عاقبة انتكاس صاحب العلم: بلعم بن باعوراء نموذجاً

عاقبة انتكاس صاحب العلم: بلعم بن باعوراء نموذجاً

بقلم محمد عبد الرحمن صادق

قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الأعراف:176).

قال مالك بن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان، فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى، ففيه نزلت هذه الآيات.

قال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش. وهو المعني بقوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) ولم يقل آية، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث إنه كان أول من صنف كتابا في أن “ليس للعالم صانع”.

وقوله تعالى: “فَانْسَلَخَ مِنْهَا”. إن انسلاخ بلعم بن باعوراء من آيات الله كان بمناصرته لأهل الكفر والضلال على المؤمنين والعمل على تقوية أهل الكفر بكل الحيل التي كان منها العمل على نشر فاحشة الزنا بينهم، ولهثه خلف الشهوات وسقوطه في وحلها.

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “إنَّ الدنيا خضرةٌ حلوةٌ، وإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مُستخلِفُكم فيها، لينظرَ كيف تعملون، فاتَّقوا الدنيا، واتَّقوا النساءَ، فإنَّ أولَ فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساءِ” (السلسلة الصحيحة).

ما يُستفاد من قصة بلعم بن باعوراء

أ) لا يجب على إنسان مهما بلغت درجة إيمانه وتقواه أن يأمن مكر الله ولا أن يعوِّل على هذا الإيمان ولا يركن إليه.

قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: “من كان منكم مُستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم”.

ب) شكر نعمة الله تعالى وعدم جحودها بل وتصريفها في طاعته وليس في معصيته.

ج) سرعة التوبة والإنابة إلى الله تعالى وعدم استمراء المعصية والتوغل فيها. “وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ”.

د) إن انسلاخ بلعم بن باعوراء كان مخزياً فاضحاً حيث انقلب من الضد للضد:-

– انقلب من إنسان تقي ورع يعلم اسم الله الأعظم وينظر إلى السماء فيرى عرش الرحمن -كما أخبر ابن مسعود وابن عباس- وهذه ميزة لم يُعطاها أحد قبله، إلى جاحد يجحد وجود الله ويؤلف كتاباً يسميه (ليس للعالم صانع).

– أيد وناصر أهل الباطل أعداء نبي الله موسى عليه السلام وسخر علمه في الصد عن سبيل الله والدعاء على نبي الله موسى ومن معه.

– قبل الرشوة في دين الله وخذل أتباعه حيث كان له أتباع بالآلاف حيث قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً أنه كان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه.

– أول من نشر فتنة النساء وأشار على بني إسرائيل بها حتى تنتشر الفاحشة وحتى يفتن الناس فيغضب الله عليهم.

هـ) إن انتكاس العلماء من أشد الأمور خطورة على الدين وعلى المسلمين فبانتكاسهم يعلو الباطل وينتفش ويتجبر على أهل الحق، فتخور عزيمة أهل الحق ويصيبهم من الفتور والويلات ما يصيبهم، لذلك مما كان يتعوذ منه النبي ﷺ (الحور بعد الكور)، أي: الانتكاس بعد التمام والكمال أو: تشتت الأمر بعد ثبوته واستقراره (والمعنى جاء من حور العمامة بعد كورها، أي فكها بعد ربطها).

* عن عبدالله بن سرجس رضي الله عنه قال: ” كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا سافَرَ يتعوَّذُ من وعثاءِ السَّفرِ وكآبةِ المنقلبِ والحَورِ بعد الكَورِ ودعوةِ المظلومِ، وسوءِ المنظرِ ” (صحيح النسائي).

بعد هذا العرض السريع نستطيع أن نقول أن الإمامة في الدين ليست وساماً يُقلد ولا نوطاً يُمنح ولكنها درجة لها شروطها الشرعية التي تعارف عليها المسلمون وتظل درجة الإمامة موجودة ومحفوظة لصاحبها بوجود شروطها ولكن حين تختل هذه الشروط أو بعضها أو حتى أحدها فلا محاباة لأحد كائن من كان في دين الله وشرع الله أولى بالاتباع.

إن بانتكاس العالم وزلته يصبح مثالاً سيئاً للمتدينين، وفتنة كبيرة للعوام، وخنجراً مسموماً يستخدمه أعداء الدين ليضربوا به الدين في مقتل، فيكون بذلك أشد خطورة على الدين من أعدائه، لذلك ضرب الله تعالى المثل لهؤلاء بواحد من أخس الحيوانات (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث).

اللهم ثبتنا على الحق وثبت الحق بنا واستعملنا ولا تستبدلنا وإن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى