تقارير وإضاءات

تقرير | نسمع بالسفسطائية ولا نعرفها

نسمع بـ(فلسفة الشك) ونعرفها، ونسمع بـ(السفسطائية) ولا نعرفها إلا بملازماتها من التحايل والتمويه والذكاء العكسي، وكلّها مهارات لو طُبّقت أدواتها في ميدان كرة القدم مثلاً لكان السفسطائي نجماً بارعاً، يقود فريقه إلى الانتصارات، ويسمى مبدعاً، يمثل الجانب الفني من الحقيقة، فهو في الملعب لا يكذب؛ لأن القانون الأخلاقي الذي يضبط المباراة يتيح له كلّ فرص خداع الخصم لا القانون، فالخدعة التي تحقق النصر متاحة، بل هي الفن عينه خارج حقل العلم والبحث المعرفي.

ظهرت السفسطة أول أمرها كحالة احتجاج على أدوات التفكير التقليدية والفلسفية السائدة أيام سقراط وأفلاطون، وبثّت ألاعيبها الفاتنة، محمولةً على تقنية جديدة للتأمل لبلوغ الحق، رغم أنه لا يوجد حقّ في النظرية السفسطائية، وتورط لفظ (السفسطائية) بالعبث في الجدل المستميت من أجل الجدل ذاته، أو هكذا وصمها خصومها، ذلك أنها بشّرت بالشك واللايقين الذي يرتطم وجهاً لوجه بالقناعة التقليدية الدينية الوثنية والفلسفة التي تنشّط الشك الأوليّ ليحرض على التفكير السليم، ومن ثمَّ الوصول للحقيقة المطلقة التي تعبّر عن المنهج العلمي للفلسفة وآلتها الإنتاجية.

السفسطائية تكاد تكون من التيارات الفلسفية التي حافظت على المفهوم المركزي ونظريتها الأولية في اللايقين، رغم أن روّادها وكبار منظريها لم ينالوا حظهم اللائق في التداول التاريخي والخلود، فأسماؤهم نكرات في عالم المعارف والأعلام الفلسفية التي سبقتهم ولحقتهم، ربما كان تطرفهم النظري سبباً مباشراً لخمول ذكرهم، أو أن أثر آحادهم على التاريخ الفلسفي كان ضعيفاً، فلا يعدو أحدهم أن يكون منعرجاً لا منعطفاً في مجرى الفكر الإنساني، حيث لم يقدّم إضافة نوعية فريدة في النظرية الإنسانية ككل، على الرغم من إشارة صريحة أو ضمنية حظيت بها مدرستهم من فلاسفة متقدمين ومتأخرين على جرأتهم وجدواها في دفع أدوات النقد والتحليل خطوة إلى الأمام، فالكتاب يرصد مدى تأثيرهم في مجالهم الخصوم كسقراط وأفلاطون، وكيف التبست مقولاتهم بمقولات السفسطائيين حتى ليظن الظان أنهم منهم وما هم منهم، وهذا مؤشر على قوة تأثيرهم النقدية في مساحات تفكير المتأملين في كل عصر بجدوى، ولذة فرضِ الخيارات إزاء ظاهرة أو مشكلة أو إبداع مشكلة من لا شيء، وهكذا كانت الفلسفة التي تتعاطى مع الحقيقة والجمال كمشكلة أو حالة إنسانية ناقصة يجدر إتمامها باقتراح جملة من الممكنات.

أول من تأثر بالسفسطة هم خصومها الذين احتاجوا نزعتها الثورية ضد البدهي، على نحو أكثر وقاراً أو علمية، لكنهم لم ينفكوا عنها وعن حيادتها تجاه الحق والباطل في مقامات ونتائج، لذا اتهم الكتّابُ أفلاطون وسقراط بأنهم تورطوا في الدعوة إلى الفلسفة بأدوات فلسفية، وتسربت تلك التقنيات إلى المدارس اللاحقة المتناسلة من رحم المدرسة الأثينية الأولى، مروراً بالديكارتية، وانتهاء إلى المدارس ما بعد الحداثية كالتفكيكية التي تنفي الحسم جملةً، وتُرجئ النتيجة التي لا وجود لها إلا في المستقبل الهلامي العدمي.

ولكن السؤال الذي يشاغب قارئ كتاب (السفسطائية وأثرها في مدارس الشك)، هل للشك واللايقين أبٌ شرعي يسعنا التعرف عليه وردّ فروع الشك اللاحق جذورها؟

يبدو أن الشك فكرة ليست تصادمية لغرض التصادم أول أمرها، أي ليست مناكفة ومماحكة بقدر ما هي اعتراض علمي أو ثوري طائش، والشك بطبيعته يقيني يهدف إلى تأسيس قاعدة جديدة للحكم على المعلومة، فكان شكاً حاسماً يزعم لنفسه الوعي والقدرة على خدمة الإنسان بالقين الجديد.

السفسطة تخبطت في شبكة من تناقضات لا تصمد للنقاش، لذا انهارت كمدرسة قائمة على أصولها. وللشك السفسطائي موقف محدد ومحدود وضامر نظرياً وحالة تُعزى إلى حس طارئ تبلور مفهومياً في عقل غير طارئ، وكونه اندرج في مقولات فلسفية كبرى لا يعني أنه نتاج خلوة الحكماء والشاطّين في تأملهم، إنه يعتور حتى الجاهل والماجن والناسك، بل قد يند عن المؤمن صلب الإيمان، ثم لا يلبث أن يزاله إلى أوبة أو إلى العدم. ولا يكاد يخلو إنسان من شك في مقدس أو غير مقدّس دون أن يكون لتلك التيارات الفكرية الإلحادية أي دور أو خلفية لهذا الشك السطحي الذي يتعاظم بالإصرار والبحث له عن محضن علمي إلى عقيدة وجودية.

يقع في تصوري أن البحث عن المؤثر السفسطائي لمنحى الشك في شتى المراحل الفلسفية والنظرية الثورية ليس مجدياً لانعدام الفائدة من هذا البحث من أصله، إذ إنه المهمة الأولى للشيطان إثارة الشبهة العقدية لحرف الإنسان عن يقينه في الله، فعندما هبط آدم والشيطان هبط داعية اليقين مع داعية الشك الذي يجري مجرى الدم، فنشأ أول شك لإشباع حاجةٍ لتبني الانحراف، ثم انبسطت بطبيعتها في الإدراك حتى اتخذت وضعها النظري عند السفسطائيين وغيرهم، ولم يكن لهم فضل في استحداث الشك، بل تقعيده والدعوة إليه.

(المصدر: موقع المثقف الجديد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى