علماء من عصرناكتب وبحوث

سلسلة كتب مختصرة | كتاب (مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني – الحلقة الثالثة)

مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني (الحلقة الثالثة)

غادرت روما يوم 8 نوفمبر 1941 متوجهًا إلى برلين بالقطار، والتقيت هناك بالوفد الذي كان في استقبالي، ودار بيني وبين كبار رجال السياسة الألمان أكثر من حوار، منها ما كان مع الهرفون وايسيزيكر نائب وزير الخارجية الألمانية، فقد رأيت في مكتبه خريطة كبيرة فأشرت إلى الأقطار العربية فاسترعيت انتباهه إلى اتساع رقعة هذه الأقطار فقال لي: “لا ريب أن هذه الأقطار العربية عظيمة جدًّا، ولكن عندما توازن بين قوى الأمم، لا تنظر إلى اتساع الرقعة ووفرة العدد فحسب، ولكنها قبل أي اعتبار ولا سيما في زمن الحروب إنها تهتم بالفرق العسكرية المسلحة، فتركيا -مثلاً- عندها ثلاثين فرقة جاهزة تصبح خمسين حين يدق النفير العام، بينما لا تملك الدول العربية أكثر من سبع فرق نظامية”.

كانت مقابلتي لأدولف هتلر فوهرر ألمانيا وزعيم الرايخ الثالث في الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر يوم الجمعة 21 نوفمبر 1941، وكان الاستقبال مهيبًا وحافلاً للغاية.

دار بيننا حديث طويل رحب هو بي في بدايته وبمدى معرفته بأحوال أقطارنا وقضيتنا، ثم شرحت له قضية العرب وقضية فلسطين وجهودنا للتخلص من الاستعمار، وطلبت عقد معاهدة رسمية صريحة بين العرب وألمانيا ودول المحور تشتمل على مطالبنا الأساسية.

تحدث معي هتلر حول قضية اليهود ومخططاتهم التدميرية وقال: “إن مهمتي الأساسية ورسالتي الأولى في الحياة هي تصفية قضية اليهودية العالمية؛ لأنها بمنظماتها الواسعة ونياتها السيئة نحو العالم قد تشكل خطرًا هائلاً يهدد الإنسانية جمعاء”.

ثم قال لي: أليس من الغريب أن يتعاون الخصمان المتناقضان في المبادئ أمريكا وروسيا ضدنا، لقد استطاعت اليهودية العالمية بوسائلها الشيطانية أن تجمع بين النقيضين الرأسمالية والاشتراكية المتطرفة وتقرنهما بحبل واحد، وتسوقهما معًا لخدمة أهدافها.

حين طالبت من هتلر تصرحات مؤيدة لاستقلالنا أو عقد اتفاقية قال لي: “ليس من الملائم تلك التصريحات، أو عقد اتفاقات قد تضرنا أثناء الحرب، لكن عندما نصبح في جنوبي القوقاز يكون قد حان وقت تحرير العرب، وفي إمكانكم أن تعتمدوا على كلمتي هذه”.

انتهى اللقاء وكان يساورني القلق؛ لأن هتلر كان يرى عدم إصدار تصريح وقطع عهد رسمي للعرب في الظروف الحاضرة، خشية أن يُحدِث ذلك رد فعل في بعض الأقطار الأخرى، بينما كنا نحن في حاجة إلى ما يطمئن الأمة العربية.

لم نيأس من الحصول على ذلك التصريح، وبعد مداولات ومباحثات صدر التصريح في 28 أبريل 1942 بعد موافقة هتلر، وكان التصريح يتضمن استقلال الدول العربية وإلغاء الوطن القومي لليهود.

كانت تلك التصريحات بشأن المشرق العربي، أما المغرب العربي فكانت ألمانيا ترى عدم إغضاب فرنسا وإسبانيا إذا صرحت بذلك، لكننا لم نيأس وقدمنا مشروعات عديدة تتضمن استقلال بلاد المغرب، وقلت للألمان: إن المغرب العربي مصمم على نيل استقلاله على كال حال، وإنه من الممكن أن يتعاون حتى مع الشيوعية في سبيل ذلك، فقال لي الألمان: “إن الدول الأوروبية ترى أن الإسلام أشد خطرًا عليها من الشيوعية؛ لأن الشيوعية يمكن معالجتها وصد خطرها برفع مستوى المعيشة في الشعوب، وتوزيع العدل الاجتماعي، وغير ذلك من الوسائل.

بينما ترى هذه الدول في الإسلام عقيدة زاحفة يخشى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة في عظامها، وأضعفت نواحيها الخلقية والروحية والعسكرية، فهم يخشون إذا تآلفت هذه الدولة المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم، ويتوهمون أنها لا تلبث أن تثب على أوروبا مرة أخرى، ويعيد التاريخ نفسه”.

قررت الحكومة الألمانية إنشاء فيلق عربي 1944، وقامت بتدريبهم وتزويدهم بالسلاح، ووافق هتلر على مساعدتنا بالسلاح في المعركة القابلة، ووضع تحت تصرفنا طائرات لنقل السلاح وتخزينه في فلسطين، وتدريب المجاهدين الفلسطينيين عليه، وقد وصلت بالفعل الطائرة الأولى وعليها الخبراء الألمان، وتم تخزين كمية هائلة من السلاح حوالي 30 ألف بندقية ورشاش في جزيرة رودس وفي ليبيا تمهيدًا لنقلهم إلى فلسطين، وتخزينهم في فلسطين.

في سنة 1941 وافق الألمان وحلفاؤهم على قيام الحركة الكرواتية المتطرفة “أوستاشي” بإنشاء دولة كرواتيا، وضم بوسنة وهرسك إليها.

وكان من الواضح أن الصرب لن يقبلو أن تمتد سيادة الدولة الكرواتية إلى البوسنة والهرسك حتى ولو لم تمسسهم تلك الدولة بسوء، وحدث اصطدام هائل بينهم تكبد المسلمون البوشناق خلالها أكثر الضحايا.

واتسع نطاق عدوان الصرب على المسلمين، فأصبحت البوسنة ميدانًا لمجرزة كبرى، وأصدر الجنرال ميخائيلوفيتش قائد عصابات الصرب بيانًا إلى تلك العصابات يوضح أن القصد من كفاح (الصرب) هو إيجاد حدود مشتركة مباشرة بين صربيا والجبل الأسود.

وقد كنت في روما حين وصلتني الرسائل والأنباء المحزنة والمفصلة عن الفظائع الرهيبة الجارية هناك، وعلى أثر ذلك بادرت بمراجعة وزارة الخارجية الألمانية، وأطلعت وكيلها على الوضع، فأبدى شديد أسفه، وقال: إن تلك المناطق هي في المجال الحيوى لإيطاليا، فلا يمكننا القيام بعمل جدي قبل الرجوع إليها، فسافرت إلى روما في اليوم التالي، وطلبت مقابلة موسولينى فقابلني فورًا في قصر فينيسا.

ذكرت لموسوليني أنباء المجازر الفظيعة التي تقترف في حق المسلمين، وقلت له: لو حدث جزء يسير من هذا في الشرق للأوروبيين لقامت الضجة العظيمة والدعايات.
فأبدى اهتمامًا شديدًا، وقال: إن هذا الموضوع خطير، واتصل بالسفير الألماني في روما، واتفقوا على اتخاذ جميع الوسائل لوقف هذه الحالة المؤسفة.

وبعد عودتي إلى برلين وصلتني أنباء تدل على أن المجازر مستمرة، وأن عدد القتلى بلغ مائتي ألف، وأن ضعف هذا العدد بلا مأوى، فاتصلت بالجنرال (برغر) رئيس أركان جيش الصاعقة وأقنعته بضرورة السفر فأعد لي طائرته الخاصة العسكرية، وسافرت واجتمعنا مع زعماء البوسنة والهرسك، وبعد البحث معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظة على البشانقه والدفاع عنهم، وافقت الحكومه الألمانيه على تجنيد الشبان منهم، وتدريبهم وتسليحهم بشرط الدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم داخل بلادهم، وتم تسجيل حوالي 7 آلاف متطوع.

وتم تشكيل فرقة عسكرية بوشناقية سميت: فرقة خنجر، ثم تلا ذلك إنشاء فرقة أخرى، وبلغ عدد الفرقتين حوال 37 ألف، كما تألفت قوات محلية أخرى.

وتم الاتفاق مع السلطات الألمانيه على التالي:

1- تجنيد عدد من الشبان المسلمين في مقاطعات بوسنة وهرسك لتأليف قوات عسكرية.

2- لا تكلف هذه القوات بالقيام بأي عمل عسكري خارج بلادهم، ولا بأى مهمة غير الدفاع عن أنفسهم.

3- يناط بهذه القوة حماية النفوس والأموال من المعتدين عليهم داخل بلادهم.

4- تتعهد الحكومه الألمانية بتسليح هذه القوات وتدريبهم وبقاء السلاح مع أفرادها.

5- تكون القوات العسكرية تابعه لجيش (أس) قوات الصاعقة الألمانية.

وقد قامت القوات البوسنية بمنع المجازر عنهم وعن جميع مسلمي البلقان وشرق أوروبا، وغدا الجنرال ميخائلوفيتش وغيره يدارونهم ويتوددون إليهم.

لقد درب الجيش الألماني فرقة خنجر وعند البدء في تأليف الفرقة زارنا قائد كبير مسئول عن التموين الروحي للوقوف على رأينا في موضوع التموين الروحي للفرقة البوسنوية وقال: (إن العقيدة والإيمان ضرورة أساسية في كل جيش، وإن الجندي الذي لا يتمتع بالإيمان المتين، ولا يرتبط بعقيدة ولا يدري لماذا يقاتل ويضحي بروحه لا يمكن الاعتماد عليه، وإن التموين الروحي ضرورة قصوى كالتموين المادي، بل أكثر أهمية).

وعلى أثر ذلك تم إنشاء معهد للأئمة في مدينة غوين لتوزيعهم على الفرقه، وإنشاء آخر في مدينة درسدن، ولقد تشرفت شخصيًّا بإلقاء بعض المحاضرات، وكانت أحاديثنا تتطرق إلى قضية فلسطين، فكانوا يتحرقون شوقًا إلى الجهاد في فلسطين، وبالفعل فقد جاء عدد من ضباطهم وجنودهم، وخاضوا معارك عديدة مثل معركة يافا والقسطل والمالكية وغيرها، ولو اتسع مجال الجهاد حينئذ لرأينا عشرات الألوف من هولاء الجنود يساهمون في تحرير فلسطين..

لقد عرف البوشناق بالشجاعة النادرة، شهد لهم بذلك كل من عرفهم، قال عنهم هتلر: كانو من أبسل الجنود في الجيش النمساوي، وكانت قيادة الجيش النمساوي حين تشتد الحاجة وتستعصي جبهة تستدعي الجنود البوسنيين، وهذه شهادة هتلر شخصيًّا، وقد قال: إنه رأى ذلك منهم رأي العين.

كان الألمان قد أنشؤوا معهدًا حربيًّا لتخريج شبان العرب الذين كانوا يدرسون في الجامعات الألمانية، وطلبوا أن يدربوا تدريبًا عسكريًّا وافيًا؛ ليكونوا ضباطًا يعملون على تحرير البلاد العربية، وكان عددهم 200 شاب.

بعد إتمام تدريبات الشبان قررنا إرسال بعضهم إلى فلسطين للإعداد للمعركة الحتمية، فقابلت عددًا من المسؤولين الألمان، وتم توفير السلاح، وكل ما يحتاجه الفدائيون من عشرات الألوف من الرشاشات والبنادق وأنواع المتفجرات، وخصصوا لنا أربع طائرات لنقلها إلى فلسطين.

وفي صيف 1945 أرسلنا طائرة تحمل جزءًا من هذه الأسلحة والمعدات، وتمت عملية إنزال بالمظلات، كما قمنا بإعداد مخازن في الصحراء الغربية ووضعنا فيها 30 ألف قطعة من السلاح مع ذخائرها، لكن فشل حملة روميل حالت دون الإفادة من هذه الأسلحة.

كما أن الانخداع بوعود الإنجليز وأضاليلهم والغفلة التي رانت على قلوب العرب بسبب تضليل عملاء الاستعمار أدت إلى أن الذين اعتمدوا وكلفوا بإيواء المجاهدين الهابطين بالمظلات وإخفاء ما حملوه من أسلحة امتنعوا عن الدخول في هذه المغامرة بحجة أن موقف الإنجليز قد تغير ناحية اليهود بسبب اعتدائهم على بعض الضباط الإنجليز.

في ألمانيا كانت حالة التقشف خلال الحرب جلية واضحة في المأكل والملبس، وفي كل شؤون الحياة، وكنت أرى الكثيرين من كبار رجال الدولة وعيالهم يركبون الدراجات بدلاً من السيارة لتوفير البنزين.

كان الألمان يروضون أنفسهم ويعودون أجسامهم على الخشونة والتدريبات الشاقة، ومن ذلك أنهم كانوا يحملون أطفالهم على المشي حفاة خلال أشهر الصيف؛ لما في ذلك من تدريب الأطفال على الجلد وشظف العيش.

ومما يحز في النفس أن نرى هذا الفرق العظيم والبون الشاسع بين الألمان وبين ما نعيش فيه اليوم؛ فلا تقشف، ولا تخشن، ولا تدرب، ولا سلاح، ولا استعداد لحرب
الأعداء.

إن المشروعات العمرانية الضخمة في الأقطار العربية والنهضة الاقتصادية والنفطية تدعو إلى الإعجاب، ولكنها في نفس الوقت تبعث على القلق في أن تصبح غنيمة في أيدي الأعداء إذا لم تكن لها جيوش تحميها.

إن اليهود منذ وطأت أقدامهم فلسطين وهم يسيرون على طرق خاصة من حياة التقشف والتطوير، وإنفاق الأموال على التسليح والتحصين والتدريب وبناء القواعد العسكرية، وكل وسائل القوة التي ضمنت لهم فوزهم على العرب.

الموقف النازي من اليهود

كانت ألمانيا مقر اليهودية العالمية ومركزها الرئيسي قبل الحرب العالمية الأولى، وقد حاولوا الضغط على القيصر الألماني من أجل أن يعدهم بوطن في فلسطين من خلال تفاوضه مع العثمانيين مقابل أن يقدم اليهود المساعدة لهم في الحرب، لكن العثمانيين رفضوا الطلب نهائيًّا.

لجأ اليهود إلى بريطانيا فوافقت على منحهم وعدًا بالوطن المزعوم، حينها تحول موقف اليهود في ألمانيا على حد قول هتلر: “لقد اندفعوا يعيثون فسادًا وتخريبًا في ألمانيا والجيش الألماني خاصة، وفي بلاد الدول الحليفة لها، وينشرون دعاية سلبية واسعة ليوهنوا قوى الجيش والشعب، كما شرعت المنظمات اليهودية في أعمال تدميرية واسعة لتدمير المواصلات وقطع التموين عن الجيش وأعمال الجاسوسية”.

ولم يكد هتلر يستولي على السلطة 1933 حتى بادر بإنشاء معهد دراسة القضية الإسرائيلية في فرانكفورت من أجل فهم ذلك الشعب.

كان المعهد يضم نحو 70 أستاذًا من العلماء والمتخصصين في علوم التاريخ والنفس والتربية والسلالات والاجتماع… إلخ.

وقد زرت ذلك المعهد واطلعت على عدد من الوثائق الهامة لديهم، منها الخارطة التي وجدت في خزانة روتشيلد الحديدية وهي تحدد مملكة إسرائيل كلها ما بين النيل إلى الفرات، فأخذنا نسخة منها وعربناها ونشرناها.

لقد قام اليهود بإشعال الثورة والفوضى في ألمانيا تحت ستار الاشتراكية، فلما فشلوا هب من جانب آخر اليهود الرأسماليون في ألمانيا ليتولوا الزعامة فيها، وتحكموا في الشؤون الاقتصادية، وتلاعبوا بالعملة الألمانية.

لم يكتف اليهود بحرمان ألمانيا من النصر في الحرب، بل أضافوا إلى حرمانها من هدنة كريمة وصلح شريف إلى اضطرارها إلى دفع كميات هائلة من التعويضات للدول المنتصرة.

ومن الأحداث المهمة التي حدثت في ذلك الوقت تواصل الملك فاروق مع الألمان وطلبه التعاون معهم، وقد أثار هذا الحادث الإنجليز والأمريكان، فبيتوا لفاروق نية غادرة وتآمروا على خلعه.

 

 

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى