهود هناك دفع منظمي المؤتمر لإقامته في بازل السويسرية أغسطس ١٨٩٧.

ولكن في وقتٍ متقدم عن هذا اشتعلت معاداة السامية في فرنسا وبريطانيا، لنجد قضية دريفوس الشهيرة ١٨٩٤، وأيضًا تقليص بريطانيا من هجرة اليهود لأراضيها، وربما كان هذا أحد أسباب خروج وعد بلفور في ١٩١٧ من بريطانيا بعد التنسيق مع فرنسا وليس مع ألمانيا أو بالتنسيق معها، ليس فقط بسبب عدائهما في الحرب العالمية الأولى، ولكن الأهم كون اليهود الألمان الأكثر اندماجًا في مجتمعاتهم والأكثر عداءً للصهيونية، وتبني الكثير منهم للأفكار الاشتراكية المناقضة تمامًا للصهيونية والعداء للسامية، وتأخرت ألمانيا عن الركب حتى صعود النازية ووقتها بدأ التعاون بينها وبين الوكالة اليهودية لتهجير اليهود لفلسطين، وأحرق النازي مَن رفض الرحيل، وتمسك بفكرة الاندماج في المجتمع الألماني بمحارق الغاز، ولا عجب أن كان عداء هتلر للشيوعية لا يقل عن عدائه لليهود.

وكما رأينا فمع هيمنة البرجوازية واستقرار وضعها صارت بالتدريج أكثر محافظة ورجعية، وسادت الروح العدائية بالتزامن مع صعود النزعات القومية، لتولد من رحمها التيارات المعادية للسامية والأفكار الصهيونية، والملاحظ هنا أن انتشار معاداة السامية والصهيونية يتناسب عكسيًّا مع انتشار الاشتراكية، فكلما تمددت الاشتراكية، وحققت انتصارات فكرية على الأرض سادت روح التسامح مع اليهود وقلت حدة معاداة السامية، والعكس أيضًا صحيح، كما يجب هنا أن نشير إلى أن المستفيد الأول من تحويل الصهيونية إلى قضية دينية وصراع ديني هم معادو السامية والصهاينة.

سطع نجم الصحافي النمساوي تيودور هرتزل متزامنًا مع محاكمة الضابط اليهودي دريفوس في ١٨٩٤ في فرنسا بتهمة التجسس لصالح ألمانيا، وتصاعُد موجة العداء للسامية في فرنسا، طرح هرتزل في مقالاته وكتابه «الدولة اليهودية» أنه يتفهم بشدة فكرة معاداة السامية باعتبارها أزلية لا يمكن تغييرها، وأن الحل ليس على الإطلاق اندماج اليهود في مجتمعاتهم كما يقول الشيوعيون، ولكن الحل هو عمل وطني قومي لليهود ومنح شعب بلا أرض (وهو الشعب اليهودي)، أرض بلا شعب، وكان من المقترحات أوغندا والأرجنتين وفلسطين، وهذا مقتطفات من كتاب الدولة اليهودية؛ جمع وترجمة وسيم وجدي.

«وفي ھذا الشأن ھناك منطقتان قید النظر، فلسطین والأرجنتین. ففي كلا البلدین جرت تجارب استیطانیة مهمة، ولكن على أساس مبدأ خطأ مفاده التغلغل التدریجي للیھود. إنه لمن الحتمي أن تنتھي محاولة التغلغل نھایة سیئة. فھو یستمر فقط إلى اللحظة الحتمیة التي یشعر فیھا السكان الأصلیون بأنھم معرضون للخطر، ومن ثم یجبرون الحكومة على وقف أي تدفق جدید للیھود، وعلیه فإن الھجرة لا جدوى منھا ما لم تقم على أساس ضمان التسیُّد.

وسوف تتعامل جمعیة الیھود مع أصحاب السیادة الحالیین على الأرض، وتضع في ذلك نفسھا تحت حمایة القوى الأوروبیة، إذا أبدوا تعاطفھم مع ھذه التدابیر. إننا نستطیع أن نقدم لأصحاب السیادة الحالیین على الأرض میزات ھائلة، فنأخذ على عاتقنا جزءًا من الدین العام، وننشئ طرقًا جدیدة للمواصلات سوف یتطلبھا وجودنا في ھذا البلد، ونقوم بأعمال كثیرة أخرى. إن خلق دولتنا سیكون نافعًا للدول المجاورة، لأن استزراع شریط من الأرض یرفع قیمة المناطق المحیطة بطرق لا حصر لھا.

فلسطین أم الأرجنتین؟

ھل نختار فلسطین أم الأرجنتین؟ إننا سنأخذ ما یُعطى لنا، وما یختاره الرأي العام الیھودي، وسوف تقرر الجمعیة كلا الأمرین. إن الأرجنتین من أكثر بلاد العالم خصوبة، تمتد على مساحات شاسعة وھي قلیلة السكان، ومناخھا معتدل. وجمھوریة الأرجنتین سوف تحصل على مكاسب كبیرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضیھا. ولعل التغلغل الحالي للیھود قد أحدث بعض الاستیاء، وعليه فإنه من الضروري أن نوضح للجمھوریة أن الحركة الجدیدة تختلف اختلافًا جوھریًا.

أما فلسطین فإنھا وطننا التاریخي الذي لا تمحى ذكراه. إن اسم فلسطین في حد ذاته من شأنه أن یجتذب شعبنا بصورة ھائلة. فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطین سنأخذ على عاتقنا بالمقابل تنظیم مالیة تركیا بأكملھا. وھناك نشكل جزءًا من تحصینات أوروبا في مواجھة آسیا، كموقع متقدم للحضارة في مواجھة البربریة. وسیكون علینا كدولة محایدة أن نظل على اتصال بأوروبا كلھا، والتي سیكون من واجبھا أن تضمن وجودنا».

ويبدو في الفقرات السابقة بوضوح الخطاب الاستعماري الاستعلائي الذي يتبناه هرتزل، فهو يريد الخلاص من حالة الاستعلاء الأوروبي على اليهود، بخلق حالة جديدة يكون هو فيها من يتعالى على الآخر (طالما ليس أوروبيًّا بالطبع).

بينما دافع اشتراكي مثل إيميل زولا عن دريفوس، وجادل الاشتراكيين في فكرة الصهيونية، وتعاملوا معها باعتبارها أحد تجليات الرأسمالية المأزومة التي تسعى لتصدير الأزمة للأضعف، وأن الصهيونية هي الوجه الآخر لمعاداة السامية، فبدلًا من السعي لدمج اليهود في مجتمعاتهم والانخراط في الأحزاب والنقابات لخلق تغيير من أسفل يصب في صالح كل المضطهدين، تعمل الرأسمالية على تفتيت المضطهدين من الطبقة العاملة وضربهم ببعضهم باستخدام معاداة السامية والحركات الصهيونية، لتعزيز حالة انفصال اليهود عن مجتمعاتهم ودفعهم لعمل وطن خاص بهم يكونون فيه الأسياد بدلًا من وضعهم الحالي كعبيد، بمعنى آخر كانت الاشتراكية هي النقيض الكامل لمعاداة السامية والأفكار الصهيونية، وكانت الصهيونية هي امتداد فكري وفلسفي للأفكار الاستعمارية ومعاداة السامية والمركزية الأوروبية.

كما قدم هرتزل ومن بعده وايزمان فكرة الدولة اليهودية للقوى الاستعمارية على أنها ستعمل خادمةً لمصالحهم في المنطقة التي سيتم زرعهم فيها، فخاطب هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية» السلطان العثماني بقوله إنه لو سمح لليهود بإقامة وطن قومي في فلسطين، سيكون اليهود بهذه الدولة خدمًا للسلطنة في إدارة مواردها المالية، وتكرر هذا مع حكومات روسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى