كتاباتكتابات المنتدى

ربعي بن عامر والصورة المجتزأة

ربعي بن عامر والصورة المجتزأة

 

بقلم د. سعد الكبيسي (خاص بالمنتدى)

 

من منا لم يقرأ أو يسمع المقولة الخالدة للصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه التي وجهها لرستم قائد جيش الامبراطورية الفارسية عند التفاوض معه: “لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”؟
ومن منا لم يقرأ كيف مشى بفرسه على البسط الفاخرة الممتدة في مقر رستم والوسائد الموشاة بالذهب حتى قطع إحداها وربط لجام فرسه من خلالها وجلس على الآرض مستندا على رمحه وبدأ يفاوض رستم؟!!
لقد ساد تصور خلاصته أن ربعي بن عامر كان جنديا من جنود سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قبيل معركة القادسية وقد أرسله سعد للتفاوض وخوله بعقد اتفاق مع رستم وكيف أننا نفتخر أن جنديا عاديا في جيش المسلمين استطاع أن يفعل ذلك!!
وهذا صحيح لكنه ليس الصورة الكاملة.
وإليكم بقية الصورة:
1_ نعم، إن ربعي بن عامر كان جنديا في جيش سعد لكنه كان سيدا في قومه وعليه سيماء الرياسة والحصافة.
2_ كان ربعي بن عامر من أشراف العرب، وهو من بني تميم ، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد الفتوحات الإسلامية وأمد به عمر بن الخطاب المثنّى بن حارثة رضي الله عنهما فهو لم يكن رجلا عاديا كما يتصور البعض.
3_ إن سيدنا سعد أراد إرسال وفد عظيم من عشرة من المفاوضين وأهل الراي الكبار لخطورة المهمة حيث يعتمد عليها مصير الحرب والسلم بين دولة المسلمين بقيادة عمر بن الخطاب ونائبه سعد رضي الله عنهما وبين دولة الفرس بقيادة كسرى ونائبه رستم لكن من اعترض على الفكرة هو ربعي بن عامر.
4_ قال لهم ربعي: إن هؤلاء القوم قوم تباهٍ، وإننا لو فعلنا ذلك يرون أننا قد اعتددنا بهم (أي: جعلنا لهم مكانة عظيمة، وأقمنا لهم الهيبة ونحن خائفون منهم)، ولكني أرى أن ترسل لهم واحدًا فقط؛ فيشعروا أننا غيرُ مهتمين بهم؛ فيوهن ذلك في قلوبهم. فتجادل معه القوم، ولكنه ظل يجادلهم حتى قال سعد: ومن نرسل؟ فقال ربعي: سَرِّحوني. أي: دعوني أذهب إليه أكلمه؛ فوافق سعد ووافق بقية القوم.
وهذا يدل على مقدار فهمه وخبرته بالفرس وبالحرب النفسية وثقته بنفسه بحيث عرض عليهم هو ان يذهب لوحده حتى اقتنع الجميع بذلك وبهذا استعاض سعد بربعي بن عامر عن عشرة من المفاوضين الكبار فأي مفاوض وصاحب راي كان ربعي؟!!!
٥_ وفوق كونه قائدا عسكريا ورجلا دبلوماسيا تفاوضيا كان قائدا سياسيا وإداريا فقد ولاه الأحنف لما فتح طخارستان وكانوا بطبيعة الحال لا يؤمرون إلا من يصلح للسياسة والإمارة.
٦_ اقرأ معي ما حدث لنعرف شخصية وأسلوب وتكتيك هذا المفاوض الفذ العبقري:
انطلق ربعي على فرسه الصغير ذي الذيل القصير، وهذا شيء تُهَانُ به الخيولُ، ويلبس ثيابًا بسيطة جدا، فذهب به لمقابلة رستم، ويربط سيفه في وسطه بشيء غنمه من الفُرْسِ، وبالطبع هم يعرفون شكل لباسهم (وفي هذا إذلال لهم كأنه يقول لهم: ما كان في أيديكم بالأمس أصبح اليوم في يدي، وهذا أمر يؤثر في أنفسهم كثيرًا)، ويحمل فوق ظهره السهام، وفي مِنطَقته السيف، وله جحفة من جريد النخل مثل التُّرس يتقي بها السهام، وكانت دروع الفُرس من الحديد القوي، وكان يلبس من الدروع درعًا حديدية تغطي نصفه الأعلى، وكان من أطول العرب شعرًا وقد ضفَّره في أربع ضفائر، فكانت كقرون الوعل، ودخل عليهم بهذا المنظر غير المعتاد بالنسبة لهم؛ فدخل بفرسه ووقف على باب خيمة رستم، فطلب منه القوم أن ينزع سلاحه، فقال: لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رَجعتُ.
فأخبروا رستم بذلك، فقال: ائذنوا له بالدخول. فدخل بفرسه على البُسُطِ الممتدة أمامه، وهي طويلة جدًّا، يتراوح طولها ما بين مائة وخمسة وستين مترًا إلى مائة وخمسة وثمانين مترًا، وعندما دخل بفرسه وجد الوسائد المُوَشَّاة بالذهب؛ فقطع إحداها، ومرر لجام فرسه فيها وربطه به، وهذا يُوحِي بأن هذه الأشياء ليست بذات قيمة عنده، وفي هذا أيضًا إذلال للفرس، ثم أخذ رمحه، واتجه صوب رستم وهو يتكئ عليه، والرمح يدب في البسط فيقطعها، ولم يترك بساطًا في طريقه إلا قطعه، ووقف أهل فارس في صمت، وكذلك رستم، وبينما هم يفكرون في جلوسه جلس على الأرض، ووضع رمحه أمامه يتكئ عليه، وبدأ رستم بالكلام؛ فقال له: ما دعاك لهذا؟ أي: ما الذي دفعك للجلوس على الأرض؟ فقال له: إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال له: لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد …
ثم بعد حوار طويل قال لرستم: وأنا كفيل لك عن قومي أن لا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع، إلا إذا بدأتنا (أي: أنا ضامن لك أن لا يحاربك المسلمون إلا في اليوم الرابع). فقال له رستم: أسيِّدُهم أنت؟ أي: هل أنت سيد القوم ورئيسهم حتى تضمن لي أن لا يحاربوني؟ فقال له: لا، بل أنا رجل من الجيش، ولكنَّ أدنانا يجير على أعلانا. فهو يقصد أن أقل رجل منا إذا قال كلمة، أو وعد وعدًا لا بُدَّ وأن ينفذه أعلانا.
فربعي بن عامر نعم كان من سواد الجيش لكنه كان مفاوضا فذا في طريقة خطابه وحربه النفسية ومناوراته وثقته حتى تعجب من رستم وقال لقومه: أرأيتم من مَنطِقِه؟! (أي: كيف يتحدث؟) أرأيتم من قوته؟! أرأيتم من ثقته؟! وقد خاطب قومه ليستميلهم إلى عقد صلح مع المسلمين؛ وبذلك يتجنب الدخول معهم في حرب ولكنهم رفضوا ولجُّوا ودخلوا الحرب وسقطت فارس.

وأخيرا: فإن اجتزاء الصورة دون عرضها كاملة مضر وسيء على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة، من خلال طرح وعظي وتحفيزي محض قد يضر أكثر مما ينفع، بأن يُنظر لإيمان ربعي بن عامر وتقواه وتواضعه دون مهارته وموهبته وخبرته وأخذه بالأسباب او ان مجرد كونه صحابيا فهو صالح للمهمة دون وجود خصائص اخرى له ولهذا كان الواجب اخذ كامل الصورة لا بعضها ليستفاد من ذلك كله كيف يكون التقييم المتكامل.

ينظر ترجمة ربعي بن عامر في كتب: تاريخ الطبري وتاريخ دمشق والبداية والنهاية والإصابة في تمييز الصحابة، وبعض تلخيصات د. راغب السرجاني في موقع قصة الإسلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى