كتب وبحوث

شهر الله المحرم وصيام عاشوراء

بقلم محمد رفيق مؤمن الشوبكي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا اللهم علماً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم آمين، ثم أما بعد؛

إن من نعم الله تعالى على عباده، أن يوالي مواسم الخيرات عليهم ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله، فإن هذه المواسم تتضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات وترفع فيها الدرجات، فما أن انقضى موسم الحج المبارك، إلا وتبعه شهر كريم هو شهر الله المحرم، فلعلنا في هذه الدراسة الفقهية المبسطة نبين شيئاً من فضائله وأحكامه، سائلين الله  الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعله هذا العمل المتواضع في ميزان حسناتنا وحسنات مشايخنا، وأن يكون علماً يُنتفع به بإذن الله تعالى.

وسنتولى تقسيم هذه الدراسة الفقهية إلى المبحثين التاليين:

المبحث الأول: شهر الله المحرم.

المبحث الثاني: صيام عاشوراء

المبحث الأول:شهر الله المحرم:

أولاً: حرمة شهر الله المحرم:

قبل الحديث عن حرمة شهر الله المحرّم لابد من الإشارة إلى أن شهر الله المحرم هو أول شهور السنّة الهجرية، وحري بالمؤمن أن يستقبل العام الهجري الجديد بطاعة الله تبارك وتعالى والانصياع لأوامره، وأن يقدم الإنسان لنفسه توبة نصوحاً ورجعة صادقة يغسل بها ما مضى ويستقبل بها ما أتى، قال تعالى: “وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ” (سورة النور: 31)، وقال تعالى أيضاً: “وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ”          (سورة طه: 82) .

ويقول الشاعر:

قطعت شهور العام لهواً وغفلة            ولم تحترم فيما أتيت المحرما

فلا رجبا وافيت فيه بحقه                 ولا صمت شهر الصوم صوماً متمما

  ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي       مضى كنت قواماً ولا كنت محرما

 فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة           وتبكي عليها حسرة وتندما

وتستقبل العام الجديد بتوبة               لعلك أن تمحو بها ما تقدما

وشهر الله المحرم هو أحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: ” إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ  ”  [سورة التوبة:36].

وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ” (رواه البخاري).

وسمي شهر محرم بهذا الاسم؛ لأن الله حرم فيه القتال، وتأكيداً لحرمته. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف: ” وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمداً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله، بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام، وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله تعالى، أنه إشارة إلى تحريمه إلى الله تعالى، ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه ويحرمون مكانه صَفَراً، فأشار إلى أنه شهر الله الذي حرمه، فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك وتغييره “.

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: “إن الله افتتح السنة بشهر حرام واختتمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يسمى الله: (شهر الله الأصم) من شده تحريمه “.

 وقال أبو عثمان النهدي: ” كانوا يعظمون (أي السلف) ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من محرم “.

ومما يترتب على حرمة شهر الله المحرم ما يلي:

1- عظم إثم الظلم فيه لحرمته:

قال تعالى في حرمة الأشهر الحرم: ” فلا تظلموا فيهن أنفسكم “، أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها. وقال أهل العلم الظلم محرم في كل الشهور، إلا أنه أعظم إثماً ووزراً في الشهور الحرم (محرم، رجب، ذي القعدة وذي الحجة).

وقال ابن عباس في قوله تعالى:  (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) أي في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حراماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.

وقال قتادة في ذلك: “إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل”.

وقال القرطبي: “خص الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان، كما قال تعالى: ” فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج ِّ” (سورة البقرة: 197).

2- تحريم ابتداء القتال فيه عند بعض العلماء:

قال ابن كثير: قد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام، هل هو منسوخ أو محكم على قولين:

الأول وهو الأشهر: أنه منسوخ؛ لأنه تعالى قال هاهنا: “فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ”، وأمر بقتال المشركين فقال: “وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً”، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً، ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيد القتال بمضي الأشهر الحرم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين.

والقول الثاني: إن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام؛ لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ” (سورة المائدة:2). وقوله أيضاً: “الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ “(سورة البقرة:194)، وقال أيضاً: ” فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حيث وجدتموهم” (سورة التوبة:4). ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم.

والحكمة من تحريم القتال في الأشهر الحرم، فقد أوردها ابن كثير في تفسيره، فقال: “وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمناً”.

ويفهم من ذلك كله ومن كلام أهل العلم أن الجهاد جهاد دفع وجهاد طلب، وجهاد الدفع (دفاع) جائز في الأشهر الحرم، أما جهاد الطلب (الهجوم) فقد اختلف العلماء في جواز ابتدائه في الأشهر الحرم كما بينا في بداية المسألة.

 ثانياً: فضل شهر الله المحرم:

رجح طائفة من العلماء أن محرم أفضل الأشهر الحرم، قال ابن رجب: وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم ورجحه طائفة من المتأخرين، ويدل على هذا ما أخرجه النسائي وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ” سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل؟ فقال: خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم”، قال ابن رجب رحمه الله: “وإطلاقه في هذا الحديث (أفضل الأشهر) محمول على ما بعد رمضان”. أي أن شهر الله المحرم أعظم الشهور بعد رمضان.

ومما يدل على فضل شهر الله المحرم ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل”.

ويدل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله، فلم يصم النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً غير رمضان.

وقال النووي: ” فإن قيل: في الحديث إن أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم، فكيف أكثر الصيام في شعبان دون المحرم؟ فالجواب: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر حياته قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، كسفر أو مرض أو غيرهما”.

مسألة: حكم صيد البر في الأشهر الحرم:

إن تحريم صيد البر متعلق بأمرين:

الأول: الإحرام بحج أو عمرة: لقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ” (سورة المائدة: 95).

 الثاني: الصيد في حدود الحرم: والمقصود به مكة والمدينة للأحاديث الواردة في ذلك.

أما الصيد في الأشهر الحرم لغير المحرم بحج أو عمرة وفي غير حدود الحرم (مكة والمدينة) جائز ولا بأس فيه.

 المبحث الثاني

صيام عاشوراء

أولاً: تعريف يوم عاشوراء:

يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم، وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أن يوم عاشوراء أطلق عليه هذا الاسم؛ لأنه اليوم العاشر، كما سمي التاسع تاسوعاء.

ومن الجدير بالذكر أن أقوال العلماء اختلفت في تحديد يوم عاشوراء، فقال بعضهم هو يوم التاسع من محرم، غير أن رأي جمهور العلماء أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم وهو الراجح. قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه المجموع: ” عَاشُورَاءُ وَتَاسُوعَاءُ اسْمَانِ مَمْدُودَانِ ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا : عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ ، وَتَاسُوعَاءُ هُوَ التَّاسِعُ مِنْهُ هَذَا مَذْهَبُنَا ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ … وَهُوَ ظَاهِرُ الأَحَادِيثِ وَمُقْتَضَى إطْلاقِ اللَّفْظِ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ “.

ثانياً: فضل صيام عاشوراء:

يوم عاشوراء له فضل عظيم وحرمة قديمة، فقد كان موسى عليه السلام يصومه لفضله؛ بل كان أهل الكتاب يصومونه، بل حتى قريش كانت تصومه في الجاهلية، وقد وردت عدة أحاديث عن فضل عاشوراء وصيامه، منها:

1- روى أبو قتادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السَّنة التي قبله” (أخرجه مسلم والترمذيّ). وهذا من فضل الله علينا أن جعل صيام يوم واحد يكفر ذنوب سنة كاملة.

2- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ” ما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتحرّى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان” (رواه البخاري)، (ومعنى يتحرى، أي: يترقب ويتهيأ لصومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه).

مسألة: صيام عاشوراء ماذا يكفّر؟

اختلف أهل العلم هل يجري التكفير لكبائر الذنوب أم صغائرها، ويقول ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم: “والصحيح قول الجمهور: إن الكبائر لا تكفر بدون التوبة؛ لأن التوبة فرض على العباد”.

وقال الإمام النووي رحمه الله في كتابه المجموع: ” يُكَفِّرُ كُلَّ الذُّنُوبِ الصَّغَائِرِ، وَتَقْدِيرُهُ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلا الْكَبَائِرَ. ثم قال رحمه الله: صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَإِذَا وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ … كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ، وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ، رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ”.

 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفتاوى الكبرى: ” وَتَكْفِيرُ الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَعَرَفَةَ، وَعَاشُورَاءَ لِلصَّغَائِرِ فَقَطْ “.

وقال شيخ الإسلام أيضاً في كتابه مختصر الفتاوى المصرية: ” صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: صيام يوم عرفة يكفر سنتين ، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة. لكن إطلاق القول بأنه يُكفِّر، لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان: (كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)؛ ومعلوم أن الصلاة هي أفضل من الصيام، وصيام رمضان أعظم من صيام يوم عرفة ، ولا يكفر السيئات إلا باجتناب الكبائر كما قيده النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكيف يظن أن صوم يوم أو يومين تطوعاً يكفر الزنا والسرقة وشرب الخمر والميسر والسحر ونحوه؟ فهذا لا يكون”.

 مسألة: الأفضلية لمن: يوم عرفة أم يوم عاشوراء؟

إن ظاهر الحديث الواردة في فضل عرفة وفضل عاشوراء، تبين صراحة أفضلية صيام عرفة على صيام عاشوراء، فصيام عرفة يكفر سنتين (الماضية والباقية) وعاشوراء يكفر سنة واحدة (الماضية). غير أنه ينبغي على المسلم أن يجتهد فيصوم عرفة وعاشوراء، فهذه الأيام المباركات هي مواسم خير ينبغي أن لا تفوت بدون اغتنام وتحصيل أجر وثواب.

قال ابن حجر في فتح الباري: “إن يوم عاشوراء يكفر سنة وإن صيام يوم عرفة يكفر سنتين. رواه مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك كان أفضل”.

قال ابن القيم في بدائع الفوائد: ” فإن قيل لم كان عاشوراء يكفر سنة ويوم عرفة يكفر سنتين؟ قيل فيه وجهان:

أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام بخلاف عاشوراء.

الثاني: أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا بخلاف عاشوراء فضوعف ببركات المصطفى صلى الله عليه وسلم”.

ثالثاً: حكم صيام عاشوراء:

أما حكم صيام يوم عاشوراء فهو مستحب، فقد روى عبد الله بن عمرو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه” (رواه مسلم). ولكن ينبغي على الإنسان المسلم أن يحرص على صيام يوم عاشوراء لعظيم أجره ولحرص النبي  صلى الله عليه وسلم على صومه.

ويجدر بالمسلم أن يحرص على صيام عاشوراء لما فيه من الأجر العظيم، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصومون عاشوراء ويصومون أطفالهم الصغار، فعن الرُّبيع بنت معوِّذ رضي اللَّه عنها قالت: “أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان مفطراً فليتم بقية يومه، فكنّا بعد ذلك نصومه، ونصوِّمه صبياننا الصغار، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم أعطيناها إياه، حتى يكون الإفطار”. وفي رواية: ” فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم” (رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم).

رابعاً: المراحل التي مر فيها صيام عاشوراء:

مر صيام عاشوراء بأربع مراحل، وهي:

1- المرحلة الأولى: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء مع قريش في الجاهلية، لكنه لم يكن يأمر الناس بصيامه، فعن عائشة رضي اللَّه عنها: ” أن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول اللَّه بصيامه، حتى فرض رمضان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : من شاء فليصمه، ومن شاء فليفطره” (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية للبخاري: ” كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوماً تستر فيه الكعبة”.

يقول القرطبي في صيام قريش لعاشوراء في الجاهلية: لعل قريشاً كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم عليه السلام.

2- المرحلة الثانية: حينا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، وبعد مضى فترة من قدومه رأي صيام اليهود لعاشوراء، فصامه وأمر الناس في السنة الثانية من الهجرة بصيامه، وهنا اختلف العلماء في حكم صيام عاشوراء قبل أن يفرض صيام رمضان، فمنهم من يرى أنه كان واجباً، وهو قول أبي حنيفة وروي عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنهم من يرى أنه كان سنة مؤكدة وهو المشهور عند الشافعي وبعض الحنابلة وغيرهم.

3- المرحلة الثالثة: بعد فرض شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن الحث على صيامه مع بقاء استحبابه، فجاء في صحيح مسلم: فلما فرض شهر رمضان قال صلى الله عليه وسلم: (من شاء صامه ، ومن شاء تركه).

4- المرحلة الرابعة: تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على صومه مع عزمه على صيام يوم تاسوعاء مخالفة لليهود.

خامساً: الحكمة من صيام عاشوراء:

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ مَا هَذَا: قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِه” (رواه البخاري).

 وفي رواية للإمام أحمد عن أبي هريرة نحوه وزاد فيه: “وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً”.

 سادساً: استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء:

روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ” حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ”. قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” (رواه مسلم).

وروى مسلم أيضاً من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، فمات قبل ذلك”.

قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر، ونوى صيام التاسع.

قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه المجموع: ” ذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجهاً:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْلُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ، كَمَا نَهَى أَنْ يُصَامَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، ذَكَرَهُمَا الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ.

الثَّالِثَ: الاحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلالِ، وَوُقُوعِ غَلَطٍ، فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ”.

وأقوى هذه الأوجه هو مخالفة أهل الكتاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفتاوى الكبرى: “نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ في عَاشُورَاءَ: “لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لأصُومَنَّ التَّاسِع”.

وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه فتح الباري في تعليقه على حديث: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”،  (ما همّ به من صوم التاسع يُحتمل معناه أن لا يقتصر عليه بل يُضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح).

وبما أن الصيام في شهر الله المحرم أفضل الصيام بعد شهر رمضان، ولأجر الصيام العظيم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً” (رواه البخاري ومسلم) ، على المسلم أن يجاهد نفسه على اغتنام هذه المواسم العظيمة وأن يصوم تاسوعاء وعاشوراء وغيرها من أيام شهر الله المحرم.

سابعاً: مراتب صيام عاشوراء:

 اختلف أهل العلم في بيان مراتب صيام عاشوراء على عدة أقوال، وقد ذكر ابن القيم في كتابه زاد المعاد وابن حجر في كتابه فتح الباري أن صيام عاشوراء ثلاث مراتب:

1- صوم التاسع والعاشر والحادي عشر وهذا أكملها .

2- صوم التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث .

3- صوم العاشر وحده.

وذكر شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم أن الإمام أحمد يقول في ذلك: “من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام، وابن سيرين يقول ذلك”.

وقال الخطيب الشربيني في كتابه مغنى المحتاج: ” حكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء الاحتياط له لاحتمال الغلط في أول الشهر، ولمخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر، والاحتراز من إفراده بالصوم، كما في يوم الجمعة، فان لم يُصم معه تاسوعاء سُنّ أن يصوم معه الحادي عشر، بل نصّ الشافعي في “الأم” والإملاء على استحباب صوم الثلاثة “.

ثامناً: حكم إفراد عاشوراء بالصيام:

 اختلف العلماء في حكم إفراد يوم عاشوراء بالصيام، فيرى الحنفية كراهية إفراد عاشوراء بالصيام مع حصول الأجر المترتب على صومه، أما جمهور العلماء يرون عدم كراهية إفراد عاشوراء بالصوم وهو الراجح، ورجحه الشيخ ابن تيمية وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله وغيرهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفتاوى الكبرى: “صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْم”. وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه تحفة المحتاج في شرح المنهاج: “وعاشوراء لا بأس بإفراده”.

وقد سئلت اللجنة الدائمة هذا السؤال، فأجابت بما يلي: ” يجوز صيام يوم عاشوراء يوماً واحداً فقط ، لكن الأفضل صيام يوم قبله أو يوم بعده ، وهي السُنَّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ” لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ” رواه مسلم”.

وسئل الشيخ ابن باز عن ذلك، السؤال التالي: إذا صام الشخص يوم عاشوراء من محرم فقط ولم يصم يوماً قبله ولا يوماً بعده، هل يجزئه ذلك؟

فأجاب رحمه الله: ” نعم يجزئه، لكن ترك الأفضل، الأفضل أن يصوم قبله يوم أو بعده يوم، هذا هو الأفضل، يعني يصوم يومين، التاسع والعاشر أو العاشر والحادي عشر أو يصوم الثلاثة، التاسع والعاشر والحادي عشر، هذا أفضل، خلافاً لليهود”.

وسئل الشيخ ابن عثيمين عن ذلك فقال: ” كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصوم ليست أمراً متفقاً عليه بين أهل العلم، فإن منهم من يرى عدم كراهة إفراده، ولكن الأفضل أن يصام يوم قبله أو يوم بعده، والتاسع أفضل من الحادي عشر، أي من الأفضل أن يصوم يوماً قبله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع” يعني مع العاشر، وقد ذكر بعض أهل العلم أن صيام عاشوراء له ثلاث حالات، وذكروا أن الأكمل أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، ثم أن يصوم التاسع والعاشر، ثم أن يصوم العاشر والحادي عشر، ثم أن يفرده بالصوم. والذي يظهر أن إفراده بالصوم ليس بمكروه، لكن الأفضل أن يضم إليه يوماً قبله أو يوماً بعده “.

 تاسعاً: حكم صيام عاشوراء إن كان يوم سبت أو جمعة:

لا حرج في صيام يوم عاشوراء إن كان يوم سبت أو جمعة، فقد قال الإمام الطحاوي رحمه الله في كتابه شرح معاني الآثار: “وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَلا تَصُومُوهُ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ كُلِّ الأَيَّامِ فِيهِ”.

وقال الإمام البهوتي الحنبلي رحمه الله في كتابه كشاف القناع عن متن الإقناع: “وَيُكْرَهُ تَعَمُّدُ إفْرَادِ يَوْمِ السَّبْتِ بِصَوْمٍ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ عَنْ أُخْتِهِ :لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ] ; وَلأَنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ فَفِي إفْرَادِهِ تَشَبُّهٌ بِهِمْ. (إلا أَنْ يُوَافِقَ) يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَوْ السَّبْتِ (عَادَةً) كَأَنْ وَافَقَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَكَانَ عَادَتَهُ صَوْمُهُمَا فَلا كَرَاهَةَ; لأَنَّ الْعَادَةَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ”.

وقد سئل الشيخ ابن باز عن حكم إفراد يوم السبت بالصيام، وعن حديث: ” لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ” ، فأجاب فضيلته: ” الحديث المذكور معروف وموجود في بلوغ المرام في كتاب الصيام وهو حديث ضعيف شاذ ومخالف للأحاديث الصحيحة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده”(أخرجه البخاري ومسلم)، ومعلوم أن اليوم الذي بعده هو يوم السبت والحديث المذكور في الصحيحين، وكان صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم (أخرجه أحمد)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على جواز صوم يوم السبت تطوعاً “.

وقد لخص الشيخ ابن العثيمين رحمه الله إفراد يوم السبت بالصيام في كتابه مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، على النحو التالي:

الحال الأولى: أن يكون في فرضٍ، كرمضان أَدَاءً، أو قضاءً، وكصيام الكَفَّارَةِ، وبدل هدي التَّمَتُّع، ونحو ذلك؛ فهذا لا بأس به ما لم يخصه بذلك مُعتَقِدًا أن له مزية.

الحال الثانية: أن يصوم قبله يوم الجمعة؛ فلا بأس به.

الحال الثالثة: أن يُصَادِف صيام أيام مشروعة؛ كأيام البيض، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وستة أيام من شَوَّال لمن صام رمضان وتسع ذي الحجة؛ فلا بأس؛ لأنه لم يصمه لأنه يوم السبت، بل لأنه من الأيام التي يُشْرَع صومها.

الحال الرابعة: أن يُصادِف عادةً، كعادة من يصوم يومًا وَيُفْطِر يَوْمًا، فَيُصَادِف يوم صومِهِ يوم السبت؛ فلا بأس به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين: إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه، وهذا مثله.

الحال الخامسة: أن يَخُصَّهُ بصوم تَطَوُّع؛ فيفرده بالصوم؛ فهذا محل النَّهي إن صَحَّ الحديثُ في النهي عَنْهُ.

أما صيام يوم الجمعة ففيه نهي، إلا أن العلماء قالوا بأنه يستثنى من النهي: ِمَنْ صَامَ قَبْله أَوْ بَعْده أَوْ اِتَّفَقَ وُقُوعُهُ فِي أَيَّامٍ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِهَا كَمَنْ يَصُوم أَيَّام الْبِيضِ أَوْ مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِصَوْمِ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ كَيَوْمِ عَرَفَةَ أو يوم عاشوراء فَوَافَقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ صَوْمِهِ لِمَنْ نَذَرَ يَوْم قُدُوم زَيْدٍ مَثَلًا أَوْ يَوْم شِفَاء فُلَانٍ (فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني).

وقال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله في فتوى مشابهة، حينما سئل كل منهما عن حكم صيام يوم الجمعة منفرداً : ” لو صادف يوم الجمعة يوم عاشوراء فصامه فإنه لا حرج عليه أن يفرده؛ لأنه صامه لأنه يوم عاشوراء لا لأنه يوم الجمعة “.

 عاشراً: حكم صيام عاشوراء لمن عليه قضاء من رمضان:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ على ثلاثة آراء:

1- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِكَوْنِ الْقَضَاءِ لا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ.

2- َذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ، قَالَ الدُّسُوقِيّ: يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ لِمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ، كَالْمَنْذُورِ وَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، سَوَاءٌ كَانَ صَوْمُ التَّطَوُّعِ الَّذِي قَدَّمَهُ عَلَى الصَّوْمِ الْوَاجِبِ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ أَوْ كَانَ مُؤَكَّداً كَعَاشُورَاءَ وَتَاسِعِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ.

3- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى حُرْمَةِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَعَدَمِ صِحَّةِ التَّطَوُّعِ حِينَئِذٍ وَلَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ، وَلا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَرْضِ حَتَّى يُقْضِيَهُ.

ويرجح الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله صحة صيام التطوع كصيام يوم عاشوراء لمن عليه قضاء من رمضان، مع التأكيد على أنه ينبغي الحرص على قضاء ما فات من رمضان؛ لأنه دين يجب أن يقضى.

مسألة: هل يجوز صيام عاشوراء بنية قضاء ما فات من رمضان؟

أجابت اللجنة الدائمة على ذلك بقولها: “إذا صام اليوم العاشر والحادي عشر من شهر محرم بنية قضاء ما عليه من الأيام التي أفطرها من شهر رمضان جاز ذلك، وكان قضاء عن يومين مما عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” (رواه البخاري ومسلم) .

وقال العلامة العثيمين رحمه الله: ” من صام يوم عرفة، أو يوم عاشوراء وعليه قضاء من رمضان فصيامه صحيح، لكن لو نوى أن يصوم هذا اليوم عن قضاء رمضان حصل له الأجران: أجر يوم عرفة، وأجر يوم عاشوراء مع أجر القضاء “.

 الحادي عشر: حكم قضاء عاشوراء لمن فاته صيامه لعذر شرعي كمرض أو حيض مثلا:

من فاته صيام عاشوراء سواءً لعذر أم لغير عذر، فإنه لا يقضى صومه لفوات وقته. والضابط فيما يقضى وما لا يقضى أنَّ كلَّ نفلٍ قيد بسبب كالكسوف، أو قيد بوقت كالأيام البيض وعاشوراء، فإنه لا يقضى إذا فات وقته أو سببه.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين عن ذلك، فأجاب في كتابه مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد صالح العثيمين: ”  النوافل نوعان: نوع له سبب، ونوع لا سبب له. فالذي له سبب يفوت بفوات السبب ولا يُقضى، مثال ذلك: تحية المسجد، لو جاء الرجل وجلس ثم طال جلوسه ثم أراد أن يأتي بتحية المسجد، لم تكن تحية للمسجد، لأنها صلاة ذات سبب، مربوطة بسبب، فإذا فات فاتت المشروعية، ومثل ذلك فيما يظهر يوم عرفة ويوم عاشوراء، فإذا أخر الإنسان صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء بلا عذر فلا شك أنه لا يقضي، ولا ينتفع به لو قضاه، أي لا ينتفع به على أنه يوم عرفة ويوم عاشوراء. وأما إذا مر على الإنسان وهو معذور كالمرأة الحائض والنفساء أو المريض، فالظاهر أيضاً أنه لا يقضي، لأن هذا خص بيوم معين يفوت حكمه بفوات هذا اليوم”.

لكن تجدر الإشارة أنه ما دام قد نوى المسلم صيام يوم عاشوراء ثم طرأ عليك ما يمنع ذلك من مرض فإنه إن شاء الله تعالى يجد ثواب صومه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ” (رواه البخاري).

 الثاني عشر: الحذر من الاغترار بثواب الصيام:

يغتر بعض الناس بصيامه ليوم عرفة أو يوم عاشوراء، فيقول إني ذنوب العام الماضي تكفر بصيام عاشوراء، ويوم عرفة يكفر ذنوب العام الماضي والعام القادم، فيسرف في المعاصي ولا يغتنم وقته في الطاعة، وهذا أمر ينبغي الحذر منه، فالمسلم الذي يحرص على أعلى درجات الجنة هو الذي يجتهد في طاعة الله في كل وقت وحين، ثم إنه من يضمن للمغتر أن يكون الله تعالى قد تقبل منه عمله وصيامه، فعلامة قبول الطاعة أن تتلوها طاعة أخرى، فمن قصر واغتر بصيامه فليستغفر الله وليجتهد في طاعة الله تعالى وليدعو الله أن يتقبل منه عمله، فإنما يتقبل الله من المتقين.

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: ” يَقُول بَعْضُهُمْ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْعَامِ كُلَّهَا ، وَيَبْقَى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيَادَةً فِي الْأَجْرِ ، وَلَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ ، أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ ، وَهِيَ إِنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ .فَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ ، لَا يَقْوَيَان عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ، إِلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إِلَيْهَا ، فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ. فَكَيْفَ يُكَفِّرُ صَوْمُ يَوْمِ تَطَوُّعٍ كُلَّ كَبِيرَةٍ عَمِلَهَا الْعَبْدُ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا ، غَيْرُ تَائِبٍ مِنْهَا ؟ هَذَا مُحَالٌ. عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ مُكَفِّراً لِجَمِيعِ ذُنُوبِ الْعَامِ عَلَى عُمُومِهِ ، وَيَكُونُ مِنْ نُصُوصِ الْوَعْدِ الَّتِي لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ ، وَيَكُونُ إِصْرَارُهُ عَلَى الْكَبَائِرِ مَانِعاً مِنَ التَّكْفِيرِ ، فَإِذَا لَمْ يُصِرَّ عَلَى الْكَبَائِرِ تَسَاعد الصَّوْم وَعَدَم الْإِصْرَارِ ، وَتَعَاونَا عَلَى عُمُومِ التَّكْفِيرِ ، كَمَا كَانَ رَمَضَانُ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مُتَسَاعِدَيْنِ مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ ، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ قَالَ : “إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ” (سُورَةُ النِّسَاءِ:31) ؛ فَعُلِمَ أَنَّ جَعْلَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِلتَّكْفِيرِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَتَسَاعَدَ هُوَ وَسَبَبٌ آخَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ، وَيَكُونُ التَّكْفِيرُ مَعَ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ أَقْوَى وَأَتَمَّ مِنْهُ مَعَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ أَسْبَابُ التَّكْفِيرِ كَانَ أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَشْمَل “.

وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في ذم المغتر في عبادته: “وَمِنْ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ طَاعَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعَاصِيهِ، لاَنَّهُ لا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَلا يَتَفَقَّدُ ذُنُوبَهُ، وَإِذَا عَمِلَ طَاعَةً حَفِظَهَا وَاعْتَدَّ بِهَا، كَاَلَّذِي يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، ثُمّ يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَيُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لا يَرْضَاهُ اللَّهُ طُولَ نَهَارِهِ، فَهَذَا أَبَدًا يَتَأَمَّلُ فِي فَضَائِلِ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّهْلِيلاتِ وَلا يَلْتَفِتُ إلَى مَا وَرَدَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُغْتَابِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالنَّمَّامِينَ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ مَحْضُ غُرُورٍ”.

الثالث عشر: الحذر من بدع عاشوراء:

ينبغي على المسلم أن يحذر من البدع الشائعة في يوم عاشوراء، فقد سُئِلَ شَيْخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عَمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ الْكُحْلِ، وَالاغْتِسَالِ، وَالْحِنَّاءِ وَالْمُصَافَحَةِ، وَطَبْخِ الْحُبُوبِ وَإِظْهَارِ السُّرُورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ؟ أَمْ لا؟

فأجاب في كتابه مجموع الفتاوى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لا الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَلا غَيْرِهِمْ، وَلا رَوَى أَهْلُ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، لا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلا الصَّحَابَةِ، وَلا التَّابِعِينَ، لا صَحِيحًا وَلا ضَعِيفًا، وَلَكِنْ رَوَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ مِثْلَ مَا رَوَوْا أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَرْمَدْ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ لَمْ يَمْرَضْ ذَلِكَ الْعَامِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.. وَرَوَوْا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ مَكْذُوبٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ. وَرِوَايَةُ هَذَا كُلِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذِبٌ.

ثم ذكر رحمه الله ملخصاً لما مرّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك فقال: ” فَصَارَتْ طَائِفَةٌ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ: إمَّا مُلْحِدَةٌ مُنَافِقَةٌ، وَإِمَّا ضَالَّةٌ غَاوِيَةٌ، تُظْهِرُ مُوَالاتَهُ وَمُوَالاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ، تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ، وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ، وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ .. وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ، وَرِوَايَةِ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ، وَالتَّعَصُّبُ، وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ، وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الإسلام، وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سَبِّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ.. وَشَرُّ هَؤُلاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الإسلام لا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلامِ.

فَعَارَضَ هَؤُلاءِ قَوْمٌ إمَّا مِنْ النَّوَاصِبِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِمَّا مِنْ الْجُهَّالِ الَّذِينَ قَابَلُوا الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ، وَالْكَذِبَ بِالْكَذِبِ، وَالشَّرَّ بِالشَّرِّ، وَالْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ، فَوَضَعُوا الأثَارَ فِي شَعَائِرِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَالاكْتِحَالِ وَالاخْتِضَابِ، وَتَوْسِيعِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْعِيَالِ، وَطَبْخِ الأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ، فَصَارَ هَؤُلاءِ يَتَّخِذُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمًا كَمَوَاسِمِ الأَعْيَادِ وَالأَفْرَاحِ، وَأُولَئِكَ يَتَّخِذُونَهُ مَأْتَمًا يُقِيمُونَ فِيهِ الأَحْزَانَ وَالأَتْرَاحَ، وَكِلا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ السُّنَّةِ “.

وقال ابن رجب في كتابه لطائف المعارف: ” وكل ما روى في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء، والاختضاب، والاغتسال فيه، فموضوع لا يصح … وأما اتخاذه مأتماً كما تفعل الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي فيه، فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن هو دونهم؟ “.

وقال الإمام ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتابه المدخل: ” من بدع عاشوراء تعمد إخراج الزكاة فيه تأخيراً أو تقديماً وتخصيصه بذبح الدجاج واستعمال الحنّاء للنساء “.

ويفهم مما سبق أن كل من اتخذ يوم عاشوراء عيداً أو يوم حزن قد فعل بدعة، وقد ضل في يوم عاشوراء طائفتين:

– طائفة شابهت اليهود فاتخذت عاشوراء موسم عيد وسرور، تظهر فيه شعائر الفرح كالاختضاب والاكتحال، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك من عمل الجهال، الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والبدعة بالبدعة.

– وطائفة أخرى اتخذت عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- تُظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي كذبها أكثر من صدقها، والقصد منها فتح باب الفتنة، والتفريق بين الأمة، وهذا عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.

 وينغي أن تكون العبادة حتى تكون مقبولة خالصة لوجه الله تعالى وموافقة لشرعه، ولم يرد في يوم عاشوراء إلا الصوم، وهذا ما ينبغي الحرص عليه لا غيره من البدع.

 ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى