كتب وبحوث

“سجن اسمه غزة”.. كتاب يقدم لمحة مذهلة عن الحياة بالقطاع

“سجن اسمه غزة”.. كتاب يقدم لمحة مذهلة عن الحياة بالقطاع

 

تأليف جيمس رودجرس

 

بالنسبة للقارئ الحديث، ربما كان هذا واحدًا من الأوصاف الأكثر إثارة للاهتمام التي قدمها الرحالة المغربي ابن بطوطة عن الأماكن التي زارها. ليس لأنه صادم، ولكن بسبب المدينة التي يصفها: غزة. بالنسبة للمدينة، والشريط الساحلي الذي مزقته الحرب والذي يشترك معها في الاسم، فهي محددة اليوم بشكل أساسي بالجدران المحيطة بها. كانت غزة تحت الحصار معظم العقد الماضي، منذ تولت حماس السلطة في القطاع.

التطورات السياسية الأخيرة، المتمثلة في صورة حكومة وحدة وطنية، تعني احتمال أن يكون هناك مزيدًا من التحركات المستقبلية عبر الحدود الجنوبية مع مصر. ومع ذلك، لا يزال قطاع غزة مُحاصراً في الشمال والشرق بسورٍ بناه الجيش الإسرائيلي، الذي يتفوق على كل أعدائه في المنطقة. من جهة الغرب، يوجد البحر الأبيض المتوسط، تشتهر بعض شواطئه بالسياحة، لكن سواحله الشرقية ترتبط بالنزاع المسلح والمعاناة البشرية والإمكانات الضائعة. تقع غزة بالتأكيد، هي وسوريا، في الفئة الأخيرة. بدون الشواطئ في غزة، لازدادت الحياة سوءًا بلا شك. التيارات البحرية هناك تجعل السباحة خطرة، والعواصف الشتوية يمكن أن تكون عنيفة بشكل مدهش. ومع ذلك، تقدم السماء والأمواج بعض الراحة في شكل الضوء والهواء، إلى مكان يمكن أن تبدو فيه الحياة خانقة.

توهج ثم انطفأ

وكما يلاحظ دونالد ماكنتاير في كتابه الجديد الهام، “غزة: الاستعداد للفجر”، قد يقدم البحر أيضًا خلاصًا اقتصاديًا. فاكتشاف حقل بحري للغاز في غزة يُقدر حجمه بحوالي تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، كاد أن يبشِّر بحل الكثير من مشكلات الطاقة والاقتصاد في غزة. ربما تآمرت السياسة والنزاع -على نحو متوقع- لوقف ذلك. فحقل غزة البحري لا يزال غير مستغل. مثل “الصورة الجميلة للهب الغاز الضخم المشتعل في الهواء” – الذي يشبه به ماكينتاير الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وهو يعلن خطط لم يتم الوفاء بها لجلب الثروة من تحت الأمواج – فقد توهج ثم انطفأ.

في ذلك البحر شاهدت للمرة الأخيرة غروب الشمس البرتقالية الساطعة في ربيع عام 2004. كنت مراسلًا لقناة بي بي سي في غزة منذ عام 2002. ووقتها، كنتُ الصحفي الدولي الوحيد المقيم بشكل دائم في القطاع. خطف خلفي، آلان جونستون، في عام 2007، بينما كان يكاد ينتهي من عمله، يعني أنه بينما يستمر المراسلون في الذهاب إلى غزة، فإنهم لا يعيشون هناك. كانت تجربة جونستون التي تشير إلى “السقوط في الفوضى التي كان هو نفسه ضحية لها” (وفقًا لوصف ماكينتاير) تحديًا صحافيًا واجهه جونستون بصورة مثيرة للإعجاب. ورغم أنه قد أطلق سراحه بعد 16 أسبوعًا، فإن ما حدث جعل مديري التحرير قلقين بشأن إقامة الصحفيين في غزة منذ ذلك الحين.

وأنا أشاهد غروب الشمس في ذلك المساء، كنت أتأمل موضوعًا آخر يثيره ماكنتاير. كنت أعلم أنني على وشك المغادرة. كنت أعرف أنني أستطيع المغادرة متى شئت. وباستثناء الأيام التي كان القتال فيها محتدمًا بحيث كانت خطورة الاقتراب من المعبر الحدودي شديدة -وهي أيام قلائل- كنت حرًا في الدخول أو الخروج كما شئت. أما الناس الذين كنت أعيش معهم، فلم يكونوا كذلك. أوضح ماكينتاير هذه النقطة، بكل تعقيداتها، ليس فقط في أقصر فصول الكتاب، “سوف يشعرون بالحنين للوطن دائمًا”، بل في جميع أجزائه. إنها مشكلة معقدة، لأنه في حين أن سكان غزة يتوقون إلى الفرص التي يمكن أن توفرها لهم الحياة في الخارج: الدراسة والعمل، وفي حالة وجود رياضي أوليمبي محتمل، هم لا يريدون التخلي عن وطنهم.

إذ قد يُشعرهم ذلك بأنهم يديرون ظهورهم لأبناء وطنهم، ويتركونهم في معاناتهم. في بعض الأحيان يشعر سكان غزة الذين لديهم وظائف أو دراسة جامعية في الخارج بالقلق إزاء عودتهم إلى ديارهم للزيارة. فقد تجعلهم تطورات الصراع محاصرين، وبالتالي، عاطلين عن العمل. البعض يغادرون بلا رجعة، لكن “التناقض غير القابل للحل”، كما يقول ماكنتاير بإيجاز، يظل: “غزة سجن يتوقون للهروب منه، ولكنها الوطن أيضًا”. يبدع ماكينتاير حقًا من خلال سرده ​​هذه القصص الفردية. فتنت غزة العديد من الصحفيين الذين جاءوا في زيارات قصيرة، لكن القليل منهم أجهد نفسه في محاولة فهم القصة وراء سفك الدماء. تضع لقاءات ماكنتاير مع مصنعي الجينز والعصائر؛ وطلاب الموسيقى وعداء الماراثون، صورة حية أمام أعيننا لأهل غزة، نادرًا ما تظهرها التقارير الإخبارية اليومية.

بالطبع حالات الوفاة مُسجلة أيضًا، بعضها صادم حتى بالنسبة لجمهور الأخبار الذي اعتاد على أخبار القتلى في الشرق الأوسط. فالأم الغزِّية التي جعلت الجنود الإسرائيليين ينتظرون على الباب، ثم همت بفتحه في اللحظة التي قرروا فيها تفجيره بالمتفجرات، هي حالة يصعب نسيانها. تُوجه كل القصص الفردية في إطار الصورة السياسية الأكبر. يثبت ماكنتاير أنه مؤرخ مستنير للصراع الداخلي الفلسطيني: بشكل أساسي بين فتح وحماس، ولكن أيضًا بين حماس ومنافسيها الإسلاميين الأحدث. كتاب “غزة: الاستعداد للفجر” يقدم أيضًا تحليلًا حكيمًا للصراع مع إسرائيل – والمحاولات الدولية للتصدي له.

ركز نهج إسرائيل في السنوات الأخيرة على سياسة “جز العشب” – وهي عبارة تهدف إلى شرح سياسة إطلاق العمليات العسكرية على فترات لضرب الجماعات الفلسطينية المسلحة

حتى لا ننسى

يدرك ماكنتاير الفجوة بين ما يقوله حتى كبار الدبلوماسيين في العلن، وما يبدو أنهم يفكرون فيه حقيقةً. يُقال إن جون كيري، آخر وزير خارجية أمريكي حاول حل النزاع، وفشل، سخر من القصف الإسرائيلي الذي أودى بحياة 55 مدنيًا في ست ساعات، قائلًا “يالها من عملية دقيقة”. الرسائل الدبلوماسية التي اطلعتُ عليها أثناء الإعداد لكتابي الأخير “عناوين من الأراضي المقدسة”، اتهمت إسرائيل “باتخاذ إجراءات غير مقبولة في معظم المجتمعات في القرن الحادي والعشرين”. نادرًا ما تتضمن التصريحات الرسمية المراوغة مثل هذه العبارات.

ولأن احتمال التغيير حاليًا بالنسبة لشعب غزة ضئيل. يتذكر المرء مع اقتراب عام 2018، تقرير الأمم المتحدة لعام 2012 الذي تساءل عما إذا كان القطاع سيكون صالحًا للمعيشة في عام 2020. وعلى الرغم من ذلك، ليست هناك عملية دبلوماسية بإمكانها إنهاء معاناة غزة. لقد فشل جون كيري. ولم يظهر الرئيس ترامب اهتمامًا شخصيًا. أما صهره جاريد كوشنر فقد وُصف بأنه عنصر فاعل محتمل، ولكن لا توجد مؤشرات على تقدم ملموس حتى الآن.

ركز نهج إسرائيل في السنوات الأخيرة على سياسة “جز العشب” – وهي عبارة تهدف إلى شرح سياسة إطلاق العمليات العسكرية على فترات لضرب الجماعات الفلسطينية المسلحة. يتجاهل هذا التعبير الملطف أيضًا حقيقة أن غالبية الوفيات في العمليات الكبرى تقع بين صفوف المدنيين. وكما يشير ماكنتاير، حتى إذا تم إسقاط منشورات تطلب من المدنيين مغادرة منازلهم، فإنهم لا يعلمونهم “بالمناطق الآمنة التي يلجأون إليها بعد فرارهم من منازلهم”.

أحيانًا يتساءل الصحفيون الذين يغطون الصراع ما إذا كان عملهم يشكل فارقًا. لو كان البث الفضائي والتغطية الصحفية وحدهما يؤديان إلى تحقيق السلام، لضَمِن نطاق التغطية الموسع الوصول إلى تسوية منذ زمن بعيد. ليس هذا ممكنًا بالطبع، لكن كتابًا مثل “غزة: الاستعداد للفجر” له دور حيوي في تذكير العالم بما يجري هناك. يومًا ما قد تكون هذه المعرفة مجرد جزء من الحل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مترجم عن: “ذا كونفرسايشن”

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى