تقارير وإضاءات

عالم فرنسي: موت الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا وصعود اليمين المتطرف

ما الذي حدث للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا؟ وما الذي سيحل محلها؟

أنتونيس غالانوبولوس: ما حدث في هولندا مثال واضح على فشل أحزاب الديمقراطية الاجتماعية. ما هي أهم الأسباب وراء انهيار الديمقراطية الاجتماعية؟

فيليب مارليار: إن انهيار وأفول الديمقراطية الاجتماعية راجع إلى تعدد الخيارات السياسية، على سبيل المثال، ما حدث في اليونان، هل كان “باسوك” -الحزب الاشتراكي- سينهار لو أنه لم يدعم سياسات التقشف الحاد التي نعرفها؟ هذا تماما ما يحدث اليوم في فرنسا؛ لأن الحزب الاشتراكي يقوم بعمل سيء للغاية، بسبب دعمه سياسات لا تستجيب لتطلعات واحتياجات الشعب. في نفس الوقت هل كان اليمين المتطرف واليمين الشعبوي سيكون على نفس القدر من الأهمية والنجومية لو أن الديمقراطية الاجتماعية قد تعاملت مع الأمور بطريقة مختلفة؟ ربما لا.

ولكن مشكلة الديمقراطية الاجتماعية أعمق من ذلك، لقد كان تاريخ الديمقراطية الاجتماعية في 15 سنة الماضية تاريخا من التراجع والانهيار المستمر، إن هذا الانهيار البنيوي راجع الى التحول العميق للدوائر الانتخابية القديمة –التقليدية-  للديمقراطية الاجتماعية: العمال ذوي الياقات البيضاء والعمال ذوي الياقات الزرقاء والموظفين؛ كل هذه الفئات الاجتماعية خضعت تدريجيا لتحولات اجتماعية، وسياسية دراماتيكية والتي كانت نتيجة للتغيرات الاقتصادية في أماكن العمل.

كانت فترة التسعينات فترة التكيف مع السوق الحرة. إن الطريقة الثالثة التي اعتمدها توني بلير والتي أيدتها الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية الأخرى، كانت تتماشى أساسا مع قواعد ومبادئ وفلسفة الليبيرالية الجديدة، على أمل أن يتطور النمو الاقتصادي الناجم عن هذا التكيف ويعود بالنفع على عامة الناس.

والآن دخلت الديمقراطية الاجتماعية مرحلة جديدة .ففكرة التمسك بالخطاب النيوليبرالي تمسكا وثيقا قد يؤدي إلى تحقيق منافع للطبقة المتوسطة، لكن ذلك سيكون كارثيا بالنسبة إلى طبقة العمال، فهو يساعد على تعزيز اليمين المتطرف وحسب، وفي جميع أنحاء أوروبا.

على الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية أن تأتي بحلول جديدة من شأنها أن تحدث تحولا تاريخيا في وجهة نظري في طريقة تسيير وتنظيم الأسواق. وإلا فلا يمكنك فعل شيء البتة، لا يمكنك إعادة التوزيع؛ لأن الليبيرالية الجديدة تعتمد أساسا على مضاعفة الأرباح والاستغلال، والخوصصة المستمرة. ولا مكان هناك لعامة الناس. إن الرجوع إلى سياسات التدخل في الاقتصاد لا يعني بالضرورة الرجوع إلى السبعينيات. على الديمقراطيين الاجتماعيين التغير قبل فوات الأوان، لقد رأينا ذلك في اليونان وإسبانيا و يمكن أن تكون فرنسا هي التالية.

أ-غ: وماذا عن انتخاب جيرمي كورباين كقائد لحزب العمال البريطاني؟ لقد فتحت الحوار حول مستقبل الديمقراطية الاجتماعية  

ف-م: يعد كوربين استثناءً.. هي أنباء غير سارة للديمقراطية الاجتماعية لأنه أصبح قائدا لأحد أكبر وأقدم الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في أوروبا، والذي يتمتع –الحزب- بدعم طبقة العمال وله روابط مع النقابات.

ما كان يجب لهذا الأمر أن يحدث، إنه يعد “حادثا سياسيا”. إن النمط الجديد المتبع لانتخاب القائد ومبدأ “عضو واحد، صوت واحد” وواقع أن الداعمين والمتعاطفين يمكنهم الانتخاب أيضا. كان كله مصمما ومخططا لأجل مرشح الوسط. كانوا يعتقدون أن المتعاطفين ما هم سوى سياسيين معتدلين وسينتخبون قائدا معتدلا. ولكن في الحزب اليساري في بريطانيا سئموا من سياسة توني بلير الليبرالية .فهموا أنها سياسة فاشلة وهو طريق مسدود لليسار البريطاني.

وعلاوة على ذلك، لم يقبلوا التفسير الذي قدمته قيادة الحزب عندما هزم إيد ميليباند في عام 2015. ثم قال الحزب اليميني أنه هُزم لأنه كان يساريا بصورة متطرفة. لم يقبل العمال بذلك. وقالوا “على العكس من ذلك، لم يكن الحزب يساريا بما فيه الكفاية. لم يكن جريئا بما فيه الكفاية”

وكان الأمر يتعلق بإيجاد فرصة وشخص يخرج بنوع من الخطاب الذي من شأنه تلبية التوقعات الاجتماعية. وكان هذا الشخص  كوربين. جاء وتحدث بالطريقة التي كان يتحدث بها لسنوات كعضو في البرلمان. كانت الطريقة التي تحدث بها مثالية وتماشت مع توقعات الشعب.

شعر الناس أنه إذا انتخب رئيسا، سيكون هناك تحول نحو اليسار، الآن أصعب شيء بالنسبة له هو النضال لأجل تغيير خط الحزب. إنه أمر صعب؛ لأنه يمثل أقلية داخل الحزب، كما أن المجموعة البرلمانية ضده. البعض يقف ضده لأسباب أيديولوجية، والبعض الآخر يرفضونه لأنهم يعتقدون أنه ليس و الرجل المناسب لقيادة الحزب والوصول إلى منصب رئيس الوزراء. بالنسبة لهم الأمر في الأخير مرتبط بالتصورات والكفاءة الحقيقية.

كوربين جيد جدا على مستوى قضايا “ما بعد المادية” مثل البيئة ونوع الجنس. وقد كان سببا في تبنى قضية نزع السلاح النووي. وكان من أوائل النواب الذين حاربوا نظام الفصل العنصري “الأبارتايد” في جنوب إفريقيا. كان داعما للقضية الفلسطينية قبل أن تصبح بعد ذلك قضية مشهورة ورائجة. وفيما يتعلق بالاقتصاد، لديه سياسات براغماتية وواقعية  يمكن وصفها بـ “الكينزية الجديدة”. ومع ذلك فإنه يعاني من مشكلتين:

المشكلة الأول: عليه العمل لإقناع حزبه بأنه الرجل المناسب لهذا العمل. والثانية نظرة الصحافة والجماهير إليه، فإن الصحافة اليمينية ستستمر بمعارضته بشكل مستمر، يجب الإشارة أيضا إلى أنه ارتكب أخطاءً من حيث أسلوب وطريقة الكلام مع النخبة والجمهور، إلى جانب ذلك فإنه يفشل عادة في اختيار المعارك المناسبة والوقت المناسب لإثارتها، كما أن له علاقة مشحونة مع وسائل الإعلام، ومهاراته اللازمة للعلاقات العامة ضعيفة إلى حد ما.

أ-غ: هل تعتقد أن الشعبوية يمكن أن تكون استراتيجية فعالة لليسار وللسياسة التقدمية بشكل عام؟ أم أن الشعبوية في أساسها مناقضة للديمقراطية، مع عدم إمكانية تقديمها أي سياسة تقدمية؟

ف-م: هذا نقاش جديد على اليسار ولا أرى نقاشا كبيرا آخر بخلاف هذا، ويبدو أن إرنستو لاكلاو وشانتال موف قد ألهموا عددا من الأحزاب اليسارية الراديكالية في أوروبا، خاصة بوديموس وجان لوك ميلينشون في فرنسا. تبدو الفكرة بسيطة إلى حد ما: فالشعبوية تتعلق بالأحزاب والسياسيين الذين يحاولون توجيه الغضب الشعبي ضد ما يسمى “النخبة”.

والفكرة هي أنه يجب ألا نترك “الشعب” يقع في أحضان اليمين المتطرف، وينبغي لنا بوصفنا أحزاب يسارية، أن نمثل الشعب أيضا؛ لذلك ينبغي لنا أيضا أن نحاول أن نعتمد نفس التكتيك، وأن نوجه الغضب الشعبي وأن نكون الناطقين باسم الأشخاص الذين لا تمثلهم الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، من اليمنيين ومن النيوليبراليين، أو حتى من قبل وسائل الإعلام؛ لذلك يجب أن نتحدث نيابة عن الناس الذين لم يتم تمثيلهم بعد الآن، الفرق مع اليمين المتطرف هو أن الأهداف والسياسات تختلف عن مسارها. فالشعبويون اليساريون يختلفون تماما عن الشعبويين اليمينيين. إنهم مختلفون إيديولوجيا.

الآن أنا أفهم التكتيك والاستراتيجية، ولكن لدي شكوك حول فعالية ذلك، فالمعارضة قائمة بين 99٪ ضد 1٪ بكل بساطة، أي بين غالبية الشعب ضد النخبة، كما أن هناك تضييعا لأهم مباديء “الماركسية”، وفشل ذريع في بناء طبقة سياسية واعية.

ولدي شكوك أيضا حول إمكانية نجاحنا لأن الناس قد اعتادوا على سماع هذا النوع من المواقف المناهض للمؤسساتية، والمناهضة أيضا للنخبة من طرف اليمين المتطرف.

من السهل جدا استهداف أشياء مثل الحكومة ووسائل الإعلام.. ليس كل السياسيين فاسدين، وليس صحيحا أن كل وسائل الإعلام تنتهج الكذب والخداع، الإعلام، بالتالي في حال استخدام نفس الأسلوب الشعبوي العدائي الذي تنتهجه أحزاب اليمين المتطرف، فإنني أعتقد أن الناس لن يميزوا في نهاية المطاف بين الخطاب الشعبي لليسار والخطاب الشعبي لليمين المتطرف.

وأخيرا، فإن الاستراتيجية الشعبية تضع كل ثقلها وتركيزها في شخص القائد أو الزعيم، الذي يصبح الممثل الأوحد للشعب أو كأن الشعب يصبح متجسدا فيه،  وهذا تحول خطير جدا، على سبيل المثال، قام هوغو شافيز بأشياء جيدة جدا في فنزويلا، ولكن نظامه لم يكن نموذجا للديمقراطية والتعددية.

أغ: في فرنسا هناك حزبين شعبيين، أحدهما يساري والآخر يميني متطرف: جبهة اليسار والجبهة الوطنية، ومن الواضح أن “الناس” يختارون الأخير. لماذا يحث هذا إذن ؟ ما الذي تقوله مارين لوبان للشعب الفرنسي حتى ينجذب نحوها ويقتنع بخطابها؟ ولماذا ميلينشون تفشل في أن تفعل الشيء نفسه؟

ف-م: عندما يكون اليسار في السلطة ولا ينفذ السياسات الصحيحة التي ينتظرها منه أنصاره، فإن الناخبين اليساريين يشعرون بعدها باليأس، حتى يتحول يأسهم هذا إلى غضب عارم، وعندما تكون غاضبا  تميل إلى فقدان الثقة في الناس الذين تعودت أن تعطيهم صوتك في الانتخابات، بالتالي نحن أمام أمرين:  بعد يأسهم يتوقف الناس أو لنقل يمتنعون بعد عن الاستمرار  (كما يفعل غالبية العمال ذوي الياقات الزرقاء في فرنسا) بوضع ثقتهم في اليسار تماما، الأمر الثاني: هو نجاح الجبهة الوطنية التي تمثل اليمين المتطرف في جعل الحزب يظهر أمام الناس بمظهر الحزب الذي يقلق بصورة جدية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها الطبقة العاملة، وهذا ما يفسر توجيه مناشداتها في الحملات الانتخابية نحو العمال ذوي الياقات الزرقاء، وقد كان الكثير من هؤلاء ينحون أصواتهم في الانتخابات إلى حزب اليسار.

ولكن في الوقت نفسه، بالإضافة إلى شعبوية اليمين المتطرف، فإن المشكلة تكمن في استخدامهم ورقة الهجرة، وورقة الإسلام كمشكلة، وما إلى ذلك كجزء من برنامج الجبهة الوطنية الذي يزعم أنه “يساري “، وأنه حزب وقائي يقي الفرنسيين من الأخطار، ويسعى لتعزيز الخدمات العامة للمجتمع.

ولكن هذا  خداع وممارسة للتضليل، فالجبهة الوطنية بخطابها وسياساتها تنتمي إلى اليمين المتطرف، وهذا الخطاب المضلل الذي تنتهجه الجبهة الوطنية مؤثر جدا في المجتمع، حتى أن جميع الأحزاب الرئيسية صارت تتبنى هذا الخطاب، فيون مثال على ذلك، كذلك نيكولا ساركوزي مثال على ذلك ودون أدنى شك، حتى مانويل فالس رئيس الوزراء الديمقراطي الاجتماعي السابق انتهج هذا الخطاب، حتى أصبحت الديمقراطية فالاجتماعية التي تتبناها أحزاب اليسار غير مؤثرة ولا مسموعا بها، بل أصبحت نشازا في الساحة السياسية، حيث أصبح الجميع يتحدث عن السيادة الوطنية، والخروج من الاتحاد الأوروبي، وفقدان الهوية بسبب الهجرة والعولمة واللاجئين والإسلام.

في ظل حكم مارين لوبان فإن السياسات القديمة للجبهة الوطنية –اليمين المتطرف- لم تتغير كثيرا، ما تغير فعلا تمثل في: الخطاب، وصورة اليمين المتطرف في الواقع، وكذلك كيفية التواصل مع الناس، مارين لوبان امرأة هادئة، وتبتسم باستمرار، كما أنها تبتعد عن إطلاق أي تصريحات عنصرية، أو نكت سخيفة أو معادية للسامية مثل والدها، كما أنها تتعامل مع الصحافة باحترام ولا تهين الصحفيين، وعندما تقوم بإطلاق تصريحات عن الإسلام، فإنها تحاول أن تفعل ذلك بطريقة عقلانية حتى وإن كانت ادعاءاتها غير صحيحة، إنه تحول تكتيكي ولكنه فعال، أما الصحافة فإنها بدلا من التركيز على تحليل خطاب لوبان، والتدقيق في التناقضات بين صورتها التي تروج لها، وبين سياسات اليمين المتطرف فإنها تفضل التركيز على التفاصيل السطحية والتافهة.

هناك الآن في فرنسا سياسيين ووسائل إعلام قد أصيبوا بالجنون السياسي وأصبحوا مجانين بما فيه الكفاية، حيث صاروا مستعدين لاستعمال الخطب الذي تستعمله ماري لوبان، وبالتالي فإن فعلهم ذلك يعطي شرعية لخطاب وسياسات لوبان، ما يحدث في الأخير هو أن الناخبين سوف يقولون “حسنا” إذا كانوا يتحدثون مثل ماري  لوبان، دعونا نجرب لو بان ، النسخة الأصلية بدلا من النسخة المقلدة ! “

هذه هي الطريقة التي تحولت بها جميع النقاشات السياسية في فرنسا إلى نقاشات تتساوى مع طرح اليمين المتطرف، لقد أصبحت أفكار “لوبان” حول الهجرة واللاجئين والإسلام هي السائدة والرائجة في فرنسا، وحتى لو مع عدم تمكنها من الفوز في الانتخابات الرئاسية، فقد تمكنت من وضع أجندة سياسية بشأن عدد من القضايا الهامة.
أ-غ: لا تزال قضايا الهوية –اليوم- عقبة وعائقا في وجه السياسة الأوروبية، كيف يمكننا في السياق الحالي للأزمة الاقتصادية وأزمة اللاجئين، أن نعالج قضايا الهوية من الناحية القانونية؟

ف-م: سياسة الهوية تزدهر في الفراغ الذي تعيشه الطبقات والسياسات الاجتماعية على حد سواء، عندما أقول الطبقة والسياسات الاجتماعية أعني ذلك بالمعنى الواسع، وهي فكرة أن عدم المساواة الاجتماعية أو الطبقية ينبغي أن تعالج من خلال القرارات السياسية المناسبة التي تعود بالفائدة على غالبية الناس.

إذا قلت للناس أنه لا بديل عن الليبرالية الجديدة – وهذا ليس صحيحا – فإن ذلك يشعرهم باليأس، ويثير غضبهم، وإذا أصبحت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية وأحزاب اليمين الوسط تتبنى هذا الخطاب فهذا يعني موت المنافسة السياسية بعد ذلك، هناك الفراغ فقط، هناك العدم السياسي، ويتم احتلال هذا الفراغ من قبل جميع المحرضين الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف الذين ليس لديهم ما يقولون عن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية ولكن يريدون دائما متابعة تنفيذ أجندة تلعب على وتر الهوية، بسبب الفشل في تحقيق التعددية الثقافية.

ويرجع صعود السياسات التي تتناول قضايا الهوية اليوم إلى فشل الأحزاب السياسية في اليسار واليمين في المشاركة بشكل سلس وصحيح في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية. ومسؤولية أحزاب اليسار أكبر بخصوص هذه القضايا، فلا يجب أن تتوقع من اليمين فعل شيء ما بشأن أوجه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية؛ تاريخيا كان هذا دائما دورا منوطا بأحزاب اليسار.

أ-غ: كان حظر “البوركيني” في فرنسا مثالا للتطرف السياسي الذي يتناول قضايا الهوية، والتي صارت تناقش في جميع أنحاء أوروبا.

ف-م: أنا شخصيا دافعت عن حق المرأة في ارتداء البوركيني، ليس لأنني أحب ذلك، لا يهم ما أفكر فيه حول البوركيني، ولكنني دافعت عن لبس المسلمات للبوركيني على أساس أن الفرد حر في قراراته وذاته، ولأن المرأة حرة ومستقلة في اختيارها الملابس التي تريد ارتداءها وتلك التي لا تريد أن ترتديها.

قررت بعض النساء ارتداء بوركيني لأنها لا تريد أن تذهب شبه عارية إلى الشاطئ، يمكنكم النظر إلى هذا الشكل من اللباس بحرية والحكم عليه من الناحية الجمالية، ولكن، لا تستطيع أن تدعي -كما فعل غالبية الشعب الفرنسي- أن هذا اختيار هذا اللباس قد فُرض على هاته النسوة،  ليست هذه هي القضية. لقد قمن باختيارهن بكل حرية، هل أصبح دور الدولة في أن تفرض عليك أي نوع من الملابس يجب أن ترتديه، وتحدد لك ما يجب أن تأكله أو تشربه؟

إن الحرية الشخصية واستقلالية الفرد من القيم الأساسية للمجتمعات الديمقراطية، ويصر البعض على أن البوركيني والحجاب علامات على الهيمنة والمقع الذي تتعرض له المرأة، في حالة تم فرضه على المرأة فإنني أؤيد النساء اللاتي ترغبن في خلعه، ولكن ماذا عن الحالات الأخرى؟ حيث قررت أخريات فعل ذلك بكل حرية؟ ينبغي علينا أن نحترم قراراتهن، لقد أخطأ حزب اليسار عندما انساق نحو معارضة البوركيني،  وبدلا من ذلك، كان ينبغي عليه أن يؤيد ويدافع عن قيمة الحرية الشخصية.

أ-غ: ماذا عن مفهوم العلمانية؟ هل تم تشويه معناه؟ هل أصبحت العلمانية في نهاية “علمانية الهوية”  كما ذهب إلى ذلك الفيسلوف بالبار مؤخرا؟

ف-م: نعم، أعتقد أن العلمانية قد شوهت في فرنسا. في البداية، كان هناك قانون 1905، وهو قانون ليبرالي بحق؛ لأنه ببساطة يذكر في مادتين رئيسيتين أنه يضمن حرية التدين في فرنسا، وأيضا حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد. وتنص المادة الثانية على أنه لا يمكن للدولة أن تتدخل في الحريات الدينية للأشخاص والعكس صحيح، هذه هي المبادئ الأساسية للعلمانية؛ إنها قوانين تتيح للفرد الاستقلالية الذاتية، إنها نظام حياة، يتيح لك القيام بما تريد ما دمت لا تخالف القانون.

ولكن تفسير العلمانية من قبل بعض الناس أصبح مخالفا تماما لمبادئ العلمانية، إن كل ما تقوم به لوبان بكل بساطة هو تأكيد لما قاله اليسار الجمهوري طوال الثلاثين عاما الماضية، من أن العلمانية فكرة معادية لرجال الدين وللدين نفسه والدين. ولكن بطبيعة الحال فإن عداوتها وكراهيتها موجهة نحو الإسلام.

إنها مجرد ذريعة، فإذا قلت أنه يجب حظر الرموز الدينية في المرافق العامة والساحات، فإن ذلك لا يستهدف الكاثوليكية، إنه يستهدف الإسلام على وجه التحديد، حتى وإن لم تسمه مباشرة وصراحة، فإن الناس يفهمون أنك تقصد حظر الحجاب والبوركيني، وما إلى ذلك، إنها مجرد ذريعة الآن لشن هجوم على المسلمين. ويتعين على لوبان أن يكرر ما فعله وقاله سياسيون تقليديون مثل “مانويل فالس” أو “جون بيير شوفانمان” أو “نيكولا ساركوزي” منذ سنوات.

هذا التفسير للعلمانية هو أحد أشكال الاستغلال والهيمنة التي تعرض لها مفهوم العلمانية، من خلال محاولة فرض نمط حياة معين. وهذا ما صرح به فرانسوا فيون في مناظرة ضد آلان جوبيه: “عندما تأتي إلى بلد أجنبي، يجب أن لا تحاول السيطرة على السلطة” يقصد أنه لا يجب عليك فقط أن تحترم القانون، ولكن يجب أن تتبع معايير البلد، ومدونة قواعد السلوك، وفلسفة ذلك البلد.

لقد أصبح الوضع معقدا، حيث لا تستطيع أن تقول مباشرة “عليك خلع حجابك” ولكن الناس يفهمون ذلك. لقد وصلنا الآن إلى درجة الحديث عن حظر الأشياء بصورة عامة، لكن الذي يأتي إلى أذهان الناس هو الإسلام، ومن الواضح أن التفسير السيء والفاسد للعلمانية، يستخدم الآن كسلاح ضد الإسلام، حيث أصبح مفهوم العلمانية غير متسامح البتة مع التعددية والتنوع.

فيليب مارليار: أستاذ جامعي مختص في السياسة الفرنسية والأوروبية في كلية لندن ببريطانيا، وهو كاتب منتظم في صحيفة لوموند، ولوموند ديبلوماتيك و الغارديان.

(المصدر: الاسلام اليوم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى