تقارير وإضاءات

زواج متعة وإتجار بالبشر: الجحيم يحاصر نساء العراق

زواج متعة وإتجار بالبشر: الجحيم يحاصر نساء العراق

إعداد إسلام كفافي

على مدار السنوات الماضية بدت التقارير الصحفية التي نشرتها الصحف العربية حول أزمات زواج القاصرات ونسب الطلاق المخيفة بين الفتيات صغار السن وكذلك نسب انتحار النساء في العراق، تقارير سطحية نوعاً ما، تتناول الأمر من منظور الأرقام والإحصاءات دون القدرة على التوغل داخل ذلك العالم المخيف، والذي يمكن القول، إن عمقه أصعب وأكثر ظلمةً بكثير مما يتخيل البعض، فإذا ما قررت أن تطلق عليه دائرة الجحيم لن تكون مبالغاً.

على مدار عدة أشهر أجرت الصحفية نوال المقحفي رفقة صحفي آخر لم يُعلن عن اسمه حفاظاً على سلامته، تحقيقاً صحفياً ضمن تحقيقات شبكة بي بي سي البريطانية، هو الأول من نوعه داخل حي الكاظمية بالعراق، تُدار مجموعة من المكاتب المتخصصة في تسيير عمليات الزواج، والتي يديرها رجال الدين الشيعة في المحافظة، ليتكشف أن عمليات الزواج التي تديرها العديد من هذه المكاتب ليست كما يروج لها بالعلن، بل ثمة كارثة أخرى تشتعل في الخفاء.

زواج أم دعارة

في واحد من شوارع الكاظمية المزدحمة تقبع المحال المتراصة والتي كتب على بواباتها «مكاتب تسيير الزواج الشرعي» بالقرب من المقام الذي يرتاده أرباب المذهب الشيعي المقيمون في الضواحي المحيطة، والتي يمكن للراغب عند دخولها ودون الحاجة إلى التحدث سراً أو الخوف، أن يسأل عن زواج المتعة المتاح لدى المكتب، وإن كان يمكن لمن يدير المكتب أن يقدم فتاة صغيرة أو امرأة بالغة أياً كانت حالتها الاجتماعية، فهذه الفروق لن تشكل عبئاً في هذه الحالة لأن الأمر في الحقيقة – وكما هو مخطط له – قد لا يطول أكثر من أسبوع.

قابل الصحفي المجهول أحد أصحاب المكاتب في الكاظمية، وسأله عن إمكانية إتمام زيجة مؤقتة من فتاة تعجبه، ليقدم له صاحب المكتب كل التفاصيل المرتبطة بالأمر بجانب بعض النصائح، وقد كان على رأس هذه النصائح الموجهة للصحفي بصفته طالب زواج، ألا يكتب عقداً فهو بذلك سيحمي نفسه من الدخول في مشاكل قانونية، وكذلك سيكون بعيداً كل البعد عن أن تلاحقه المرأة فيما بعد إذا ما رغب في الرحيل.

لا تشكل مسألة العقد هنا أي مشكلة، فالراغب في ذلك النوع من الزواج يمكنه اصطحاب المرأة أو الفتاة التي يرغب في الزواج منها إلى أي من هذه المكاتب بعد الاتفاق معه على مبلغ من المال، ليحرر للطرفين عقداً صورياً للزواج، لكن العقد في الحقيقة لا يحوي أي معلومات تخص الرجل من حيث بياناته الخاصة أو بطاقة الهوية أو محل الإقامة، مجرد ورقة صورية تقتنع المرأة بموجبها أنها صارت زوجة، ويحدث ذلك في أكثر الأوقات مع عدد الكبير من الأرامل والمطلقات اللواتي وجدن أنفسهن وحيدات بلا عائل أو مصدر دخل.

رنا، إحدى السيدات اللواتي ينتمين إلى محافظة الموصل قبل أن تدخلها ميليشيات داعش المسلحة، فكان قرار رنا الفرار نحو بغداد مع الخارجين من المدينة، وذلك بعد أن كانت تعيش وحيدة إثر وفاة زوجها.

قابلت رنا رجلاً توسمت فيه الخير أخبرها أنه يرغب في الزواج منها وقبلت ذلك لرغبتها في تكوين بيت وأسرة، فطلب منها الذهاب للكاظمية لإتمام عملية الزواج هناك، ولم تكن لدى رنا أي معرفة للسبب الذي دفعه لذلك الطلب، لكنها قبلت وتمت الزيجة سريعاً، 3 أيام فقط من الزواج وخرجت رنا صحبة زوجها إلى السوق لشراء الحاجيات لتفاجأ باختفائه فجأة ودون أي مبررات أو تلميحات مسبقة.

قررت رنا العودة إلى الكاظمية بنسخة العقد المحررة للزواج، وسؤال صاحب المكتب عن سبب اختفاء زوجها، لتأتيها إجابة صاحب المكتب بأنه ما حدث كله كان زواج متعة، لن يضطر فيه زوجها إلى تطليقها أو إخبارها بالانفصال عنها أو ما شابه، بإمكانه الرحيل وحسب.

اتجار بالأطفال وسلع مستقبلية

إن كانت سنها صغيرة فبإمكانك أن تستمتع معها بطرق مختلفة، لكن دون أن تفقدها عذريتها، وبعد ذلك تستطيع الرحيل إن شئت.

هكذا تحدث أحد رجال الطائفة الشيعية في كربلاء إلى الصحفي المجهول عند سؤاله عن إمكانية الزواج من فتاة في الحادية عشرة من عمرها، وهي للغريب من أكثر الظواهر انتشاراً في تلك الضواحي المحيطة بالكاظمية والكرادة وكربلاء وغيرها من المقاطعات، حتى أن بعض أصحاب المكاتب يقترحون على الراغبين في ذلك النوع من العلاقات أن يحصل على شكل من أشكال الممارسة الجنسية لن تفقد الفتيات الصغيرات فيه عذريتها خشية موتها بسبب عدم استعدادها لذلك النوع من العلاقات.

وقد استطرد رجل الدين الشيعي شارحاً للصحفي المجهول ما يمكنه القيام به، أو ما يمكن أن يتطرق إليه كما يحدث في الزيجات الطبيعية إذا وجد الفتاة مناسبة لذلك، وأنه ليس في حاجة لأن يشعر بأي شكل من أشكال الذنب أو الخوف، وبإمكانه الرحيل بعد ذلك ببساطة دون أن يكون هناك ما يعيق حركته أو يطارده قانونياً.

تكمن واحدة من الكوارث التي كشف عنها ذلك التحقيق أن الفتيات الصغيرات اللواتي يتعرضن لهذا النوع من الزيجات في سن صغيرة، ما هن إلا وسيلة رجال الطوائف لتحقيق شبكة كاملة من الفتيات البالغات فيما بعد الصالحات لزيجات المتعة بمقابل مادي، على اعتبار أنهن لم يعدن صالحات للدخول في علاقة زواج طبيعية دائمة.

كما كان الحال مع «رسل» الفتاة التي تزوجت لأول مرة في عمر صغير زواج متعة، اختفى بعده سريعاً الزوج، لتجد صاحب المكتب يخبرها أنها لن تكون صالحة بعد ما دخلت هذا الطريق لأن تتزوج زواجاً طبيعياً دائماً، وعليه فمن الأفضل لها أن تستمر في العمل معه كزوجة من الزوجات اللواتي يوافقن على زواج المتعة، بدلاً من أن يصل بها الحال للعمل في الدعارة!

تكشف التقارير من داخل الضواحي العراقية عن تزايد كبير في نسب زواج الفتيات في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وهي سن تتحقق فيها بحسب ما يتصادف مع بعض الفتيات في تلك المناطق، مناسبتهن جسدياً للزواج بحسب ما يرى أهاليهن، لكن النتيجة هي استفحال نسب الطلاق بصورة مخيفة حتى أنه في عام 2018 وصلت عدد حالات الطلاق إلى عشر حالات كل ساعة، لأنه وبعد ذلك الكشف الذي خرج في تقرير بي بي سي لا يُعامل كزواج لبناء أسرة وكيان اجتماعي أو ما شابه، وإنما هو مجرد وسيلة يستخدمها البعض لتحقيق غرض مؤقت ينتج عنه في العديد من الحالات أطفال وينتهي بالطلاق.

تنتقل الكاميرا إلى إحدى المحاكم حيث تُسجل الزيجات بعقود رسمية، حيث سجلت إحدى الموظفات بحسب قولها 126 حالة زيجة لفتيات دون السن القانونية – 15 سنة في العراق – قالت الموظفة إنها وبحسب سنوات خبرتها، فإن 5 زيجات من هذا العدد قد تستمر وتنجح، لكن البقية – بشكل مؤكد حسب ما قالت – لا يستمر كثيراً.

في الواقع كانت الموظفة محقة، حيث كشفت التقارير عن 48 ألف حالة طلاق خلال فترة سبعة أشهر فقط من بداية عام 2018.

ينص القانون العراقي على أنه وفي حال زواج فتاة في سن أقل من السن المنصوص عليها في القانون، فإن الزوج وولي الفتاة يتعرضان للحبس، لكن المحاكم في السنوات الأخيرة قررت التخلي عن عقوبة السجن وإبدالها بغرامة تصل إلى ما يعادل 50 دولاراً، عندما يذهب الأهل إلى المحكمة لتسجيل عقد الزواج.

قد تبدو النماذج السابقة مغلفة بصيغة قانونية، لكن وفي قلب المحافظات نفسها، شكل آخر من تلك الممارسات يفتقد تلك الصورة القانونية.

منى، طالبة المدرسة التي كانت في الرابعة عشرة من عمرها، حينما طاردها رجل ما أثناء ذهابها وإيابها إلى المدرسة محدثاً إياها عن حبه لها وإعجابه بها، ليقنعها في النهاية أنه سيتزوجها وأنها لن تضطر لفعل شيء خاطئ أو محرم، وذهبت معه إلى الكاظمية، حيث قال لهم أحد رجال الدين الشيعة المالك للمكتب إن معرفة أهلها ليست شرطاً لإتمام الزيجة، فهي بالغة بما يكفي لتكون زوجة، وتمت الزيجة وحينما حاولت منى فيما بعد الخروج من هذه العلاقة هددها الزوج بصور ومقاطع فيديو كان قد التقطها لها، ليجبرها على البقاء معه، حتى قرر الرحيل فجأة.

شيوع الأمر وكثرة تداوله وتحوله إلى تجارة كسر لدى العاملين فيه ذلك الروتين الذي يمكن أن يضفي على الأمر صبغة منطقية، فالزيجة لا تتطلب لدى أحدهم أكثر من مكالمة هاتفية يقابل بعدها الراغب في الزواج من أصبحت زوجته – بحسب المكالمة – ويصبح الأمر سارياً بعد أن يتقاضى صاحب المكتب ما يطلبه من المال.

داخل سيارة الأجرة المملوكة لأحد أصحاب المكاتب والذي اتصل بفتاة يخبرها بأنه يريدها زوجة ليوم واحد لأحد الراغبين في الزواج، ووافقت فأملى عليها صيغة في الحديث ما معناه أنها توكله بأن يكون وليها في هذه الزيجة، ثم يكرر صيغة مشابهة على أسماع الصحفي المجهول، لتصبح الفتاة المجهولة زوجة لرجل مجهول لمدة يوم واحد، ينتهي الأمر بعدها وكأن شيئاً لم يكن.

ضحايا الحروب والاستغلال الجنسي

تذكر التقارير الرسمية في العراق ارتفاعاً ملحوظاً في عدد النساء الأرامل في مختلف المدن العراقية خلال سنوات الحرب والعمليات العسكرية المختلفة، حيث كشفت أن عدد الأرامل قد ارتفع ليسجل على عموم البلاد أكثر من 2 مليون أرملة باختلاف أسباب الوفيات، بما يعادل 150 أرملة كل يوم، وقد كشف التحقيق أن أرامل الحروب هن واحدة من أهم الأهداف التي يستخدمها أصحاب المكاتب لتحقيق أرباحهم المالية.

ريم.. التي فقدت زوجها في انفجار نفذه تنظيم داعش، فقدت بعدها منزلها هي وطفلاها، قررت اللجوء لأحد رجال الدين الشيعة في المنطقة ليقدم لها مساعدة لتربي أطفالها الأيتام، ليقترح عليها بعد عدة أيام مستغلاً حاجتها وفقرها المدقع هي وأطفالها لتتزوج زواج متعة، فوافقت من منطلق أنه زواج، لكنها وجدت نفسها قد دخلت دائرة لا تنتهي، فالزيجة أصبحت مستمرة ومتكررة، حتى أنها ذات مرة أجُبرت بالعنف والضرب على أن «تتزوج» 3 رجال في يوم واحد كل منهم لمدة قصيرة.

وقد تناول التحقيق أزمة أن النساء اللواتي يخرجن من أزمات مشابهة يعانين من رفض الأهل لاستقبالهن وتقديم يد العون، بجانب أن بعضهم لا يكتفون بذلك بل يقومون بقتل هؤلاء النساء، أو يقدم هؤلاء النساء والفتيات على الانتحار في سن مبكرة، كما أوضح أيضاً التحقيق الميداني الذي أجراه مركز سيسفاير عام 2015.

الملفت للنظر أن الحالات الكارثية التي تدور حولها كل تلك الأزمات ما هي إلا محاولة من أبناء ذلك المجتمع إلى «تقنين وتشريع وتحليل» ممارسة الجنس مع أي عدد من النساء دون الارتباط بالتزام دائم أو مسئولية، بجانب تقديم مبررات نفسية لهؤلاء بأن ما يحدث غير محرم شرعاً وغير ممنوع قانوناً، والأكثر كارثية من ذلك أن الأمر قد اتخذ منحى أعمق بكثير من أن ينتهي بتحقيق صحفي أو بكشف بعض القائمين عليه، بل إن الأمر متجذر ومتغلغل مما قد يظن البعض.

يؤكد الجميع أن هذا النوع من الزيجات ممنوع قانوناً في العراق، ويعاقب بالسجن كل من يقع فيما يسمى بزواج المتعة، لكن الواقع أن القائمين على تنفيذ زيجات المتعة يتحركون وينتشرون بكثرة لا يمكن السيطرة عليها، بسبب فشل القانون في تحقيق النفاذ والفعالية.

وهنا يأتي دور السؤال، إلى أي درجة من الدمار المجتمعي يمكن أن يؤدي ذلك الفساد المقنن بغطاء ديني واجتماعي.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى