تقارير المنتدىتقارير وإضاءاتكتب وبحوث

قراءة في كتاب (موقف العلماء من الصراعات الفكرية .. دراسة في الفكر والمنهج) لفضيلة د. محمد الصادقي العماري

قراءة في كتاب (موقف العلماء من الصراعات الفكرية .. دراسة في الفكر والمنهج) لفضيلة د. محمد الصادقي العماري

 

(خاص بالمنتدى)

 

إن الاطلاع على تاريخ الأمم والشعوب، وسيرة العلماء والمفكرين والمصلحين..، والزعماء والأبطال والقادة..، يساعد العاقل على التبصر والتحلي بفضائل الأخيار، وسلوك طريق النجاح، والتخلي عن الرذائل، فإن فائدة التاريخ وسير الرجال عظيمة وجليلة، قال تعالى: ﴿لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ﴾ (يوسف:11)، بينت الآية أن الغاية والفائدة من التاريخ هي التحلي والتخلي، وكل ما أورده القرآن الكريم من قصص كان لهذه الغاية، غاية العبرة والاتعاظ وإعجاز المعارضين، بأخبار ثابتة قاطعة يقينية، أخبر بها القرآن لهداية الخلق للحق عن طريق استعمال فطرهم وعقولهم في هذه القصص التاريخية ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ١١﴾ (الأنعام:11)، ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ٦٩﴾ (النمل:69)، ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ﴾ (العنكبوت:20)، ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّشۡرِكِينَ٤٢﴾ (الروم:42).

في هذا السياق وامتثالا لخطاب الوحي الآمر بدراسة التاريخ عموما، فإنه من المفيد جدا إعادة قراءة تراث علمائنا السابقين والبحث عن فلسفة فكرهم، ومناهجهم التي اعتمدوها في بناء آرائهم وربطها بواقعهم، واستخلاص النتائج الخالية من الانطباعات أو المواقف الشخصية، والأغراض والمصالح التي تكرس واقع الصراع والنزاع، بل الغرض الوقوف على حالة الفكر كما هي، للاستفادة منه، ووضعه بين يدي الأجيال الجديدة للاستفادة منه وخصوصا الباحثين المشتغلين بالدعوة والإصلاح، من أجل استيعاب هذه الأفكار والاجتهادات الفكرية، ومن أجل تحقيق التواصل الفكري حتى لا يقع انقطاع في العمل الإصلاحي والنهضوي، ليبني اللاحق على عمل السابق، لصياغة مشروع نهضوي يأخذ بعين الاعتبار التجارب السابقة، وخصوصا كيفية معالجة الصراعات الفكرية، لإعادة بناء جسور التواصل من جديد.

إن القيام بمراجعات وتقويمات لمواقف علمائنا ومفكرينا رواد التجديد والإصلاح في تاريخنا وواقعنا الحديث والمعاصر، وتحويل نتائج ذلك إلى الجيل الحالي، من الأعمال المهمة في التشخيص، والمساهمة في صناعة المستقبل..، إن من أسباب التعثر وتكرار الأخطاء، عدم الوقوف على التجارب السابقة، ودراستها بغض النظر عن الخطأ أو الصواب، والأهم من كل ذلك هو الوقوف على هذه المشاريع العلمية، والآراء الاجتهادية، وربطها بزمانها ومكانها، وحيثيات إصدارها، وعلاقتها بمحيطها الفكري والاجتماعي والسياسي.. حينها، لأننا نعتقد أن دراسة تاريخ الأفكار، بإعادة طرح ومناقشة أفكار علماء الإسلام ومفكريه، وإحياء الجدل من جديد حولها، يساهم في تأصيل فقه حضاري جديد، لاستعادة الشهود الحضاري للأمة، والخروج من الأزمة.

لقد أثرت الصراعات على الحياة الفكرية الإسلامية، مما أدى إلى غياب الإنتاج والإبداع، حيث اقتصر الأمر -في الغالب- على النقد والنقض، الأمر الذي حال بين التفاعل الإيجابي بين المذاهب المختلفة، حتى بلغ الأمر إلى الإخراج من دائرة الإسلام، وهذا أحد المزالق التي ساعدت على تفرق كلمة الأمة وتشتت شملها، وتمهيد الطريق لتوسيع دائرة الاختلافات السياسية والمذهبية والطائفية..، التي زكاها التدخل والغزو الخارجي.

صراعات أضعفت الأمة وجعلتها قصعة أمام الأكلة، فإن الصراعات والانقسامات من آثار الهرم في الدولة وهذا ما أكده ابن خلدون: “اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها”، وهذا تأكيد منه رحمه الله على سلبيات النزاع والصراع، وتنبيهه على دور الوحدة في بناء الدول والأمم.

لذلك ندعو من خلال هذا الكتاب إلى مراجعة الفكر الإسلامي، وإعادة بناء وحدة المسلمين وقوتهم، ونبذ الصراعات والاختلافات الجزئية والهامشية، التي تضيع فيها جهود أبناء الأمة من أتباع الفرق والمذاهب والمدارس الفكرية المعاصرة العاملة للإسلام ..، ترك الاختلافات الجزئية، والتركيز على الأصول، والمصالح الإستراتيجية الكبرى للإسلام والمسلمين.

في هذا الكتاب يحاول المؤلف -وفقه الله- الوقوف على مواقف بعض العلماء في الفكر الإسلامي القديم والحديث، من الصراعات السياسية والمذهبية والطائفية في أزمنتهم وعصورهم، ودورهم في تدبير الصراعات والأزمات..، قاصدين إلى تحليل المواقف، وتفكيك الآراء، ومحاكمتها إلى منطق الشرع، والسياسة، وواجب الوقت، معتمدين في ذلك على تراثهم الفكري.

والمقصود النظر إلى “الفكر” و”المنهج” المتبع في اتساق الرؤية أو تناقضها، وطبيعة النظرة المعرفية التي حكمت توجه المفكر، وعملت على تماسك أفكاره ومقترحاته واجتهاداته، في معالجة الأزمات الفكرية، والصراعات والنزاعات المذهبية والسياسية القائمة في زمانه.

ومفهوم العلماء في هذا الكتاب يحيل على أولئك المفكرين الذين قدموا إسهاما قويا نظريا وعمليا، من أجل معالجة الأزمات والنكسات السياسية والفكرية والاجتماعية، على أساس إيمانهم القوي بأن الإسلام رسالة حياتية وواقعية..، قادرة على تقديم الحلول لواقع الناس، ترجم لهم الكتاب تحت عناوين مختلفة: “رجال الفكر والإصلاح”، “المجددون في الإسلام”، “أعلام الفكر الإسلامي”، “زعماء الإصلاح”….

واختيار هذه النماذج المدروسة كان قصدا ورغبة مني في التنوع، لأن هذا الاختلاف في المدارس الفكرية، يثري الدراسة، مع العلم أن ما يهمنا هو الموقف والدور الإيجابي أو السلبي في التعاطي مع الخلاف الفكري والسياسي..، من خلال الوقوف على فكر العالم وفلسفته الإصلاحية ومنهجه، لأن هذا هو القصد من الدراسة، محاولا جهد الإمكان دراسة هذه المواقف بعيدا عن كل ما يسيء أو ينقص من مكانة هؤلاء المفكرين العلماء.

يقول المؤلف -سلّمه الله-:

“وما ذكرته في هذا الكتاب لا يعني استقراء لمواقف كل علماء ومفكري الإسلام، لأني لا أستطيع القيام بهذا العمل على الأقل في هذا الكتاب، أو في الحيز الزمني المخصص لتأليفه، بل يستحيل القيام بهذا العمل من طرف فرد بل هذا عمل مركز علمي، أو مجموعة من الباحثين، وكل ما آمله من هذا الكتاب أن يكون مدخلا أو مقدمة لإعادة قراءة تراث مفكري الإسلام النظري والعملي، قراءة فاحصة، بعيدا عن التمجيد من جهة، وبعيدا عن التنقيص والتجريح من جهة أخرى، لاستخلاص معالم الطريق، واستلهام التجارب من أجل الاقتداء، وإعطاء أمثلة لشباب هذه الأمة تبين أسباب الصعود وأسباب الانحدار، لنستثمر الأولى ونحذر من الثانية.

وقد كان مهنجي في الدراسة اعتماد النصوص الأصلية للعلماء موضوع الدراسة، مع التعليق عليها ومقارنتها ومناقشتها أو انتقادها، مع الإشارة إلى تعليقات بعض الدارسين لتراجم العلماء قديما وحديثا، وجماع هذه الإجراءات المنهجية هو الاعتماد على النصوص الأصلية، ودراستها وقراءتها قراءة نقدية، لأن الغرض هو تقديم عرض علمي للقارئ عن موقف بعض العلماء من الصراع الفكري قديما وحديثا، من خلال دراسة تراثهم الفكري، ومنهجهم العلمي في بناء أفكارهم.

ونذهب في هذا الكتاب مذهب الندوي رحمه الله، في جوابه على من يضع معايير مسبقة يحاكم بها العلماء في تاريخ الإسلام، ويجعل هذه المعايير ميزانا يسقط بها العالم عن مرتبة الاعتبار، أو يرفعه بها عن غيره من العلماء، ويعلي من مكانته وقيمته على حساب العلماء الآخرين، مثل معايير: فتح باب الاجتهاد، أو الكفاح لإقامة الحكم الإسلامي، أو معارضة الدولة القائمة..

فإن هذه المعايير حسب الندوي لها قيمتها ومكانتها في الإصلاح، لكن للزمن والبيئة دور كبير في حياة الرجال، فإن لكل عصر مشاكله وأولوياته التي تحدد نطاق العمل، وتفرض نوعية وطبيعة المنهج المتبع، لا ينبغي أن نخرج العالم عن عصره، ثم نحكم عليه بالإخفاق أو الفشل، لأنه لم يحقق شرطا من شروطنا، أو لم تنطبق عليه المعايير المحددة سلفا، “وما التاريخ إلا تأدية الأمانات إلى أهلها«، وكل منهم أدى دوره وساهم على قدر استطاعته، “وكل كان مرابطا على ثغر من ثغور الإسلام، وعلى هذا المنهج نسير في دراسة فكر ومنهج هؤلاء العلماء، إمامنا في ذلك الصدق والإنصاف”.

ويضيف المؤلف -حفظه الله-:

“ورغم الجهد الكبير الذي بذلته في إعداد هذا الكتاب، ومعالجة موضوعاته، فلا أدعي أني وفيت هؤلاء العلماء والمفكرين حقهم، ولا قريبا من حقهم، بل هي مساهمة علمية للوقوف على موقفهم من الصراعات الفكرية والسياسية..، من خلال منهجهم وفكرهم وفلسفتهم الإصلاحية والتجديدية، تنويرا للأجيال القادمة.

فإن الإشكال الذي يواجهنا في هذه الدراسة هو حجم الكتابات والدراسات الكثيرة والمتنوعة والمختلفة من حيث الموضوع والمنهج، لكن الملاحظة العامة حول أغلب هذه الدراسات هي إما أن الكاتب يركز على مناقب العالم وإصلاحاته وينتصر له، أو يركز على أخطائه الفكرية، ويقدح فيه، وبناء على هذا الأمر يقوم صراع بين الإيديولوجيات الفكرية، وينشأ النقد ونقد النقد، ومحاولة التبرير..، والتعصب للشخص والإعلاء من مكانته، أو عدم الإنصاف والحط من مكانته..، وهذا مشكل كبير في تقييم عطاء علمائنا ومفكرينا رحمهم الله.

وليس من السهل الكتابة عن هؤلاء العلماء والمفكرين، لغزارة عطائهم الفكري والثقافي والسياسي، ولا أزعم أني اطلعت على كل تراثهم وما خلفوه من إنتاجات علمية..، لأن هذا الأمر لا يتسع له هذا العمل، بل تتبعت هؤلاء في معظم ما كتبوا، وخصوصا مؤلفاتهم التي تختزل مشارعهم العلمية، ومقترحاتهم الفكرية والسياسية..، فإنه يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، فهي محاولة تظل في نظر المؤلف دون المرغوب والمأمول، نرجو أن تتلوها محاولات أخرى جادة إن شاء الله”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى