كتاباتكتابات المنتدى

جواهر التدبر (٢٤٥) .. تدابيرُ الرحمن

جواهر التدبر (٢٤٥)

 تدابيرُ الرحمن

 

بقلم أ.د.فؤاد البنا

– تحريم المنع:
للتحريم معنى اصطلاحي معروف في الشريعة الإسلامية، ومعظم ألفاظ التحريم في القرآن وردت في سياقه، لكن هذا المصطلح ورد بمعنى التبغيض والمنع الفعلي، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام حينما كان رضيعا: {وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلی‌ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ} [القصص: ١٢]، فحينما امتنع موسى عليه السلام عن الرضاعة من مختلف المراضع اللاتي جيء بهن ليرضعنه في بيت فرعون، لم يكن الامتناع لتحريم شرعي يملك أن يطبقه أو يرفضه، كما في سائر المحرمات التعبدية، ولكن الله ألهمه هذا الأمر وجبله عليه حتى يعود إلى حضن أمه، وهذا يعلمنا أن لا نقرأ المفردة بطريقة مبعثرة وإنما وفق منهج علمي متكامل إحدى مقوماته هي السياق الذي وردت فيه الكلمة!

– المنَح التي تأتي على شكل محن:
قد تأتي عطايا الله للناس على شكل بلايا ومصائب ورزايا، بمن فيهم الكافرين الذين أخذهم الله بعذاب استأصل شأفتهم، فقد كان يبدأ بإعطائهم إنذارات تنبههم إلى سوء ما يعتنقون من أفكار وما يجترحون من أفعال، كما قال تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون}، لكنهم لم يستفيدوا من عطية التنبيه الذي كان بإمكانه أن ينقذهم من عذاب الدنيا والآخرة؛ وذلك بسبب قلوبهم التي جعلتها الخطايا كالحجارة أو أشد قسوة، وبسبب تزيين الشيطان لما يفعلون، كما أوضحت الآية اللاحقة للآية الأولى، قال تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} [الأنعام: ٤٣]؛ ومن هنا فقد ردّوا يد الرحمة الممتدة إليهم بصورة عنيفة، فجاءهم العذاب الذي اجتثهم من الجذور ورمى بهم في مزابل التأريخ في انتظار العذاب الأخروي!
وبالمثل فإن الله يمنح إنذاراته لمن بقي فيهم خير من عباده، من خلال المرض أو المصيبة في المال والنفس، والعاقل هو من يتضرع ويؤوب مصححاً السيرة والمسيرة!

– دور التآلف في توطين العزة والحكمة:
امتنّ الله على عباده بالتأليف بين قلوبهم فقال عز من قائل: {وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} [الأنفال: ٦٣]. ولأن الفاصلة التي ترد في نهاية الآية في العادة متصلة بشكل وثيق بما ورد في متن الآية، فيبدو كأن الله يقول إن صاحب العزة والحكمة المطلقتين هو الذي منح شيئاً من هاتين الصفتين لأصحاب الائتلاف المأمور به، ولا غرابة في ذلك فإن الائتلاف يتحقق من وحدة المنطلقات والمقاصد وكذا الكليات والأصول، مع التعاذر والتغافر في الفروع والجزئيات والأساليب والوسائل، مما يؤدي إلى تقوية الفاعلية في سائر مجالات صناعة الحياة، وقوة الفاعلية لا بد أن تجلب لأصحابها الهيبة والعزة والمنعة، ثم إن التنوع في المتغيرات تحت سقف الثوابت وبروز الحرص على الوحدة في سائر الأحوال سيؤدي إلى التشاور والتحاور في مختلف القضايا الخلافية، وبالتشاور تتلاقح الأفكار وتتكامل الرؤى، وتتضح أبعاد الحقيقة ويتم اختيار أفضل الآراء واتخاذ أفضل المواقف في كل مناسبة، وبذلك يستحق هؤلاء الحكمة، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، سواء كان فردا أو جماعة أو مجتمعا، وهذا يعني أن سائر طاقاته المادية والبشرية تتجه إلى البناء وكل أفكاره وأوقاته تستثمر في التنمية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى