تقارير وإضاءات

جدلية الدعوي والسياسي.. فريد الأنصاري ونقد الحركة الإسلامية بالمغرب

إعداد محمد فتوح

“عندما يصبح الموقف السياسي هو المقياس الذي عليه يُصنف مستوى التدين عند هذه الحركة أو تلك؛ يكون ذلك دالًّا بالقطع على الانحراف عن المعنى الإسلامي للدين والتدين”

(فريد الأنصاري)

العام: 2011، والمشهد: حيازة حزب “العدالة والتنمية” المغربي الذي يتبع لحركة “التوحيد والإصلاح” المغربية على المركز الأول في الانتخابات التشريعية، والنتيجة: حيازة الحزب على الأغلبية البرلمانية لأول مرة في تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب.

حينها، دخل الإسلاميون إلى القصر المغربي وأصبح أمين الحزب عبد الإله بن كيران* رئيسا للحكومة منذ 2013، ثم ترك المنصب لسعد الدين العثماني** عام 2017!1، وهو ما اعتبره كثيرون انتصارا للإسلام السياسي في المغرب، وتتويجا لجهود من العمل الشاق للحركة الإسلامية المغربية!1

قبل ذلك بسنوات أربع، وتحديدا في عام 2007، وجه العَالِم المغربي الشهير الدكتور فريد الأنصاري نقدا قويا للحركة الإسلامية في المغرب في كتاب سماه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب”، وضّح فيه الأنصاري أن أكبر خطأ ارتكبته الحركة الإسلامية هو إنشاء حزب سياسي، وأن عاقبة ذلك ستؤول إلى تفريغ معنى التدين من محتواه2، وأن التضخم السياسي الذي صاحب حركة “الإصلاح والتوحيد” أصبح سرطانيا، ليستبد بهم حلم الخلافة إلى درجة التخريف والهذيان!3.

في غلاف كتابه ظهرت صورة لعقرب، في إشارة إلى تسميم السياسة لكل مكتسبات الحركة الإسلامية، حتى لم تذر منها شيئا! وبدت لغة الأنصاري شديدة اللهجة بطريقة لم يعهدها عليه متابعوه، وهو ما دفع أحد أبرز العلماء التاريخيين للحركة الإسلامية في المغرب الدكتور أحمد الريسوني*** لينبري بالرد عليه في سلسلة مقالات، وصف فيها كتاب الأنصاري بأنه يتضمن “أحكاما ماحقة لا تُبقي ولا تذر، فيها من المبالغات والتعميمات ما لا ينتهي منه العجب والتحير”4.

تعليقات الريسوني لم تمر دون رد، حيث اندفع الأنصاري للدفاع عن فكرته في رد على الريسوني برسالة أسماها “قبل الخطأ السابع..! رسالة مفتوحة إلى الدكتور أحمد الريسوني”5.

هذه الحالة تُعدّ نموذجا جيدا لرصد تداخل الدعوي بالسياسي، وما يدور حوله من إشكالات وسجالات، لا سيما مع تعدد أطرافها وما أنتجته هذه المرحلة من تعقيبات وردود متبادلة. كل ذلك يجري وسط بلد يحوز الإسلاميون فيه على الأغلبية، وتحت مظلة نظام مستقر سياسيا، وهو ما يعطي هذه المرحلة من النقد أهمية إضافية كونها ليست نتاجا لأحداث قهر وقمع للإسلاميين. وقبل الخوض في هذه المرحلة التاريخية، فإنه يجدر بنا العودة لنشأة الحركة الإسلامية بالمغرب، ومن ثم المرور على التحولات التي شهدتها.

الدكتور فريد الأنصاري

الحالة الفكرية للمغرب العربي في مطلع القرن الماضي

“الجامعة في أوج ماركسيتها لم يكن يجرؤ أحد فيها على النطق بـ “بسم الله الرحمن الرحيم” بأي مرفق من مرافق الحرم الجامعي!”

(فريد الأنصاري)

امتد التيار الماركسي في المغرب العربي من مطلع ستينيات القرن المنصرم وبلغ مبلغا كبيرا بين صفوف الحركة الطلابية، وقد جذبت الماركسية جُل النُخب الشبابية في ذلك الوقت!5

يقول الدكتور أحمد الريسوني*** الذي كان شاهدا على هذه الفترة: “التحقت بالجامعة سنة 1973 فوجدت أن الدين الوحيد للجامعة هو الماركسية والإلحاد، وقد كان في الجامعة المغربية حينها طالبة محجبة واحدة، وقد واجهت مضايقات عديدة في كل مكان”6.

بالتزامن مع هذا الامتداد الماركسي ظهرت معالم صحوة إسلامية مغربية، وبرزت أسماء لمصلحين وعلماء مغاربة كان لهم واسع الصيت في العالم الإسلامي فيما بعد.

وقد كان من أشهر المُصلحين الإسلاميين في هذه الفترة**** الحافظ المغربي المُحدث أبو شعيب الدّكالي (ت 1937)7، والعالم المُصلح محمد بن العربي العلوي (ت 1964)8، والشيخ محمد تقي الدين الهلالي9، وهو الذي ذاع صيته في زمانه، والأستاذ علال الفاسي صاحب الكتاب الشهير “مقاصد الشريعة” والذي يُعدّ تتمة لكتاب “مقاصد الشريعة” للشيخ التونسي محمد الطاهر بن عاشور*****، وبالرغم من بروز هذه الكوادر الإسلامية فإن حضورهم اقتصر في إطاره العلمي، دون امتداده للمساحة الحركية.******

استمر الحال على ذلك حتى بدأت المواجهة بين مجموعة من الشباب ذوي التوجه الإسلامي والمد المركسي في الجامعة المغربية، وهو ما سيُشكّل إرهاصا لولادة الحركة الإسلامية على يد جيل من الشُبان الجامعيين!10. حينها، كانت الولادة مثقلة بحمل التصدي للماركسية والعلمانية وليست ولادة مجتمعية طبيعية.

الدكتور أحمد الريسوني

نشوء الحركة الإسلامية المغربية داخل الجامعة

“لم تستطع البداية الإسلامية أن تتخلص من نفسية رد الفعل ضد الماركسية الملحدة الثائرة، فكان لذلك أثر نفسي في الصراع مع الأنظمة!”

(فريد الأنصاري)

لم يقو أحد على نزاع التيار الماركسي في مكانته، فضلا عن التصدي له، حتى بداية الستينيات من القرن الماضي حين قرر مجموعة من الطلاب الإسلاميين دعوة الطلبة إلى التعاليم الإسلامية، وكان أحد هؤلاء الشباب فريد الأنصاري، الطالب بكلية الآداب بمدينة فاس!

وفي عام 1964 أسس أحد مشايخ جماعة التبليغ، ويسمى بالشيخ “الحمداوي”، فرعا للجماعة في المغرب وأصبح رئيسا لها بحسب شهادة الأنصاري11، ومنذ هذا التاريخ بدأ انخراط الشباب الجامعي أفواجا في جماعة التبليغ المغربية، وكانت الجماعة هي منفذ الحركة الإسلامية الوحيد آنذاك. يقول الدكتور أحمد الريسوني: “أنا شخصيا دخلت إلى الحركة الإسلامية من باب جماعة التبليغ”12، وبحسب شهادة الدكتور فريد الأنصاري نفسه على هذه الحقبة فإن المد المركسي كان مكتسحا، وكان هؤلاء الطلاب الإسلاميون -والقادة للعمل الإسلامي فيما بعد- هم أول من تصدى للتيار الماركسي في الجامعة.

 يقول الأنصاري: “لقد وصلت شخصيا إلى مرحلة الطلب بالجامعة المغربية سنة 1981، وهي في أَوج إلحاديّتها، والإسلاميون حينئذ قلة قليلة جدا، يخافون أن يتخطفهم الناس، كان التحدي الماركسي مستفزا وصارخا! وعندما غامر مجموعة من الطلاب الإسلاميين في أواخر السبعينيات بإعلان الأذان بالحرم الجامعي بمدينة فاس، صارت قنينات الخمر وأعقاب السجائر تتساقط على المؤذن من الطوابق الُعليا للحي الجامعي”13.

وبمطلع السبعينيات، تبلور العمل الإسلامي المغربي بصورة أكثر تنظيما، وكان ذلك إثر حادثة حرق المسجد الأقصى عام 1969، وأُقيم أول مؤتمر قمة إسلامي في المغرب بمدينة الرباط 14، ونشأت منذ ذلك الحين مجموعات متعددة للعمل الإسلامي تحت أسماء مختلفة، مثل جمعية “الشبيبة” التي رأسها عبد الكريم مطيع، و”الجمعية الإسلامية” التي رأسها الدكتور أحمد الريسوني بعد انفصاله عن جماعة التبليغ، و”الجماعة الإسلامية”، ثم جماعة “العدل والإحسان”، وهي جماعة صوفية ولها معارضة سياسية أسسها الشيخ عبد الله ياسين، وبرز عدد من القادة الإسلاميين الحركيين والأكاديمين في آن واحد منهم الأستاذ عبد الكريم مطيع، والدكتور الشاهد البوشيخي،******* والدكتور عبد السلام هراس.

واتصل الأخير بالمفكّر الجزائري مالك بن نبي وأدخل فكره ذا الطابع الحضاري إلى شباب الحركة الإسلامية في المغرب، وكان حلقة الوصل بين مالك بن نبي وبين مترجم كتبه من الفرنسية إلى العربية الدكتور عبد الصبور شاهين والذي قدّم مالك بن نبي إلى القارئ العربي بكتاب “الظاهرة القرآنية”15.

ظلت الحركة الإسلامية على حال واسع من التشتت إلى جماعات متفرقة حتى اندمجت هذه المجموعات المتنافرة تلك بعد عدد من الأزمات الداخلية بينهم16 تحت اسم “حركة الإصلاح والتجديد” والتي انبثق عنها حزب “العدالة والتنمية” المغربي، وهو حزب الأغلبية الحاكم الآن!

شكّل هذا السرد التاريخي بمنعرجاته ركيزة أساسية في تشكيل الوعي الديني والثقافي والسياسي عند أقطاب الحركة الإسلامية، ورغم ما مرت به الحركة الإسلامية وقادتها، فإن ذلك لم يطبع أعضاءها بوسم حتمي، ومسارات محددة سلفا، وهو ما تبدى في الاختلاف اللاحق حول المسارات عند بعض قياداته، وهو ما ظهر جليا في نموذج فريد الأنصاري.

تطور الوعي الديني عند فريد الأنصاري

“إن السؤال المشهور الذي وضعه الأستاذ فتحي يكن عنوانا لكتابه “ماذا يعني انتمائي للإسلام” يجب أن يُطرح بمفهوم أوسع ومضمون أعمق، على أساس بعث ديني شامل ورغبة اجتماعية تلقائية في التدين، من غير تقييد بإطار تنظيمي ضيق”

(فريد الأنصاري)

يذكر الأنصاري نشأته الدينية وسط ثلاث مراحل متباينة عملت على تشكيل وعيه الديني، وقد لخص الأنصاري مراحل وعيه إلى مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى هي التدين التقليدي، والتي لم تدم طويلا، وانتهت بمجرد تعرفه على الحركة الإسلامية قبيل الجامعة، يقول الأنصاري: “لكن هذا المعنى من التدين ولله الحمد لم يدم في تصوري طويلا، وانتبهت في مرحلة الشباب الأولى إلى شيء اسمه “الحركة الإسلامية”؛ وذلك بسبب ما كان يصلني عنها من أصداء وصراعات، خاصة في الصف الطلابي بالجامعة”17.

أما المرحلة الثانية هي مرحلة الالتحاق بالحركة الإسلامية نفسها، والتعرف على المفاهيم التي رسختها في عقول أبنائها من أدبيات إصلاحية، ومقولات دعوية مثل: “الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف، وأن الحاكمية لله”18، وقد كانت هذه المفاهيم في أوج شدتها حين مواجهة الأنصاري وجيله للماركسية والإلحاد.

وبحسب تعبير الأنصاري فإن أتباع الحركة الإسلامية في هذا العصر اكتسبوا صفات المحامي أكثر من اكتسابهم صفات المؤمنين، حيث يقول: “لكني أَصدُقكم القول، لقد مر عليّ دهر وأنا أقوم بهذه التصورات دون أن أجد للدين لذة في وجداني! تلقيت كل التصورات الجديدة في سياق مواجهة الغرب، ومقاتلة العلمانية، ومدافعة الماركسية، ومجاهدة الطغيان السياسي، والظلم الاجتماعي، فاكتسبت من صفات المحامي كثيرا، بيد أني لم أكتسب من سلوك المؤمن إلا قليلا، فعشت مع الناس أكثر مما عشت مع الله؛ لأن هذه الظروف جعلتني أفهم عقيدة «لا إله إلا الله» في سياق واحد ووحيد: هو أن ما سوى تصحيح قضية الحكم والتشريع في الدولة جزئيات من الدين، لا تستحق أي اهتمام!”19.

ثم يستدرك الأنصاري أن المشكلة لم تكن في المفاهيم التي تعلمها أبناء الحركة الإسلامية، وإنما المشكلة في طغيان السياسي منها على ما سواها، والظروف السيئة التي تلقوا فيها هذه المفاهيم، مما أدى إلى تضخيم السياسي على باقي المناحي كحالة من رد الفعل غير المتوازن20.

أما المرحلة الثالثة: فهي مرحلة إعادة نظر وتأسيس جديد لمفاهيم التدين ومنطلقات الإسلام نفسه بعيدا عما تلقاه الأنصاري في شبابه من شعارات الحركة الإسلامية، وإنما رجوع مباشر إلى منابع الدين ذاته القرآن والسنة، ومحاولة رؤية الجمال في كل معاني التدين وترك التعامل مع الدين باعتباره مفاهيم مصمتة، يقول الأنصاري: “إن القرآن الكريم والسنة النبوية يقولان لنا حقيقة جليلة عظيمة، لم يستطع أن يوصلها إلينا علم الكلام: هي أن عقيدتنا جميلة!”21.

وقد أولى الأنصاري بعد مرحلته الثالثة اهتماما كبيرا لمُدَارسة القرآن والانطلاق منه إلى مناحي الحياة المختلفة، وخصص سلسلة من كتبه تحت عنوان “من القرآن إلى العمران” في محاولته لرفع الاهتمام بالنواحي التزكوية والتعبدية والعلمية إلى مصاف الاهتمام بالشأن السياسي، بل جعلها مقدمة على الشأن السياسي، ورأى أن فعل الحركة الإسلامية برفع السياسي وزهدها في بقية مناحي الحياة بمنزلة وأد لها.

يقول الأنصاري في كتابه “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي”: “كل ذلك زادني يقينا فيما توصلت إليه من قبل في تصور طبيعة العمل الإسلامي، وأنه راجع بالدرجة الأولى إلى ضرورة عمران الوجدان برسالة القرآن، وأيقنت بعد ذلك بما بدا لي من حقائق قرآنية، في إعادة تشكيل الأمة مما قيدته في هذا الكتاب”22.

الأنصاري والنقد المباشر للتضخم السياسي في الحركة الإسلامية بالمغرب

“الخلافة تجربة بشرية غير معصومة، قد تسمو حتى تكون على منهاج النبوة، وقد تنحط حتى تكون ملكا عاضا أو جبريا”

(فريد الأنصاري)

على الرغم مما بدا ظاهرا أن الاندماج الذي حدث للإسلاميين في المغرب كان تعضيدا لقوتهم، فإن الأنصاري اعتبره بوابة الفقدان للفاعلية الدعوية في المجتمع المغربي وطغيانا للجانب السياسي على باقي مكتسبات الدعوة التي أسسها جيل الستينيات وقد كان غرضها الأساسي تدين المجتمع.

يقول الأنصاري: “كان الابتلاء الذي خسرت فيه الحركة الإسلامية كثيرا! ظهرت فكرة التخصصات في العمل الإسلامي على جميع المستويات: الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والنقابية، والسياسية، وانطلقت الحركة الإسلامية تقسم ميراثها على أبنائها في حياتها! ولكن النتيجة أن كل التخصصات التي أعلن عن ميلادها ماتت في مهدها إلا التخصص السياسي! هو وحده نما وتضخم واحتل كل المساحات الأخرى!”23.

لم يقف الأنصاري هنا، بل دعا صراحة لمراجعة كل ما كتبه المفكرون الإسلاميون، لا سيما ما اتصل بالسياسة وعلاقتها بالدولة، واعتبر هذه الكتابات متأزمة بضغط الواقع، وخالية من روح الإيمان: “أقول لإخواننا العاملين في حقل الدعوة في كل مكان، إنه لمن الواجب إعادة النظر في كثير مما كتبه المفكرون الإسلاميون المعاصرون وعرضه على محكمين اثنين: كُليات الدين، ومناطاته المحققة”24.

وفي نص طويل يقول فيه الأنصاري مُلخّصا مآخذه على توغل السياسي في باقي المناحي الدعوية:

“إن الناظر إلى عجيج السياسة وضجيج الصحافة يظن أن العمل السياسي الإسلامي في المغرب اليوم بخير وعلى خير وأنه على مواقع متقدمة. لكن الحقيقة أنه قد تخلف عما كان عليه من قبل كثيرا، لقد تضخم العمل الحزبي لدى حركة التوحيد والإصلاح وانتفخ سرطانيا حتى أتى على كل مكتسبات الحركة التربوية ومكاسبها الدعوية والاجتماعية!

لقد صار الإسلاميون يشتغلون في الشك وقد كانوا من قبل يشتغلون في اليقين وكانوا إلى الإخلاص في الأعمال أقرب! لقد كان يوم إعلان اتخاذ حزب سياسي واجهة للعمل الإسلامي بالمغرب هو يوم إعلان وفاة الحركة الدعوية!

نعم لقد كان الحزب فتنة حقيقية للإسلاميين، جعل أبناء العمل الإسلامي منشغلين بهمومهم الشخصية والدنيوية، فانخرطوا بذلك على كل حال في بناء خطاب مادي بالدرجة الأولى. ولقد كان بإمكان الحركة الإسلامية بالمغرب أن تصل إلى أفضل النتائج السياسية دون أن تتخذ لها حزبا لو أنها اشتغلت كقوة دينية دعوية منتشرة في كل قطاع.

لقد كان بإمكانها أن تجعل بعض الأحزاب السياسية تنخرط في تطبيق الممكن من برامجها السياسية دون أن تنزلق إلى شرك الاستهلاك التجزيئي لقوتها.. فبدل أن يخلق الإسلاميون الحياة السياسية كما زعموا تدنسوا بأوساخها!”25.

كتب فريد الأنصاري في نقد الحركة الإسلامية في المغرب

خصص الأنصاري عددا من المؤلفات لرصد ونقد أخطاء الحركة الإسلامية المغربية، وأهم كتبه في نقد الحركة الإسلامية المغربية:

الكتاب الأول: الأخطاء الستة للحركة الإسلامية، وعنوانه الكامل: “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب، انحراف استصنامي في الفكر والممارسة”

هو أشد كتب الأنصاري ضراوة في نقد الحركة الإسلامية، وفيه جرأة غير مسبوقة في النقد داخل أوساط الحركة الإسلامية، وقد صرح الأنصاري في مقدمة الكتاب أنه قصد هذا القدر من الحدة، وأن الحركة الإسلامية في المغرب -كما يقول-: “لا خلاص لها إلا بـ “صدمة صرح” من نوع آخر، صدمة صرح تخرجها من أوهامها، وتحطم الأصنام المنتصبة في مخيلتها!”.

وعلى ذلك، يقول الباحث الدكتور محمد توفيق: “ركز الأنصاري نقده للحركة الإسلامية بكونها تهتم بالحركة والتنظيم، وهو ما اصطلح عليه بـ “الاستصنام”، أي أن الحركة جعلت لها أصناما من الدعوة أو الحزب أو السياسة”26.

وقد خلُص الأنصاري إلى أن الأصنام التي اتخذتها الحركة الإسلامي بالمغرب ستة:

الخطأ الأول: استصنام الخيار الحزبي، يقول الأنصاري: “لن أكون مبالغا إذا قلت: إن اتخاذ “حزب سياسي” كان أكبر خطيئة وقعت فيها الحركة الإسلامية بالمغرب!”27.

الخطأ الثاني: استصنام الخيار النقابي، يقول الأنصاري: “دخلت الحركة الإسلامية التجربة النقابية بلا تروٍّ، ولا تأصيل، فقامرت برصيدها الأخلاقي والديني بخوض غمار عمل لا يزال مشبعا بلغة الصراع الطبقي، والمقولات الماركسية في الفكر الاقتصادي”28.

   

الخطأ الثالث: استصنام الشخصانية المزاجية، وقصد بها الأنصاري -بحسب تعبيره- “غياب القادات العلمية الرسالية، والربانية الحكيمة، وتصدي الزعامات اللا علمية لقيادة العمل الإسلامي، على المستوى العالي والمتوسط من الهرم الإداري، مما أدى إلى استصنام “شخصاني” لتلك القيادات وإلى رسم معالم السير الحركي، بناء على مزاجها لا بناء على قواعد العلم وأولوياته الشرعية”29.

الخطأ الرابع: استصنام التنظيم الميكانيكي، يقول الأنصاري: “الأمور التنظيمية تطورت حتى أصبحت حُجبا عن الله!”30.

الخطأ الخامس: استصنام العقلية المطيعية، نسبة إلى الأستاذ عبد الكريم مطيع مؤسس حركة الشبيبة المسلمة، ويقصد بها الأنصاري: “ذلك المنهج الحركي القائم على أسلوب المناورة والخداع في التعاطي مع الشأن الإسلامي من الناحية التنظيمية والإدارية”30.

الخطأ السادس: استصنام المذهبية الحنبلية في التيار السلفي، وقد استفاض الأنصاري وأسهب في تتبع إشكالات هذا الصنم في المغرب، وأنه لم يراعِ الخصوصية المذهبية المالكية في المغرب، يقول الأنصاري: “أول صخرة اصطدم بها الفكر السلفي الدخيل هي صخرة المذهبية، وقد كان من أخطائه المنهجية الكبرى أنه استهان بأمر الخصوصيات المذهبية للمغرب“30.

وقد أثار الكتاب ضجة كبيرة حال صدوره، ودارت حوله مساجلات كثيرة من قادة الحركة الإسلامية المغربية، وقد سعى الأنصاري لتفنيد ما دار حول الكتاب عبر مادة صوتية طويلة.

الكتاب الثاني: الفجور السياسي
وعنوان الكتاب كاملا: “الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب: دراسة في التدافع الاجتماعي”، وقد صدر عام 2000، وهو العام الذي استقال فيه الأنصاري من حركة “التوحيد والإصلاح”.

ويركز الكتاب على حالة الفجور المجتمعي التي أصبحت هي الغالبة على المجتمعات المسلمة، وأن الفجور أصبح حزب الأغلبية فوق كل الأحزاب الإسلامية والعلمانية على حد السواء، وكيف تركت الحركة الإسلامية مهمتها الأساسية وهي تدين المجتمع إلى مجرد الاشتغال بالمناورة السياسية.

الكتاب الثالث: البيان الدعوي

وعنوانه كاملا “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي” وقد صدر عام 2003، وذكر الأنصاري في مطلعه أنه تتمة لكتاب “الفجور السياسي”، وفيه شرح وافٍ وأمثلة واسعة لمظاهر هذا التضخم في الحركة الإسلامية 2005، وفيه تأصيل لعلاقة الدعوي بالسياسي ومنزلة السياسة من الدين وأنها جزء منه وليست كل مظاهر التدين!

الكتاب الرابع: الفطرية

وعنوان الكتاب كاملا “الفطرية: بعثة التجديد المقبلة، من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام!”، ويعتبر الكتاب خلاصة فكر الأنصاري فيما بعد الحركة الإسلامية وما آلت إليه تجربته.

ويقترح الأنصاري بكل صراحة في هذا الكتاب الانتقال من التنظيمات الميكانيكية إلى فضاء الدعوة العام أو ما سماه “التنظيم الفطري”، وحدد لهذا التنظيم الفطري أشكالا ومقومات لأفراده.

لم يكن نقد فريد الأنصاري بداية ولا نهاية النقد للإسلام السياسي، وإنما كان حلقة ضمن سلسلة طويلة من الانتقادات التي وُجهت للإسلام السياسي، والذي قاده علماء دين مسلمون.

 لكن ما يمكن اعتباره مميزا هذه المرة أن النقد وُجه من أحد الرموز الحركية في بلد يتمتع الإسلاميون فيه بحظوة في أروقة صناعة القرار السياسي، ورغم السجالات العديدة التي أثارتها كتب الأنصاري، فإنها بذلك تشير إلى كونها تُشكّل علامة لا يمكن تجاوزها حين التطرق إلى ما يرتبط بالإسلام السياسي، سواء اختلف القارئ مع كاتبها أو اتفق.

———————-

الهوامش

*عبد الإله بن كيران: أمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي الحاكم، ورئيس سابق للحكومة المغربية، وعضو بارز في الإسلام السياسي بالمغرب.

** سعد الدين العثماني: سياسي مغربي، وطبيب نفسي، ورئيس الحكومة المغربية، ويعتبر من أهم الساسة الإسلاميين المعاصرين، له عدد من المؤلفات في السياسة الشرعية منها: “تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية”

***أحمد الريسوني: فقيه مغربي، وفاعل مهم في العالم الإسلامي، أهم أعماله منصبة في مجال مقاصد الشريعة والسياسة الشرعية، ويعتبر مرجعية للتيارات الإسلامية بالمغرب العربي.

**** يمكن تشبيه هذا التيار بالتيار النخبوي الذي نشأ في مصر قبل ذلك بقليل على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، والذي ظل نخبويا حتى استطاع حسن البنا أن يُحدث حالة الحِراك الإسلامي وتحويله من نخبوي إلى تفاعل مجتمعي حركي.

***** والكتابان معا أشهر ما كُتب في القرن الماضي عن المقاصد وصلاحية الشريعة وإمكانية استمرارها في الحياة المعاصرة.

******قد استفدنا من تلخيص الباحث إبراهيم السكران لحالة الإسلامي في المغرب العربي في كتابه المجاريات.

****** الشاهد البوشيخي: هو شيخ فريد الأنصاري المباشر، وله اشتغال واسع بالاصطلاحات الفقهية تأصيلا وتفريعا، وهو مشرف الدكتور فريد الأنصاري فيما بعد في أطروحة الدكتوراه بعنوان: “المصطلح الأصولي عند الشاطبي”، وأكثر أساتذة الأنصاري تأثيرا وتأصيلا علميا رحمه الله.

“عندما يصبح الموقف السياسي هو المقياس الذي عليه يُصنف مستوى التدين عند هذه الحركة أو تلك؛ يكون ذلك دالًّا بالقطع على الانحراف عن المعنى الإسلامي للدين والتدين”

(فريد الأنصاري)

العام: 2011، والمشهد: حيازة حزب “العدالة والتنمية” المغربي الذي يتبع لحركة “التوحيد والإصلاح” المغربية على المركز الأول في الانتخابات التشريعية، والنتيجة: حيازة الحزب على الأغلبية البرلمانية لأول مرة في تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب.

حينها، دخل الإسلاميون إلى القصر المغربي وأصبح أمين الحزب عبد الإله بن كيران* رئيسا للحكومة منذ 2013، ثم ترك المنصب لسعد الدين العثماني** عام 2017!1، وهو ما اعتبره كثيرون انتصارا للإسلام السياسي في المغرب، وتتويجا لجهود من العمل الشاق للحركة الإسلامية المغربية!1

قبل ذلك بسنوات أربع، وتحديدا في عام 2007، وجه العَالِم المغربي الشهير الدكتور فريد الأنصاري نقدا قويا للحركة الإسلامية في المغرب في كتاب سماه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب”، وضّح فيه الأنصاري أن أكبر خطأ ارتكبته الحركة الإسلامية هو إنشاء حزب سياسي، وأن عاقبة ذلك ستؤول إلى تفريغ معنى التدين من محتواه2، وأن التضخم السياسي الذي صاحب حركة “الإصلاح والتوحيد” أصبح سرطانيا، ليستبد بهم حلم الخلافة إلى درجة التخريف والهذيان!3.

في غلاف كتابه ظهرت صورة لعقرب، في إشارة إلى تسميم السياسة لكل مكتسبات الحركة الإسلامية، حتى لم تذر منها شيئا! وبدت لغة الأنصاري شديدة اللهجة بطريقة لم يعهدها عليه متابعوه، وهو ما دفع أحد أبرز العلماء التاريخيين للحركة الإسلامية في المغرب الدكتور أحمد الريسوني*** لينبري بالرد عليه في سلسلة مقالات، وصف فيها كتاب الأنصاري بأنه يتضمن “أحكاما ماحقة لا تُبقي ولا تذر، فيها من المبالغات والتعميمات ما لا ينتهي منه العجب والتحير”4.

تعليقات الريسوني لم تمر دون رد، حيث اندفع الأنصاري للدفاع عن فكرته في رد على الريسوني برسالة أسماها “قبل الخطأ السابع..! رسالة مفتوحة إلى الدكتور أحمد الريسوني”5.

هذه الحالة تُعدّ نموذجا جيدا لرصد تداخل الدعوي بالسياسي، وما يدور حوله من إشكالات وسجالات، لا سيما مع تعدد أطرافها وما أنتجته هذه المرحلة من تعقيبات وردود متبادلة. كل ذلك يجري وسط بلد يحوز الإسلاميون فيه على الأغلبية، وتحت مظلة نظام مستقر سياسيا، وهو ما يعطي هذه المرحلة من النقد أهمية إضافية كونها ليست نتاجا لأحداث قهر وقمع للإسلاميين. وقبل الخوض في هذه المرحلة التاريخية، فإنه يجدر بنا العودة لنشأة الحركة الإسلامية بالمغرب، ومن ثم المرور على التحولات التي شهدتها.

الدكتور فريد الأنصاري

الحالة الفكرية للمغرب العربي في مطلع القرن الماضي

“الجامعة في أوج ماركسيتها لم يكن يجرؤ أحد فيها على النطق بـ “بسم الله الرحمن الرحيم” بأي مرفق من مرافق الحرم الجامعي!”

(فريد الأنصاري)

امتد التيار الماركسي في المغرب العربي من مطلع ستينيات القرن المنصرم وبلغ مبلغا كبيرا بين صفوف الحركة الطلابية، وقد جذبت الماركسية جُل النُخب الشبابية في ذلك الوقت!5

يقول الدكتور أحمد الريسوني*** الذي كان شاهدا على هذه الفترة: “التحقت بالجامعة سنة 1973 فوجدت أن الدين الوحيد للجامعة هو الماركسية والإلحاد، وقد كان في الجامعة المغربية حينها طالبة محجبة واحدة، وقد واجهت مضايقات عديدة في كل مكان”6.

بالتزامن مع هذا الامتداد الماركسي ظهرت معالم صحوة إسلامية مغربية، وبرزت أسماء لمصلحين وعلماء مغاربة كان لهم واسع الصيت في العالم الإسلامي فيما بعد.

وقد كان من أشهر المُصلحين الإسلاميين في هذه الفترة**** الحافظ المغربي المُحدث أبو شعيب الدّكالي (ت 1937)7، والعالم المُصلح محمد بن العربي العلوي (ت 1964)8، والشيخ محمد تقي الدين الهلالي9، وهو الذي ذاع صيته في زمانه، والأستاذ علال الفاسي صاحب الكتاب الشهير “مقاصد الشريعة” والذي يُعدّ تتمة لكتاب “مقاصد الشريعة” للشيخ التونسي محمد الطاهر بن عاشور*****، وبالرغم من بروز هذه الكوادر الإسلامية فإن حضورهم اقتصر في إطاره العلمي، دون امتداده للمساحة الحركية.******

استمر الحال على ذلك حتى بدأت المواجهة بين مجموعة من الشباب ذوي التوجه الإسلامي والمد المركسي في الجامعة المغربية، وهو ما سيُشكّل إرهاصا لولادة الحركة الإسلامية على يد جيل من الشُبان الجامعيين!10. حينها، كانت الولادة مثقلة بحمل التصدي للماركسية والعلمانية وليست ولادة مجتمعية طبيعية.

الدكتور أحمد الريسوني
نشوء الحركة الإسلامية المغربية داخل الجامعة

“لم تستطع البداية الإسلامية أن تتخلص من نفسية رد الفعل ضد الماركسية الملحدة الثائرة، فكان لذلك أثر نفسي في الصراع مع الأنظمة!”

(فريد الأنصاري)

لم يقو أحد على نزاع التيار الماركسي في مكانته، فضلا عن التصدي له، حتى بداية الستينيات من القرن الماضي حين قرر مجموعة من الطلاب الإسلاميين دعوة الطلبة إلى التعاليم الإسلامية، وكان أحد هؤلاء الشباب فريد الأنصاري، الطالب بكلية الآداب بمدينة فاس!

وفي عام 1964 أسس أحد مشايخ جماعة التبليغ، ويسمى بالشيخ “الحمداوي”، فرعا للجماعة في المغرب وأصبح رئيسا لها بحسب شهادة الأنصاري11، ومنذ هذا التاريخ بدأ انخراط الشباب الجامعي أفواجا في جماعة التبليغ المغربية، وكانت الجماعة هي منفذ الحركة الإسلامية الوحيد آنذاك. يقول الدكتور أحمد الريسوني: “أنا شخصيا دخلت إلى الحركة الإسلامية من باب جماعة التبليغ”12، وبحسب شهادة الدكتور فريد الأنصاري نفسه على هذه الحقبة فإن المد المركسي كان مكتسحا، وكان هؤلاء الطلاب الإسلاميون -والقادة للعمل الإسلامي فيما بعد- هم أول من تصدى للتيار الماركسي في الجامعة.

 يقول الأنصاري: “لقد وصلت شخصيا إلى مرحلة الطلب بالجامعة المغربية سنة 1981، وهي في أَوج إلحاديّتها، والإسلاميون حينئذ قلة قليلة جدا، يخافون أن يتخطفهم الناس، كان التحدي الماركسي مستفزا وصارخا! وعندما غامر مجموعة من الطلاب الإسلاميين في أواخر السبعينيات بإعلان الأذان بالحرم الجامعي بمدينة فاس، صارت قنينات الخمر وأعقاب السجائر تتساقط على المؤذن من الطوابق الُعليا للحي الجامعي”13.

وبمطلع السبعينيات، تبلور العمل الإسلامي المغربي بصورة أكثر تنظيما، وكان ذلك إثر حادثة حرق المسجد الأقصى عام 1969، وأُقيم أول مؤتمر قمة إسلامي في المغرب بمدينة الرباط 14، ونشأت منذ ذلك الحين مجموعات متعددة للعمل الإسلامي تحت أسماء مختلفة، مثل جمعية “الشبيبة” التي رأسها عبد الكريم مطيع، و”الجمعية الإسلامية” التي رأسها الدكتور أحمد الريسوني بعد انفصاله عن جماعة التبليغ، و”الجماعة الإسلامية”، ثم جماعة “العدل والإحسان”، وهي جماعة صوفية ولها معارضة سياسية أسسها الشيخ عبد الله ياسين، وبرز عدد من القادة الإسلاميين الحركيين والأكاديمين في آن واحد منهم الأستاذ عبد الكريم مطيع، والدكتور الشاهد البوشيخي،******* والدكتور عبد السلام هراس.

واتصل الأخير بالمفكّر الجزائري مالك بن نبي وأدخل فكره ذا الطابع الحضاري إلى شباب الحركة الإسلامية في المغرب، وكان حلقة الوصل بين مالك بن نبي وبين مترجم كتبه من الفرنسية إلى العربية الدكتور عبد الصبور شاهين والذي قدّم مالك بن نبي إلى القارئ العربي بكتاب “الظاهرة القرآنية”15.

ظلت الحركة الإسلامية على حال واسع من التشتت إلى جماعات متفرقة حتى اندمجت هذه المجموعات المتنافرة تلك بعد عدد من الأزمات الداخلية بينهم16 تحت اسم “حركة الإصلاح والتجديد” والتي انبثق عنها حزب “العدالة والتنمية” المغربي، وهو حزب الأغلبية الحاكم الآن!

شكّل هذا السرد التاريخي بمنعرجاته ركيزة أساسية في تشكيل الوعي الديني والثقافي والسياسي عند أقطاب الحركة الإسلامية، ورغم ما مرت به الحركة الإسلامية وقادتها، فإن ذلك لم يطبع أعضاءها بوسم حتمي، ومسارات محددة سلفا، وهو ما تبدى في الاختلاف اللاحق حول المسارات عند بعض قياداته، وهو ما ظهر جليا في نموذج فريد الأنصاري.

تطور الوعي الديني عند فريد الأنصاري

“إن السؤال المشهور الذي وضعه الأستاذ فتحي يكن عنوانا لكتابه “ماذا يعني انتمائي للإسلام” يجب أن يُطرح بمفهوم أوسع ومضمون أعمق، على أساس بعث ديني شامل ورغبة اجتماعية تلقائية في التدين، من غير تقييد بإطار تنظيمي ضيق”

(فريد الأنصاري)

يذكر الأنصاري نشأته الدينية وسط ثلاث مراحل متباينة عملت على تشكيل وعيه الديني، وقد لخص الأنصاري مراحل وعيه إلى مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى هي التدين التقليدي، والتي لم تدم طويلا، وانتهت بمجرد تعرفه على الحركة الإسلامية قبيل الجامعة، يقول الأنصاري: “لكن هذا المعنى من التدين ولله الحمد لم يدم في تصوري طويلا، وانتبهت في مرحلة الشباب الأولى إلى شيء اسمه “الحركة الإسلامية”؛ وذلك بسبب ما كان يصلني عنها من أصداء وصراعات، خاصة في الصف الطلابي بالجامعة”17.

أما المرحلة الثانية هي مرحلة الالتحاق بالحركة الإسلامية نفسها، والتعرف على المفاهيم التي رسختها في عقول أبنائها من أدبيات إصلاحية، ومقولات دعوية مثل: “الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف، وأن الحاكمية لله”18، وقد كانت هذه المفاهيم في أوج شدتها حين مواجهة الأنصاري وجيله للماركسية والإلحاد.

وبحسب تعبير الأنصاري فإن أتباع الحركة الإسلامية في هذا العصر اكتسبوا صفات المحامي أكثر من اكتسابهم صفات المؤمنين، حيث يقول: “لكني أَصدُقكم القول، لقد مر عليّ دهر وأنا أقوم بهذه التصورات دون أن أجد للدين لذة في وجداني! تلقيت كل التصورات الجديدة في سياق مواجهة الغرب، ومقاتلة العلمانية، ومدافعة الماركسية، ومجاهدة الطغيان السياسي، والظلم الاجتماعي، فاكتسبت من صفات المحامي كثيرا، بيد أني لم أكتسب من سلوك المؤمن إلا قليلا، فعشت مع الناس أكثر مما عشت مع الله؛ لأن هذه الظروف جعلتني أفهم عقيدة «لا إله إلا الله» في سياق واحد ووحيد: هو أن ما سوى تصحيح قضية الحكم والتشريع في الدولة جزئيات من الدين، لا تستحق أي اهتمام!”19.

ثم يستدرك الأنصاري أن المشكلة لم تكن في المفاهيم التي تعلمها أبناء الحركة الإسلامية، وإنما المشكلة في طغيان السياسي منها على ما سواها، والظروف السيئة التي تلقوا فيها هذه المفاهيم، مما أدى إلى تضخيم السياسي على باقي المناحي كحالة من رد الفعل غير المتوازن20.

أما المرحلة الثالثة: فهي مرحلة إعادة نظر وتأسيس جديد لمفاهيم التدين ومنطلقات الإسلام نفسه بعيدا عما تلقاه الأنصاري في شبابه من شعارات الحركة الإسلامية، وإنما رجوع مباشر إلى منابع الدين ذاته القرآن والسنة، ومحاولة رؤية الجمال في كل معاني التدين وترك التعامل مع الدين باعتباره مفاهيم مصمتة، يقول الأنصاري: “إن القرآن الكريم والسنة النبوية يقولان لنا حقيقة جليلة عظيمة، لم يستطع أن يوصلها إلينا علم الكلام: هي أن عقيدتنا جميلة!”21.

وقد أولى الأنصاري بعد مرحلته الثالثة اهتماما كبيرا لمُدَارسة القرآن والانطلاق منه إلى مناحي الحياة المختلفة، وخصص سلسلة من كتبه تحت عنوان “من القرآن إلى العمران” في محاولته لرفع الاهتمام بالنواحي التزكوية والتعبدية والعلمية إلى مصاف الاهتمام بالشأن السياسي، بل جعلها مقدمة على الشأن السياسي، ورأى أن فعل الحركة الإسلامية برفع السياسي وزهدها في بقية مناحي الحياة بمنزلة وأد لها.

يقول الأنصاري في كتابه “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي”: “كل ذلك زادني يقينا فيما توصلت إليه من قبل في تصور طبيعة العمل الإسلامي، وأنه راجع بالدرجة الأولى إلى ضرورة عمران الوجدان برسالة القرآن، وأيقنت بعد ذلك بما بدا لي من حقائق قرآنية، في إعادة تشكيل الأمة مما قيدته في هذا الكتاب”22.

الأنصاري والنقد المباشر للتضخم السياسي في الحركة الإسلامية بالمغرب

“الخلافة تجربة بشرية غير معصومة، قد تسمو حتى تكون على منهاج النبوة، وقد تنحط حتى تكون ملكا عاضا أو جبريا”

(فريد الأنصاري)

على الرغم مما بدا ظاهرا أن الاندماج الذي حدث للإسلاميين في المغرب كان تعضيدا لقوتهم، فإن الأنصاري اعتبره بوابة الفقدان للفاعلية الدعوية في المجتمع المغربي وطغيانا للجانب السياسي على باقي مكتسبات الدعوة التي أسسها جيل الستينيات وقد كان غرضها الأساسي تدين المجتمع.

يقول الأنصاري: “كان الابتلاء الذي خسرت فيه الحركة الإسلامية كثيرا! ظهرت فكرة التخصصات في العمل الإسلامي على جميع المستويات: الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والنقابية، والسياسية، وانطلقت الحركة الإسلامية تقسم ميراثها على أبنائها في حياتها! ولكن النتيجة أن كل التخصصات التي أعلن عن ميلادها ماتت في مهدها إلا التخصص السياسي! هو وحده نما وتضخم واحتل كل المساحات الأخرى!”23.

لم يقف الأنصاري هنا، بل دعا صراحة لمراجعة كل ما كتبه المفكرون الإسلاميون، لا سيما ما اتصل بالسياسة وعلاقتها بالدولة، واعتبر هذه الكتابات متأزمة بضغط الواقع، وخالية من روح الإيمان: “أقول لإخواننا العاملين في حقل الدعوة في كل مكان، إنه لمن الواجب إعادة النظر في كثير مما كتبه المفكرون الإسلاميون المعاصرون وعرضه على محكمين اثنين: كُليات الدين، ومناطاته المحققة”24.

وفي نص طويل يقول فيه الأنصاري مُلخّصا مآخذه على توغل السياسي في باقي المناحي الدعوية:

“إن الناظر إلى عجيج السياسة وضجيج الصحافة يظن أن العمل السياسي الإسلامي في المغرب اليوم بخير وعلى خير وأنه على مواقع متقدمة. لكن الحقيقة أنه قد تخلف عما كان عليه من قبل كثيرا، لقد تضخم العمل الحزبي لدى حركة التوحيد والإصلاح وانتفخ سرطانيا حتى أتى على كل مكتسبات الحركة التربوية ومكاسبها الدعوية والاجتماعية!

لقد صار الإسلاميون يشتغلون في الشك وقد كانوا من قبل يشتغلون في اليقين وكانوا إلى الإخلاص في الأعمال أقرب! لقد كان يوم إعلان اتخاذ حزب سياسي واجهة للعمل الإسلامي بالمغرب هو يوم إعلان وفاة الحركة الدعوية!

نعم لقد كان الحزب فتنة حقيقية للإسلاميين، جعل أبناء العمل الإسلامي منشغلين بهمومهم الشخصية والدنيوية، فانخرطوا بذلك على كل حال في بناء خطاب مادي بالدرجة الأولى. ولقد كان بإمكان الحركة الإسلامية بالمغرب أن تصل إلى أفضل النتائج السياسية دون أن تتخذ لها حزبا لو أنها اشتغلت كقوة دينية دعوية منتشرة في كل قطاع.

لقد كان بإمكانها أن تجعل بعض الأحزاب السياسية تنخرط في تطبيق الممكن من برامجها السياسية دون أن تنزلق إلى شرك الاستهلاك التجزيئي لقوتها.. فبدل أن يخلق الإسلاميون الحياة السياسية كما زعموا تدنسوا بأوساخها!”25.

كتب فريد الأنصاري في نقد الحركة الإسلامية في المغرب

خصص الأنصاري عددا من المؤلفات لرصد ونقد أخطاء الحركة الإسلامية المغربية، وأهم كتبه في نقد الحركة الإسلامية المغربية:

الكتاب الأول: الأخطاء الستة للحركة الإسلامية، وعنوانه الكامل: “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية في المغرب، انحراف استصنامي في الفكر والممارسة”

هو أشد كتب الأنصاري ضراوة في نقد الحركة الإسلامية، وفيه جرأة غير مسبوقة في النقد داخل أوساط الحركة الإسلامية، وقد صرح الأنصاري في مقدمة الكتاب أنه قصد هذا القدر من الحدة، وأن الحركة الإسلامية في المغرب -كما يقول-: “لا خلاص لها إلا بـ “صدمة صرح” من نوع آخر، صدمة صرح تخرجها من أوهامها، وتحطم الأصنام المنتصبة في مخيلتها!”.

وعلى ذلك، يقول الباحث الدكتور محمد توفيق: “ركز الأنصاري نقده للحركة الإسلامية بكونها تهتم بالحركة والتنظيم، وهو ما اصطلح عليه بـ “الاستصنام”، أي أن الحركة جعلت لها أصناما من الدعوة أو الحزب أو السياسة”26.

وقد خلُص الأنصاري إلى أن الأصنام التي اتخذتها الحركة الإسلامي بالمغرب ستة:

الخطأ الأول: استصنام الخيار الحزبي، يقول الأنصاري: “لن أكون مبالغا إذا قلت: إن اتخاذ “حزب سياسي” كان أكبر خطيئة وقعت فيها الحركة الإسلامية بالمغرب!”27.

الخطأ الثاني: استصنام الخيار النقابي، يقول الأنصاري: “دخلت الحركة الإسلامية التجربة النقابية بلا تروٍّ، ولا تأصيل، فقامرت برصيدها الأخلاقي والديني بخوض غمار عمل لا يزال مشبعا بلغة الصراع الطبقي، والمقولات الماركسية في الفكر الاقتصادي”28.

   

الخطأ الثالث: استصنام الشخصانية المزاجية، وقصد بها الأنصاري -بحسب تعبيره- “غياب القادات العلمية الرسالية، والربانية الحكيمة، وتصدي الزعامات اللا علمية لقيادة العمل الإسلامي، على المستوى العالي والمتوسط من الهرم الإداري، مما أدى إلى استصنام “شخصاني” لتلك القيادات وإلى رسم معالم السير الحركي، بناء على مزاجها لا بناء على قواعد العلم وأولوياته الشرعية”29.

الخطأ الرابع: استصنام التنظيم الميكانيكي، يقول الأنصاري: “الأمور التنظيمية تطورت حتى أصبحت حُجبا عن الله!”30.

الخطأ الخامس: استصنام العقلية المطيعية، نسبة إلى الأستاذ عبد الكريم مطيع مؤسس حركة الشبيبة المسلمة، ويقصد بها الأنصاري: “ذلك المنهج الحركي القائم على أسلوب المناورة والخداع في التعاطي مع الشأن الإسلامي من الناحية التنظيمية والإدارية”30.

الخطأ السادس: استصنام المذهبية الحنبلية في التيار السلفي، وقد استفاض الأنصاري وأسهب في تتبع إشكالات هذا الصنم في المغرب، وأنه لم يراعِ الخصوصية المذهبية المالكية في المغرب، يقول الأنصاري: “أول صخرة اصطدم بها الفكر السلفي الدخيل هي صخرة المذهبية، وقد كان من أخطائه المنهجية الكبرى أنه استهان بأمر الخصوصيات المذهبية للمغرب“30.

وقد أثار الكتاب ضجة كبيرة حال صدوره، ودارت حوله مساجلات كثيرة من قادة الحركة الإسلامية المغربية، وقد سعى الأنصاري لتفنيد ما دار حول الكتاب عبر مادة صوتية طويلة.

الكتاب الثاني: الفجور السياسي
وعنوان الكتاب كاملا: “الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب: دراسة في التدافع الاجتماعي”، وقد صدر عام 2000، وهو العام الذي استقال فيه الأنصاري من حركة “التوحيد والإصلاح”.

ويركز الكتاب على حالة الفجور المجتمعي التي أصبحت هي الغالبة على المجتمعات المسلمة، وأن الفجور أصبح حزب الأغلبية فوق كل الأحزاب الإسلامية والعلمانية على حد السواء، وكيف تركت الحركة الإسلامية مهمتها الأساسية وهي تدين المجتمع إلى مجرد الاشتغال بالمناورة السياسية.

الكتاب الثالث: البيان الدعوي

وعنوانه كاملا “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي” وقد صدر عام 2003، وذكر الأنصاري في مطلعه أنه تتمة لكتاب “الفجور السياسي”، وفيه شرح وافٍ وأمثلة واسعة لمظاهر هذا التضخم في الحركة الإسلامية 2005، وفيه تأصيل لعلاقة الدعوي بالسياسي ومنزلة السياسة من الدين وأنها جزء منه وليست كل مظاهر التدين!

الكتاب الرابع: الفطرية

وعنوان الكتاب كاملا “الفطرية: بعثة التجديد المقبلة، من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام!”، ويعتبر الكتاب خلاصة فكر الأنصاري فيما بعد الحركة الإسلامية وما آلت إليه تجربته.

ويقترح الأنصاري بكل صراحة في هذا الكتاب الانتقال من التنظيمات الميكانيكية إلى فضاء الدعوة العام أو ما سماه “التنظيم الفطري”، وحدد لهذا التنظيم الفطري أشكالا ومقومات لأفراده.

لم يكن نقد فريد الأنصاري بداية ولا نهاية النقد للإسلام السياسي، وإنما كان حلقة ضمن سلسلة طويلة من الانتقادات التي وُجهت للإسلام السياسي، والذي قاده علماء دين مسلمون.

 لكن ما يمكن اعتباره مميزا هذه المرة أن النقد وُجه من أحد الرموز الحركية في بلد يتمتع الإسلاميون فيه بحظوة في أروقة صناعة القرار السياسي، ورغم السجالات العديدة التي أثارتها كتب الأنصاري، فإنها بذلك تشير إلى كونها تُشكّل علامة لا يمكن تجاوزها حين التطرق إلى ما يرتبط بالإسلام السياسي، سواء اختلف القارئ مع كاتبها أو اتفق.

———————-

الهوامش

*عبد الإله بن كيران: أمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي الحاكم، ورئيس سابق للحكومة المغربية، وعضو بارز في الإسلام السياسي بالمغرب.

** سعد الدين العثماني: سياسي مغربي، وطبيب نفسي، ورئيس الحكومة المغربية، ويعتبر من أهم الساسة الإسلاميين المعاصرين، له عدد من المؤلفات في السياسة الشرعية منها: “تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية”

***أحمد الريسوني: فقيه مغربي، وفاعل مهم في العالم الإسلامي، أهم أعماله منصبة في مجال مقاصد الشريعة والسياسة الشرعية، ويعتبر مرجعية للتيارات الإسلامية بالمغرب العربي.

**** يمكن تشبيه هذا التيار بالتيار النخبوي الذي نشأ في مصر قبل ذلك بقليل على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، والذي ظل نخبويا حتى استطاع حسن البنا أن يُحدث حالة الحِراك الإسلامي وتحويله من نخبوي إلى تفاعل مجتمعي حركي.

***** والكتابان معا أشهر ما كُتب في القرن الماضي عن المقاصد وصلاحية الشريعة وإمكانية استمرارها في الحياة المعاصرة.

******قد استفدنا من تلخيص الباحث إبراهيم السكران لحالة الإسلامي في المغرب العربي في كتابه المجاريات.

****** الشاهد البوشيخي: هو شيخ فريد الأنصاري المباشر، وله اشتغال واسع بالاصطلاحات الفقهية تأصيلا وتفريعا، وهو مشرف الدكتور فريد الأنصاري فيما بعد في أطروحة الدكتوراه بعنوان: “المصطلح الأصولي عند الشاطبي”، وأكثر أساتذة الأنصاري تأثيرا وتأصيلا علميا رحمه الله.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى