كتابات

جماليات الدين

ما كلماتي هذه الا تتبّعاً لمواقع القَطر ورتعاً في رياض الدين ، وما ذلك منّي الاّ لأن ذلك الجمال الذي كان منهله الفياض يعبّ منه الرائح والغادي بدأ يتوارى كالشمس حين تحجبها سُحبٌ لا مطرَ فيها .

ما اتّشحَ امرؤٌ بوشاحه (الدين) الّا ازدان به وزاده الله وقاراَ ، وشَعائر هذا الدين كالعِقد النّضيد ، كل شعيرةٍ كحبّ اللؤلو رُصِفَت في ذلك العقد، فكانت شعائرة بانوراما متناسقة كانها قضيبٌ من اللجين ، فسبحان من فاض من اسمه “الجميل ” على الحياة جَمالاً ،وفاض من نورِهِ على الكون ِنوراً ، فتبارك الله احسن الخالقين !.

يذكر افلاطون ان هناك قيمٌ ثلاث : الحقّ والخير والجمال “. فالجمال في الكون والنفس حقيقة والحق هو غاية الجمال .

والاديان تبحث عن الحقيقة ، والفن يبحث عن الجمال وفرق بين الحقيقة التي تتقيّد بانها حقيقة ، وبين الجمال الذي لا يتقيد بشيء لانه هائم طليق .

“هذا الجمال بالمفهوم الاسلامي بعيدٌ كل البعد عن مفهومه الغربيّ ، الذين عابوا على الجمال بمفهوم الاسلام بأنه جمالٌ تجريديّ ، في حين ان الجمال بالمفهوم الغربي تجسيديّ ، ذلك ان الفرق بين الجمالين كالفرق بين الحقيقة والخيال ، فلم تكن الصورة التي اودعها المسلم ثابته في متحف اللوفر ولكنها صورة حيّه يشكلها المسلم بابداعه اليومي بين ركوعٍ وسجود وطوافٍ وسعي وصومٍ وتبتّل وانقطاع يصله بالملأ الأعلى ، جمالٌ حركيّ فيه روح ، فاين هذا الجمال من بسمة الجيوكاندا المصطنعة ؟ أو وجوه بيكاسو المتناثرة ؟!”(الانصاري)

الغربيّ يمارس بابداعه الجمالي عبادات خفيّه يوجهها نحو الذات او الطبيعة فيحتاج ان يجسّد الفن كما فعل مايكل انجلو عندما نحت تمثال موسى ثم ضربه بالمطرقه صارخاً : “تكلّم يا موسى !”، وانشغل الفلاسفة بجمال الطبيعة ومحاكاتها ظاهريا وباطنيا (بافساح المجال للخيال) وتعليميا (بالمحاكاه ظاهريا في أول المراحل ثم الابتكار في المراحل اللاحقة) كما يذكر صالح الشامي في مؤلفه ميادين الجمال ، والذين يرون الفن غير الطبيعة كالفيلسوف “كانت” فهم يرون ان هناك اشياء في الطبيعة جميلة أما في الفن فهناك تصوير جميل ، : ان الجمال الطبيعي لهو شيء جميل ، وأما الجمال الفني فانه تصوير جميل لشيء”، وقد يكون هذا الشيء، شيئا قبيحاً.ويؤكد هذا “غوته” و ” بيكاسو”.

أما الاسلام أخذ الجمال التجريدي بمفهوم العبادة حتى يصحّ الاتجاه في مسيرة الابداع !

“والفن الاسلامي لا يرسم صورة مزورة للبشرية بل صورة واقعية وعميقة صورة تشمل الانسان في جميع حالاته ، ولكنها لا تسلّط النور على الشر وتجعل منه فضيلة ، ولا تسلّط النور على الضعف وتجعل منه بطولة “.(محمد قطب)

والفن هو وسيلة وليس غاية والوسيلة تشرف بشرف الغاية التي تؤدي اليها ، فليس الفن للفن وانما في خدمة الحق والفضيلة “صالح الشامي “.

والله الجميل في ذاته، الجميل في صفاته وافعاله يسكب من ايات الجمال على مخلوقاته..

في الشروق والغروب ، في هدأة السحر وفي شمس الاصيل ، في رمال الصحراء وفي تدفق الانهار ، في المروج والغابات ، في الازهار والورود ، في تغريد الطيور وهديل الحمام ، تلك اللوحة الباهره التي ترنّم بها الشعراء وغنى لها المنشدون وتفكر بها الموحدون .(قل انظروا ماذا في السموات والارض …)، لفتة الى التفكر في جمال صفحات الكون المنظوره !

وفي وصف الانسان (صوركم فاحسن صوركم )

وفي وصف السماء بما ابدع فيها من تجلياته (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيّناها للناظرين)

وفي الشجر والنبات (انظروا الى ثمره وينعه )

وفي الحيوانات (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون )

(والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينه)

ان المتتبّع لجداولِ الجمال يقود الى منبعهِ العظيم، حيث الحق والخير الصافي الرقراق ، هناك اذن يعبّ المتدينون من موارد الدين ما يتزينون به لربهم عبادة وسلوكا ، فاذا القلوب تنبض بجمال الايمان حبّاً لا يخبو أبداً ، وما الطف قوله تعالى (ولكنّ الله حبّب اليكم الايمان وزيّنه في قلوبكم).

فاذن كيف يصدر عن مسلم هذا شأنه قبحٌ في التعبير او قبحٌ في السلوك ؟!، اذن يكون خارج معنى العبادة حينئذٍ ، اذ الله لا يقبل الا جميلاً “ان الله جميلٌ يحبّ الجمال”.

فليكن الدين اذن سيراً في مواكب الجمال الى الله : (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد)

(قل من حرّم زينه الله التي اخرج لعباده ..)

ان أسس الجمال في الاسلام تقوم على اركان ثلاثة : المتعه والحكمة والعبادة .

وكان من حكمة الله ولطفه بعبادة ان خلق لهم جمالا في انفسهم وفي ما حولهم من مخلوقات وأكوان وعوالم تجعلهم يتبلغوا به لعبادتهم .

ومن حكمة الجمال ، فما من جميل لذاته فحسب وانما لغيره ايضاً ، مثل قوله (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب )

فمتعه المشهد هنا واضحه والحكمة هي معرفة عدد السنين والحساب ، وكل ذلك هدفه ان يعبد الانسان ربه كما طلب منه .

والعبادة في الاسلام سلوك جمالي محض بما تبعثه في النفس من أنس وشعور بالاستمتاع ، فالسير الى الله عبر الترتيل والذكر والتدبر والصلاة.

جماليات لا اله الا الله

يطوف بنا “الانصاري” في جماليات وجدانية تستفز مشاعر مكبوته تطلقها حينئذ في لحن جميل في حروف لا اله الا الله .

فجمال لا اله الا الله هو السرّ الذي به صُنعت شخصيات عظيمة ، ذلك الجمال الذي لا يدرك الا بحاسة القلب “.

فلا : النافية والا : الحاصرة فهما للنفي والاثبات ، واله تُجمع على آلِهَه ، أمّا الله فاسمٌ ينفردُ سبحانه بهِ وَحده .

وألِهَ من الوَلَه وهي كلمة قلبيّة تدلُ على أحوال القلب كالحبِّ والبُغض والفرح والحزن والشوق والرهبة وأصلُها قولُ العرب (أَلِهَ الفصيلُ يألَهُ ألَهَاً ) اذا ناح شوقاً الى أمّه .

والفصيل ابن الناقة الذي فُطِمَ وحنّ الى أُمّه .

وقيل : ألِهَ يألَهُ اي تحيّر لان العقول تحتار في عظمته .

وقيل : اَلِهتُ على فلان بمعنى اشتدّ جزعي عليه .

(والوَلَهُ ) هو الجنون الحاصل بسبب الحبّ الشديد .

وهكذا ترى ان قول المؤمن لا اله الا الله تعني لا محبوب ولا مرهوب ولا متعلق رهبة ورغبة وشوقا الا لله .

فعلى هذا تكون شهادة لا اله الا الله ميثاق المحبة التي تفيض بأنوار الجمال ، وعلى هذا فلا عجب من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” ان الله قد حرّم على النار من قال لا اله الا الله يبتغي بذلك وجه الله ” “متفق عليه” . فانها ليست كلمات تُقال ، انها توجّهٌ قلبيّ ومسأله حب ، فمن أحب الله أحبّه الله .

واذا كانت لا اله الا الله شهادة على ما في القلب من تعلّقٍ بالله وحده ، فلا بد ان يكون ذلك مبنيّاً على المعرفة بالله ربّا ومعرفة بذات الله وصفاته .

ان كون الله ربّا هو بدء تدفّق الجمال على عقيدة الاسلام ، اذ ان جمال الرب عزّ وجل يفيض من بهاء ذاته وصفاته فحجابه النور لو كشفه لاحرقت  سُبخات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه “.

وأسماؤه حسنى فهي انوار متدفّقه من مشكاة الله ذات البهاء الدُرّي.

انّ المحبّ الذي فَنِيَ في المحبوب انما حصل له ما حصل لمّا رآى في محبوبه من خصال الجمال والجلال ، وأصلُ الشرك بالله الاشراك بالمحبّة حيث تميل النفس الى معبود خفيّ وظاهر.

وما قصّة الذبيح اسماعيل، وقد ملك اسماعيل شعبة في قلبه ابيه ابراهيم ، فاراد الله خليله ان يتجرد كلّيا له، فراى في المنام انه يذبحه ، فلما تمثل لامر الله فاخرج ما تبقى من حب وتجرد حصل المقصود وفداه الله بكبش عظيم .

الجمال عند العقاد يرتبط بالحرية وعند احمد حسن الزيّات يرتبط بالقوة وهكذا يرى الانصاري ان ميثاق المحبة المعقود يحرر الانسان بقدر عبوديته لإله قادر قوي ، قوة تفيض حكمة ورحمة كما تفيض جبروتا !!.

ان جمال الظاهر في الاكوان والانسان يدرك بالحواس والبصر، اما جمال الباطن فلا يدرك الا بنور البصيرة ، بل ان جمال الباطن هو الذي يرشح على الظاهر فترى على الوجوه نضرة وعلى المحيا سيماء الصلاح والتقوى .

ان جمال الباطن لا يكون الا بدين الإسلام الذي نقّى الانسان من حظوظ النفس والاثرة وجعلها تعيش في ميدانها الواسع حيث العطاء ، من ضيق الفرد الى سعة الجماعة ومن ضيق الدنيا الى سعة الاخرة .

وبكلمة : لولا جمال هذا الدين الذي به تزدان الحياة فتحيل الصحراء الى خضرة والباطل الى الحق والقبح الى الحسن لاستحالت الحياة .

————————–

المراجع : جماليات الدين ، فريد الانصاري

          الفن في الاسلام ، محمد قطب.

         الجمال في الاسلام ، صالح الشامي

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى