علم الآثار يكشف.. لهذه الأسباب كانت أوروبا مرتعا للعنف والجريمة

علم الآثار يكشف.. لهذه الأسباب كانت أوروبا مرتعا للعنف والجريمة

 

إعداد مجلة علوم وتكنولوجيا / ترجمة سارة المصري

 

شُيّد النصب الحجري الأثري الشهير في ستونهنج قبل نحو 4500 عام، ورغم أن الغرض الأصلي من النصب لا يزال محلجدل، فإننا نعرف الآن أنه خلال بضعة قرون أصبح نصبا تذكاريا لشعب لم يعد له أثر. حينها، كان جميع البريطونيين[1]تقريبا، من الساحل الجنوبي لإنجلترا إلى الطرف الشمالي الشرقي من اسكتلندا، قد أُبيدوا على يد الوافدين. وسبب اختفائهم بهذه السرعة غير واضح، لكن صورة الذين حلّوا محلهم بدأت في الظهور.

كان المصدر الأصلي للمهاجرين مجموعة من رعاة الماشية يُطلق عليهم “اليمنايا”، احتلّت السهوب الأوراسية شمال البحر الأسود وجبال القوقاز. ولم تكن بريطانيا وجهتهم الوحيدة، فبين 5000 و4000 عام مضى، استعمر اليمنايا ونسلهم مساحات شاسعة من أوروبا تاركين إرثا جينيا لا يزال قائما حتى يومنا هذا. تزامن وصولهم مع تغيرات اجتماعية وثقافية عميقة؛ حيث تحولت ممارسات الدفن بشكل كبير، وظهرت طبقة من المحاربين، كما ظهرت طفرة حادة في العنف المؤدي للهلاك. يقول كريستيان كريستيانسن الأستاذ في جامعة غوتنبرج بالسويد: “لقد زاد اقتناعي أنه لا بد وأن حدث نوع من الإبادة الجماعية”. بينما كان هو وآخرون يجمعون القصة، يبقى سؤال واحد: هل كان اليمنايا أكثر القتلة فتكا في التاريخ؟

 النصب الحجري الأثري الشهير في ستونهنج (مواقع التواصل)

قبل نحو 5000 عام، سكن أوروبا في العصر الحجري الحديث شعب يشبه أولئك الذين شيّدوا أثر ستونهينج. كانوا مزارعين يتعاونون في العمل وبناء الهياكل الحجرية. يقول كريستيانسن: “يبدو أن تلك الشعوب كانت تُشكّل مجتمعات إلى حدٍّ ما”. واستمرت تلك الروح المجتمعية في الحياة الآخرة؛ فالعديد من المعالم الأثرية الصخرية كانت بمنزلة مقابر مشتركة؛ بعضها يحتوي على رفات ما يصل إلى 200 شخص.

كما كانوا مبتكرين كذلك؛ إذ تشير أنماط التآكل على عظام الماشية إلى أنهم توصلوا إلى كيفية استخدام الماشية لسحبالأحمال الثقيلة، بل ربما امتلكوا مركبات ذات عجلات، وكذلك ربما وُجدت طرق أولية تربط بين المجتمعات. ويبدو أنهم كانوا يجتمعون للعيش فيما يسميه كريستيانسن “مستوطنات هائلة” قد يصل عدد من يسكنها إلى ١٥ ألف نسمة. بمعنى آخر، يبدو أن العصر الحجري الحديث في أوروبا كان مزدهرا وذا عقلية مجتمعية، وسلميا نسبيا، ثم تغير كل شيء.

بدءا من نحو 5000 عام في جنوب شرق أوروبا -منطقة تحدها اليوم أوكرانيا في الشرق وهنغاريا في الغرب- ظهر نمط جديدمن تقاليد الدفن. فقد دُفن الموتى فرادى فيما يسميه علماء الآثار “قبورا صخرية” بدلا من الهياكل العامة. كان الجسم مزخرفا بصبغة حمراء تسمى مغرة[2]، وحجرة المقبرة مغطاة بعوارض خشبية وتتميز بكومة من التراب بطول بضعة أمتار يطلق عليها اسم كورغان. نشأت طريقة الدفن المميزة هذه في السهوب الأوراسية وارتبطت خصيصا بشعب اليمنايا. ووفقا لعالم الآثار فولكر هايد من جامعة هلسنكي بفنلندا، فإن ظهور هذه الممارسة في أوروبا يشير إلى حدوث تحول صادم أحدثخللا بالأنماط الاجتماعية الحالية.

    

سرعان ما انتشر هذا الخلل؛ ففي العقود اللاحقة، بدأ ظهور قطع أثرية وسلوكيات أقرب لليمنايا في أماكن أخرى من القارة. قبل 4900 سنة، بدأ شعب الخزف المحزم، أو من يُعرفون باسم شعب كوردد وير، في الظهور في وسط وشمال أوروبا، وأُطلق عليهم هذا الاسم نسبة لفخارهم وخزفهم المميز، وتبنوا العديد من عادات اليمنايا. والسؤال المهم هو: كيف ولماذا انتشرت ممارسات اليمنايا لهذه الأماكن البعيدة وبهذه السرعة؟

كان معظم علماء الآثار مقتنعين بأن هذا يعكس إلى حد كبير حركة الأفكار والتكنولوجيا في حين بقي الناس في موضعهم -بالطريقة نفسها التي اكتسحت بها هواتف نوكيا المحمولة أوروبا في أواخر التسعينيات وبداية القرن العشرين-، ولكن في عام 2015، اقترح علماء الوراثة بديلا. أعلنت الفرق التي يقودها ديفيد رايتش في كلية الطب بجامعة هارفارد وإيسك ويليسرف بجامعة كوبنهاغن في الدنمارك أنه يمكن تتبع نحو ثلاثة أرباع الأصل الوراثي للمدفونين في قبور كوردد وير في ألمانيا إلى اليمنايا. ما يعني أن شعب كوردد وير لم يكن يقلد اليمنايا فحسب، بل كان أصلهم في الواقع إلى حدٍّ كبير من اليمنايا.

كيف انتشر شعب اليمنايا؟.. المرض والحرب والموت

وجد العديد من علماء الآثار الفكرة غير معقولة. يقول هايد إن هناك فرقا بين قبول فكرة أن اليمنايا هاجروا من السهوب الأوراسية إلى البيئات الشبيهة بالسهوب في جنوب شرق أوروبا والدفاع عن الهجرات التالية إلى وسط وشمال أوروبا في الغابات الكثيفة. ويعني ذلك أنهم انتشروا في بيئة لم يملكوا الخبرة لاستغلالها، وأنهم بطريقة ما تسببوا في تشريد ونزوح أعداد كبيرة ممن تكيفوا مع تلك البيئة، وفعلوا كل ذلك في غضون بضعة أجيال فقط. حتى يومنا هذا، يكافح هايد لفهم كيف ولماذا حدثت مثل هذه الهجرات السريعة. إلا أن كريستيانسن يعتقد أنه من الممكن الآن إعادة بناء سيناريو محتمل مبني على نموذج يعتمد على المرض والحرب والموت.

 انتشار الطاعون (مواقع التواصل)

يقول كريستيانسن إن أول ما يجب إدراكه هو أن أوروبا في العصر الحجري الحديث كانت في أزمة قبل وصول اليمنايا بقليل. وباستخدام سجل غبار الطلع من المواقع الأثرية كبديل لمستويات النشاط الزراعي، خلص علماء الآثار إلى أن السكان في شمال ووسط أوروبا بدأوا في التقلص قبل نحو 5300 عام. في ديسمبر/كانون الأول 2018، اقترح كريستيانسن وزملاؤه في علم الوراثة تفسيرا. فعند فحص أسنان شعوب العصر الحجري الحديث الذين عاشوا فيما يُعرف الآن بالسويد منذ نحو 5000 عام، وجدوا البكتيريا المسببة للطاعون. اقترح مزيد من التحليل أن المرض بدأ ينتشر في جميع أنحاء أوروبا ربما في وقت مبكر منذ 5700 عام.

يعتقد كريستيانسن أن حدوث ذلك عند بلوغ مستوطنات جنوب شرق أوروبا إلى حجمها الأكبر لم يكن من قبيل المصادفة. فداخل تلك المستوطنات، عاش الآلاف من الناس في ظروف غير صحية وعلى اتصال وثيق مع الماشية، مما يوفر بيئة مثالية للطاعون. من هذه المستوطنات كان يمكن أن ينتشر المرض بسرعة إلى وسط وشمال أوروبا عبر المركبات ذات العجلات والطرق الأولية التي تظهر في هذا الوقت. يقول كريستيانسن: “لقد تم التخلي عن هذه المستوطنات الضخمة وحرقها بعد فترة منذ 5700 عام”، وهذا أمر منطقي إذا أصبحت مراكز للموت والمرض، “ثم منذ 5400 سنة كانت قد اختفت”.

هذا يعني أنه عندما وصل اليمنايا بعد بضعة قرون، كانوا يدخلون أوروبا وهي ذات عدد سكان أصليين صغير وضعيف ولم تكن لهم مقاومة تُذكر. ويقول كريستيانسن إنه على الرغم من ذلك فإن هذا وحده لا يمكن أن يفسر سبب انتشار اليمنايا بهذه السرعة ليتحولوا إلى شعب كوردد وير. ويعتقد أن السرعة المطلقة لهذا التغيير تشير إلى أن المهاجرين من اليمنايا كانوا ديناميين وعدائيين. هذا قد يوحي بأنهم كانوا في المقام الأول من الذكور المحاربين الشباب، يرتحلون إلى أراضٍ جديدة. ولا يبدو أن معظم نساء اليمنايا انضممن إلى الهجرة حتى وقت لاحق.

     

تمشيا مع هذه الفكرة، خلصت دراسة وراثية مثيرة للجدل لعام 2017 إلى أن إشارة الحمض النووي الباقية في العظام الأوروبية القديمة منذ ذلك الوقت هي أسهل طريقة لتوضيح ما إذا كان هناك ما بين خمسة و14 مهاجرا ذكرا لكل أنثىمهاجرة. تشير الدلائل الأثرية أيضا إلى أن معظم المهاجرين كانوا من الرجال. على سبيل المثال، خلص تحليل أُجري للدفن عند حضارة كوردد وير لعام 2017 عبر منطقة شاسعة من شمال غرب الدنمارك إلى جنوب شرق جمهورية التشيك إلى أن المقابر الذكورية كانت متشابهة للغاية في الأسلوب مع بعضها البعض، لكن المقابر النسائية أظهرت تباينا محليا. وهذا يتناسب مع فكرة أن المهاجرين الذكور الذين كان لديهم شعور مشترك بالهوية أنجبوا أطفالا من نساء من العصر الحجري الحديث كن ما زلن يحتفظن ببعض التقاليد المحلية.

تشير سرعة التغيير الهائلة إلى أن اليمنايا كانوا يتسمون بالعدوانية؛ فإذا تصرف المهاجرون من شعب اليمنايا كما يقترح كريستيانسن، فمن المحتمل أن رجال العصر الحجري الحديث في أوروبا قد اعترضوا، مما مهّد الطريق لمواجهات عنيفة. وتتجلى بعض الأدلة على هذا الوضع في موقع لحضارة كوردد وير يسمى إيولاو في ألمانيا. في هذا الموقع تحتوي بعض القبور غير العادية بين جثتين وأربع جثث، معظمهم من النساء وأطفالهم. ويكشف تحليل النظائر الموجودة في أسنان المرأة أنها لم تنشأ محليا. وتشير الإصابات التي لحقت بخمس جثث من أصل 13 جثة إلى أنهم واجهوا موتا عنيفا. ويفسر كريستيانسن هذا كدليل على غارة وحشية قام بها رجال العصر الحجري الحديث للانتقام من المهاجرين الذين سرقوا “نساءهم”. ويشير غياب دفن الذكور إلى أنهم انتظروا حتى خروج رجال القرية لرعاية ماشيتهم قبل الهجوم.

أظهر التحليل الوراثي أن البريطونيين الذين بنوا ستونهنج اختفوا جميعهم خلال بضعة أجيال من وصول شعب اليمنايا. وهذا النوع من القتل الجماعي لم يكن مستغربا به في أوروبا من العصر الحجري الحديث. ومع ذلك، فإن البحث يشير إلىتصاعد العنف منذ نحو 5000 عام. وهناك علامات أخرى. يقول كريستيانسن: “نرى عددا كبيرا جدا من النُقب [ثقوب محفورة في الجماجم]”، قد يكون الأشخاص خضعوا لهذا الإجراء كإجراء علاجي بعد إصابات في الرأس.

محاربو الفأس

ومع ذلك، إذا كان إيلاو مثالا للعنف الذي صاحب تدفق اليمنايا وذريتهم، فإنه يمكن القول إنه ليس دليلا كافيا بشكل خاص. ويشتبه كريستيانسن في أن المهاجرين هم الذين عادة ما يخرجون منتصرين، بحكم حقيقة أن مجموعات كوردد وير تضاعفت وانتشرت بسرعة.

ربما كانت هناك أسباب جيدة لهذا. يجادل بعض علماء الآثار أن اليمنايا كانوا بارعين في ركوب الخيل. حتى قبل تركهم للسهوب الأوراسية، أصبح بعضهم من شعب محاربي الفأس، كما هو مُبيّن على الحجارة القديمة الدائمة في بيئة السهوب. كانوا أيضا في حالة جسدية أكثر تهيّؤًا للقتال، فالحمض النووي القديم يشير إلى أنهم كانوا طوال القامة إلى حدٍّ غير معتاد لهذا الوقت. وكان لديهم نظام غذائي مغذٍّ للغاية. يقول كريستيانسن: “يبدو أنهم عاشوا في الغالب على اللحوم ومنتجات الألبان، وكانوا أكثر صحة وربما أشد بدنيا”.

وهذا السيناريو من المحاربين الشباب الذين يتحركون عبر المنطقة معقول لهايد، إلا أنه يحذر من أنه يستند إلى أدلة انتزعت من بعض المواقع المعزولة، ويقول إنه لا يزال من غير الواضح أن مثل هذا النموذج البسيط يمكن أن يفسر انتشار اليمنايا ونهوض سكان كوردد وير بالمجمل.

في الواقع، يعتقد العديد من علماء الآثار أن الرواية الأوسع الناشئة عن الدراسات الوراثية تفرط في تبسيط الأمور. فالمشكلة، وفقا لمارتن فورهولت من جامعة أوسلو بالنرويج، هي أن علماء الوراثة يقسمون أوروبا ما قبل التاريخ إلى سلسلة من الكتل الثقافية الكبيرة -اليمنايا في الجنوب الشرقي، وكوردد وير في الشمال وما إلى ذلك- ويُمثل كلٌّ منها مجموعة من السكان لهم شعور ذاتي مشترك.

يقول فورهولت: “لقد ثبت خطأ فكرة أن الوحدات الأثرية التصنيفية تُمثّل مجموعات بشرية ذات هوية اجتماعية أو عرقية مشتركة مرات عديدة خلال تاريخ الأبحاث”. فقد تأسست الإثنية على أصل مشترك، في حين أن الهوية معنية أكثر بالثقافة”. ويقول هايد: “ينظر علماء الوراثة أساسا إلى العِرق. لكن علماء الآثار يدرسون الهوية في المقام الأول”.

ومن الأمثلة الصارخة لهذا التمييز ما تم اكتشافه بالقرب من بلدة فالنسينا دي لا كونسبسيون في جنوب إسبانيا. عثر علماء الآثار العاملون هناك على كورغان شبيه بما يخص شعب اليمنايا، والذي كان أسفل جثة رجل يحمل خنجرا ويرتدي صندلا يشبه ما لدى اليمنايا، ومزينا بصبغة حمراء مثل التي وضعت على موتى اليمنايا. لكن القبر عمره 4875 عاما، وتشير المعلومات الوراثية إلى أن الأشخاص المتصلين بشعب اليمنايا لم يصلوا إلى أقصى الغرب حتى قبل 4500 عام. ويقول هايد: “من الناحية الجينية، أنا متأكد من أن هذا القبر لا علاقة له باليمنايا أو الكوردد وير”، “لكن من الناحية الثقافية -فيما يخص الهوية- هناك جانب يمكن ربطه بهم بوضوح”. يبدو أن الأيديولوجية ونمط الحياة وطقوس الموت عند اليمنايا قد تتقدم أحيانا على المهاجرين.

يقول هيد إن علماء الوراثة بدأوا يدركون الآن مدى تعقد الأمور، وقد سلط الضوء على ذلك في دراسة نُشرت العام الماضي، تلك التي اقترحت أن البريطونيين القدامى الذين بنوا ستونهنج قد اختفوا، في حين أن القليل من جيناتهم لا تزال حية حتى يومنا هذا، والتي جمعت مجموعة هائلة من علماء الوراثة وعلماء الآثار بما في ذلك رايتش وويلرسليف وكريستيانسن وهايد. كان هناك حديث في الصحافة الشعبية مؤخرا عن تهميش علماء الوراثة للمتعاونين الأثريين في مثل هذه الدراسات، ولكن لم يكن هذا هو الوضع مع هايد حيث يقول: “إن ديفيد رايتش ينصت لما أقدمه من ملحوظات”.

كان التعاون بمنزلة محاولة لإلقاء الضوء على مجموعة أخرى هي شعب بيل بيكر، الذين ظهروا في أوروبا بقليل بعد كوردد وير. في بعض النواحي، كانوا يشبهون اليمنايا: لقد دفنوا موتاهم في قبور متفردة، وكان لديهم محاربون معروفون واحتفلوا بهؤلاء المحاربين من خلال نحت صورهم أحيانا على الحجارة المنصوبة. نتيجة لذلك، شكّك علماء الوراثة في أن البيل بيكر انحدروا من اليمنايا. ومع ذلك، أقنعهم علماء الآثار أن هذا كان صحيحا جزئيا فقط.

وكشف التعاون أن أصل ثقافة بيل بيكر وانتشارها الأوّلي ليس لهما رابط كبير -على الأقل من الناحية الوراثية- مع توسع شعوب اليمنايا أو كوردد وير في وسط أوروبا. ويقول هايد: “بدأ الأمر في غرب أيبيريا”. في تلك المنطقة تم العثور على أقدم أشياء تخص حضارة بيل بيكر -بما في ذلك رؤوس الأسهم وخناجر النحاس والأواني المميزة على شكل جرس- في المواقع الأثرية التي يعود تاريخها إلى 4700 عام. بعد ذلك، بدأت ثقافة بيل بيكر بالانتشار شرقا، على الرغم من أن الناس ظلوا في مكانهم. قبل نحو 4600 سنة، وصلت إلى الشعب الأقرب للغرب؛ كوردد وير، حيث تقع هولندا الآن. لأسباب لا تزال غير واضحة، تقبّلهم شعب كوردد وير تماما. يقول كريستيانسن: “ببساطة تقاسموا العيش مع شعب بيل بيكر وأصبحوا منهم”.

محو جيني

بعبارة أخرى، يوجد الآن نوعان من شعب بيل بيكر: أحدهما له جذور في أيبيريا، والآخر له جذور من شعب كوردد وير (وفي النهاية لليمنايا). يعتقد كريستيانسن أن أولئك من يعود أصلهم إلى شعب اليمنايا استغلوا بعد ذلك المعرفة الملاحية لأصدقائهم الأيبريين وارتحلوا إلى بريطانيا قبل نحو 4400 عام. وقد تكون حقيقة أن التحليل الوراثي أظهر البريطونيين حينها اختفوا خلال جيلين قد يكون ذا أهمية. إنه يشير إلى أن قدرة العنف التي ظهرت عندما عاش اليمنايا على سهوب أوراسيا ظلت حتى مع انتقال هؤلاء الأشخاص إلى أوروبا، وبدلوا الهوية من يمنايا إلى كوردد وير ثم انتقلوا مرة أخرى من كوردد وير إلى بيل بكير.

في الواقع، هناك دليل أقوى بكثير على أن أولئك من يعود أصلهم لشعب اليمنايا كانوا بلا رحمة. قبل نحو 4500 سنة، اندفعوا غربا نحو شبه الجزيرة الأيبيرية، حيث نشأت ثقافة بيل بيكر قبل بضعة قرون. خلال بضعة أجيال، يمكن إرجاع نحو 40% من الحمض النووي للناس في المنطقة إلى شعب بيكر الذي يعود أصله لليمنايا، وفقا لبحث أجراه فريق كبير من بينهم رايتش نُشر هذا الشهر. والأمر الأكثر لفتا للنظر هو أن تحليل الحمض النووي القديم يكشف أن جميع الرجال لديهم كروموسومات Y مميزة لدى اليمنايا، مما يوحي بأن رجال اليمنايا هم فقط من أنجبوا أطفالا.

صور لرجل من شعب اليمنايا (مواقع التواصل)

وقال رايتش لصحيفة نيو ساينتيست لايف في سبتمبر/أيلوللم يكن تصادم هذين الشعبين تصادما لطيفا، ولا متساويا، ولكن كان الرجال من الخارج يقومون بإحلال الذكور المحليين ونجحوا في فعل ذلك تماما تقريبا”. ويدعم ذلك وجهة نظر كريستيانسن حول شعب اليمنايا وذريتهم كشعب عنيف لا يمكن تصوره. في الواقع إنه على وشك نشر ورقة بحثية يقول فيها إنهم مسؤولون عن الإبادة الجماعية التي ارتُكبت ضد رجال العصر الحجري الحديث في أوروبا. ويقول: “إنها الطريقة الوحيدة لتفسير غياب الشيفرة الوراثية لذكور العصر الحجري الحديث”.

من المستغرب أن هذه ليست فكرة جديدة. كان بعض علماء الآثار البارزين في القرن العشرين مقتنعين بأن المهاجرين من السهوب وصلوا إلى أوروبا منذ نحو 5000 عام. حتى إن إحداهن، ماريجا غيمبوتاس، جادلت بأنهم كانوا أفرادا عدوانيين بشكل استثنائي وجلبوا العنف والتغيير الاجتماعي للقارة. كانت أفكارها مثيرة للجدل بشدة في عصرها. يقول هايد: “لكن من المفارقات أن علماء الوراثة يقتربون الآن مما كانت تكتبه غيمبوتاس في الستينيات”.

والأكثر من ذلك، لقد ظهر الآن أن اليمنايا لم يهتموا بأوروبا فقط. حيث يكشف أحدث دليل وراثي أنهم ذهبوا شرقا إلى شبه القارة الهندية. وحتى لو لم يكونوا هم الأشخاص الأكثر دموية في التاريخ، فلا شك في أنهم انتشروا على نطاق واسع. قد يكون هذا سببا آخر لكون قصة اليمنايا تكتسب قوة جذب الآن. يقول هايد، قبل بضعة عقود، كانت الهجرة الجماعية بعيدة عن أذهاننا، لكن البيئة الاجتماعية والسياسية الحالية قد غيرت ذلك. الآن نحن ندرك تماما القوى العديدة التي يمكن أن تحفز مجموعات ضخمة من الناس على عبور الكرة الأرضية.

يبدو أن المهاجرين الآتين من السهوب كانوا من الشباب إلى حدٍّ كبير وكانوا ذكورا وعدوانيين

أوروبا وحدها لا تكفي

يمكن لجميع المنحدرين من أصل أوروبي تقريبا تتبع أصولهم الجينية وصولا إلى سكان السهوب الأوراسية. في السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح أن هؤلاء الأشخاص، المعروفين باسم اليمنايا، وذريتهم سافروا عبر القارة خلال العصر الحجري الحديث ليحلوا محل السكان المحليين -وخاصة الرجال- حيثما ذهبوا. والآن اكتشفنا أن اليمنايا هاجروا أيضا للشرق.

في دراسة أجراها ديفيد رايتش في كلية الطب بجامعة هارفارد وزملاؤه والتي نُشرت على bioRxiv في عام 2018 تعطينا فكرة عن متى وكيف حدث هذا. باستخدام عينات من الحمض النووي من بقايا مئات الأشخاص الذين عاشوا في جميع أنحاء جنوب آسيا بين 7000 و3000 سنة مضت، وجد الفريق دليلا على أن الحمض النووي المتصل بـاليمنايا بدأ في الظهور هناك منذ 4000 إلى 3000 عام.

اختلط رعاة السهوب مع الشعوب الذين ربما كان لهم صلة بسكان حضارة وادي السند الشهيرة. وبذلك، شكّلوا مجموعة من السكان “من شمال الهند القديمة”، وهم أحد من الأسلاف الذين يحددون أصل معظم الناس الذين يعيشون في شبه القارة الهندية اليوم، والأكثر أن الوافدين من السهوب جلبوا تغييرات ثقافية كبيرة. خلال حديثه في نيو ساينتست لايف في سبتمبر/أيلول، أشار رايتش إلى أن الناس في شبه القارة الهندية اليوم والذين يحملون أكبر كميات من أصول شمال الهند القديمة يميلون إلى التحدث بلغات مماثلة لبعضهم البعض، وغالبا (وليس دائما) ينتمون إلى الطبقات العليا.

كما هو الحال في أوروبا، يبدو أن المهاجرين الآتين من السهوب كانوا من الشباب إلى حدٍّ كبير وكانوا ذكورا وعدوانيين. وجدت دراسة أجراها مارتن ريتشاردز بجامعة هيدرسفيلد بالمملكة المتحدة وزملاؤه أن تسلسل الحمض النوويللميتوكوندريا الموروث في الأم لم يتغير إلا قليلا عند وصولهم. على النقيض من ذلك، فإن ما بين 60-90% من الرجال الذين يعيشون الآن في المنطقة يمكن تتبع كروموسوم Y الموروث من الأب إلى المهاجرين المتصلين باليمنايا. يقول ريتشاردز: “يبدو أن الذكور من السكان الأصليين قد تعرضوا للتهميش من الوافدين الجدد أكثر من النساء، ولم يتمكنوا من إنجاب أطفال بالقدر نفسه، ولم يكن هذا التهميش بالأمر الحميد”.

________________________________________________

هوامش:

[1] هُم السكان الأصليون لجزيرة بريطانيا

[2] حجر يُستخرج منه صبغ أحمر بني مصفر

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى