رمضان و”دعاة السلاطين”.. أقنعة تتكشف وجمهور مليوني ينقلب عليهم

إعداد الخليج أونلاين

يعيش علماء الشريعة الإسلامية، والدعاة الدينيون في بعض الدول العربية، خصوصاً في السعودية، حالة من الخوف والرعب بعد اعتقال العشرات منهم وفرض الإقامة الجبرية على آخرين.

وأصبح من المتعذر على رجال الدين المستقلين الإدلاء بآرائهم ومواقفهم من الأحداث الاجتماعية في بلدانهم، بعد أن كانت السياسة فقط الخط الأحمر الذي ترسمه السلطة لهم، وحتى أولئك الموالون للسلطة والذين منحوها الشرعية الدينية والسياسية لم يعودوا قادرين على ممارسة دور الموجه للمجتمع في القضايا الفرعية، بعد أن وصلتهم توجيهات بضرورة التزام الصمت.

ولأول مرة منذ تأسيس المملكة العربية السعودية، توجه وزارة الداخلية أجهزة الأمن بعدم التعرض لمظاهر الإفطار في نهار رمضان، بحسب كتاب رسمي سربه نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي.

وما بين هذا وذاك بدأت تتجلى للعلن ظاهرة جديدة تتمثل بإعلان دعاة كبار ولاءهم للسلطة الحاكمة وتبرؤهم من ماضيهم الدعوي، بعد أن شغلوا الساحة بالمحاضرات والكتب والبرامج التلفزيونية، والفتاوى الحماسية التي تتناول قضايا الأمة الساخنة، حتى وصفهم البعض بـ”نجوم الدعوة”.

اضرب القريب ليخاف البعيد

منذ وصول محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في السعودية، حاول استمالة رجال الدين إلى جهته، وكسب ود البعض منهم الذين ظهروا للعلن موالين ومدافعين متبنين خطاب “التجديد” المزعوم، فيما آثر الغالبية من العلماء والدعاة الصمت وعدم إبداء الرأي بالمتغيرات الطارئة في بلادهم.

وبالرغم من هذا الإحجام شملتهم تصفية الحسابات، حيث وثق حساب “معتقلي الرأي” السعودي اعتقال 105 من الدعاة والنشطاء والأكاديميين والكتاب بعد تولي بن سلمان ولاية العهد بشهرين فقط.

الغريب أن عمليات البطش بدأت بالمقربين الذين جاهروا بالولاء على الملأ؛ فمنهم  على سبيل المثال سليمان أبا الخيل، رئيس جامعة الإمام محمد بن سعود، من أشد المشايخ الذين أعلنوا ولاءهم لبن سلمان، وأعلن كرهه الشديد للإسلاميين، وبادر بفصل موظفين وأكاديميين من الجامعة لمجرد اتهامهم بالتعاطف مع فكر الإخوان المسلمين الذي أعلنت السلطات محاربته، علاوة على سبه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إرضاء لولي العهد.

أبا الخيل أقيل من منصبه- رغم ولائه- بأوامر مباشرة من بن سلمان، بحسب ما ذكر حساب “العهد الجديد” على “تويتر”، وأشار إلى أنه “تم ربط قضايا فساد مالي بشخص أبا الخليل ومجموعة من فريقه وأتباعه”.

الشيخ إدريس ولد سيدي عبد القادر، عضو رابطة علماء المغرب العربي، قال لـ”الخليج أونلاين”: إن “تطاول الطغاة على الوعاظ وعلماء البلاط الموالين لهم، رسالة تخويف يضرب بها السلطان القريب ليهابه البعيد”.

وأضاف: “هذا النهج أثمر وأينع، فقد آثرت الغالبية العظمى الصمت، ولازمت بيوتها رغم ظهور المنكرات الدينية والاجتماعية، فشهدنا صمت هيئة كبار العلماء في السعودية مثلاً على تحجيم دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح هيئة الترفيه التي أطلقت برامج ما كان لأشد المتشائمين أن يتخيل وقوعها في بلاد أنجبت مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي اتخذت الدولة نهجه طريقاً للبلد ثقافياً واجتماعياً منذ تأسيس المملكة”.

وتابع ولد سيدي عبد القادر: “كبار العلماء الذين كانوا يوالون السلطة رغبة بما عندها، ويصدرون الفتاوى على مقاس الأحداث التي تلائم الحاكم، باتوا اليوم يسكتون عن المنكر خشية من الاعتقال أو الإقالة، كما حدث مع إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ صالح آل طالب وغيره من غير المعارضين”.

سقوط نجوم الدعوة

أمر معروف في تاريخ الأنظمة العربية أن تعتقل السلطات من العلماء والدعاة من يعلن ويجاهر، أو يكتب ويصرح بأي موقف يخالف نهجها، أما اعتقال الصامتين التائبين عن التعاطي مع الشأن الدعوي وتهديدهم، فهذه هي السابقة التي لم تحصل إلا في السعودية.

الشيخ محمد العريفي من النجوم الذين تألقوا في عصر ازدهار الفضائيات، ويتجاوز عدد متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة الـ20 مليوناً.

صمت الشيخ عن القضايا التي أثيرت في الآونة الأخيرة، ومن ضمنها قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، واعتقال زملائه من العلماء والدعاة، لم يشفع له لدى سلطات بلاده، حيث تعرض للاعتقال على فترات منذ عام 2014، دون أن تعلن السلطات ذلك.

ثم منع من الخطابة والتدريس في جميع مساجد المملكة، وفقاً لناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي، واعتقِل أحد أبنائه وحوكم، بحسب ما أكد حساب “معتقلي الرأي”، ثم اختفى حساب العريفي على “تويتر”، دون معرفة الأسباب.

ثم ما لبث الداعية، الذي يعتبر أحد وجوه تيار الصحوة في المملكة، أن ظهر على حسابه مادحاً لكلمة ولي العهد في مؤتمر قمة الاستثمار بالرياض، واصفاً همة الأمير بـ”حجم جبل طويق”.

العريفي أنشا وسماً، في ديسمبر الماضي، حمل عنوان #كلنا_ثقه_في_محمد_بن_سلمان، وقال في تغريدة له حينها: إنه “من الواجب علينا الدعاء لمن تولى أمر المسلمين، وتمني الخير والتوفيق له، والتعاون معه على الخير ونفع العباد والبلاد، والبعد عن المغرضين والمبغضين، الذين لا يفرحون للسعودية بمجد ولا عز، بل يتمنون لها الشقاق والخلاف”.

وعلى خُطا العريفي عاد الداعية البارز عائض القرني عن “توبته” من التعاطي بالشأن السياسي، التي أعلنها من مدة ليست ببعيدة، ليقدم مدحاً غير محدود لبن سلمان، عبر عنها بقصائد مديح وتغريدات ثناء وإشادة طارت بها المواقع الموالية.

القرني صاحب كتاب “لا تحزن” الأكثر مبيعاً، والذي يتابعه أكثر من 18 مليون شخص، اعتبر تاريخ “الصحوة الإسلامية” مليئاً بالتشدد والتضييق على الناس، وأنه يوجب الاعتذار للشعب السعودي، مؤكداً أنه مع الإسلام المنفتح المعتدل الذي نادى به بن سلمان.

وفي برنامج “الليوان” الذي بث الاثنين (6 يناير 2019) على قناة “روتانا خليجية”، قدم القرني اعتذاره للمجتمع السعودي عن الصحوة، وقال إنها خالفت الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام والدين الوسطي المعتدل وضيقت على الناس.

الأثر على الأجيال

الشيخ هيثم المشهداني، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، اعتبر أن الخوف من الملاحقة والاعتقال هو السبب الأكبر وراء ظاهرة سقوط دعاة لهم وزن وحضور في المجتمعات الإسلامية.

وقال المشهداني لـ”الخليج أونلاين”: “وصلتنا معلومات أن ملاحقة بعض العلماء والدعاة في السعودية الذين نجوا من الاعتقال وصلت إلى منعهم من السفر، ووضع أساور مراقبة في أيديهم لتعلم السلطات أماكن وجودهم”.

وأشار إلى أن “السلطات السعودية أصدرت عام 2017 قراراً بمنع الشيخين العريفي والقرني من السفر، ووجهت لهما عبر قنوات خاصة تهديدات بمصير يشبه مصير الشيخ سلمان العودة وآخرين”.

وأضاف في حديثه لـ”الخليج أونلاين”: إن “التاريخ الإسلامي مليء بالصور المشابهة لانحراف من يتصدرون للدين والدعوة والعامة عن المنهج القويم والانجراف وراء السلطة، إما خوفاً من البطش في الغالب، أو رغبةً في تحقيق المكاسب والامتيازات في بعض الأحيان، وقلة هي النماذج التي حققت صموداً أسطورياً في وجه الترهيب مثل الشيخ ابن تيمية والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما”.

وحول تأثير مواقف الدعاة على الرأي العام، وتنشئة الدعاة في العالم الإسلامي، قال المشهداني: إن “مثل هذه الوقائع تترك أثرها بلا شك على نفسية المتلقين للخطاب الدعوي، خصوصاً في ظل حملة التشويه التي تقدمها المسلسلات والبرامج الحوارية ضد كل ما يتعلق بالدين والدعاة إليه”.

واستدرك بالقول: إن “هذا الأثر سيبقى محدوداً وغير فعال في عصر ثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي، فالأجيال التي قادت ثورات الربيع العربي عبر فيسبوك وتويتر، لم تعد الأنظمة قادرة على حقنها بالصور التي تريدها كما كان الحال قبل عقود، والأجيال الحالية والصاعدة أذكى وأقدر على اكتشاف الحقيقة، وهذا ما يثير رعب الأنظمة المتسلطة في منطقتنا بعد أن خرجت الأمور عن سيطرة أجهزتها القمعية”.

يشار إلى أن موجة عارمة من النقد اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لهذه الظاهرة، وعبر النشطاء مؤخراً في جملة من المنشورات عن استغرابهم من ازدواجية نجوم الدعوة، ونشر بعضهم مقاطع مصورة تظهر القرني وهو يمتدح الرئيس التركي وأمراء دولة قطر، وأخرى تظهر تهجمه الأخير عليهم ونيله منهم.

وأكد مراقبون أن النجوم التي تألقت في سماء الفضائيات والإعلام الاجتماعي، سقطت بأعين من منحوهم هذه الثقة في ظل احتقان وغضب يسود العالم الإسلامي والعربي لما آلت إليه ثورات الربيع العربي بسبب الثورات المضادة التي حمل لواءها بعض الدول التي خافت من وصوله إليها.

(المصدر: الخليج أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى