كتب وبحوث

تاريخ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بين المصادر الإسلاميَّة والفرضيات الإسرائيليَّة 2من 5

تاريخ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بين المصادر الإسلاميَّة والفرضيات الإسرائيليَّة 2من 5

 

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

هل فقد هيكل أورشليم مكانته يومًا؟

وبرغم ما لهيكل أورشليم من دور محوريّ في الحياة الدّينيَّة لبني إسرائيل، وما ناله من تعظيم في البناء على مرّ الأجيال، فقد أثار ذلك الهيكل مشاعر سلبيَّة من بعض أفراد الشَّعب الإسرائيلي، لدرجة أنَّ منذ زمن عودة بني إسرائيل من السَّبي البابلي في القرن السَّادس قبل الميلاد وحتَّى زمن رؤيا يوحنَّا اللاهوتي، القرن الأوَّل الميلادي على أرجح القول، كان بعض الحانقين على النّظام الكهنوتي للهيكل يطلقون عليه “العاهرة”، كما تشير باركر (ص13). على سبيل المثال، تجد اشعياء يدين مَن يقبلون المال الفارسي لبناء الهيكل الثَّاني، ويتودَّدون إلى الأجانب، بينما يطردون بعضًا من عبَّاد الرَّبّ الأصليين بحجَّة تدنُّسهم “عَلَى جَبَل عَال وَمُرْتَفِعٍ وَضَعْتِ مَضْجَعَكِ، وَإِلَى هُنَاكَ صَعِدْتِ لِتَذْبَحِي ذَبِيحَةً. وَرَاءَ الْبَابِ وَالْقَائِمَةِ وَضَعْتِ تَذْكَارَكِ، لأَنَّكِ لِغَيْرِي كَشَفْتِ وَصَعِدْتِ” (سفر اشعياء: إصحاح 57، آيتان 7-8). وجد المسيحيون الأوائل هيكل أورشليم سوقًا لبيع الماشية والطُّيور ولإجراء تعاملات تجاريَّة؛ وكان موقف يسوع المسيح صارمًا تجاه ذلك التَّدنيس لبيت الرَّبّ “وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيبًا، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَرًا وَغَنَمًا وَحَمَامًا، وَالصَّيَارِفَ جُلُوسًا. فَصَنَعَ سَوْطًا مِنْ حِبَال وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هذِهِ مِنْ ههُنَا! لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ!»” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 2، آيات 13-16). مع ذلك، ظلَّت ذكرى هيكل أورشليم حاضرة في أذهان اليهود على مرّ الأجيال، احتفظ فيها الهيكل بدوره المحوري في الإرث الدّيني والحضاري لدولة إسرائيل الأولى.

أصل فكرة بناء هيكل أورشليم في العهد القديم

ترجع فكرة بناء هيكل أورشليم، وتحديدًا في موقع هضبة موريا وفوق الصَّخرة الَّتي تشكّل أعلى نقطة في تلك الهضبة، إلى رؤيا ليعقوب رآها وهو نائم فوق الهضبة، وجد فيها سُّلَّمًا متدلّيًا من السَّماء، وإذ بالرَّبّ يقف أعلاه والملائكة تصعد وتنزل “وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَ ذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا” (سفر التَّكوين: إصحاح 28، آية 12). فطن يعقوب إلى أنَّ ذلك الموقع كان بمثابة بوَّابة سماويَّة، يمكن من خلالها الارتقاء إلى السَّماوات العلا، ورؤية الرَّبّ والتَّحدُّث معه؛ لذلك، وضْع يعقوب حجر أساس هيكل أورشليم في ذلك الموقع “وَبَكَّرَ يَعْقُوبُ فِي الصَّبَاحِ وَأَخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَأَقَامَهُ عَمُودًا، وَصَبَّ زَيْتًا عَلَى رَأْسِهِ. وَدَعَا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ «بَيْتَ إِيلَ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 28، آيتان 18-19). وكما كان “بَيْتَ إِيلَ” بمثابة حجر الأساس للهيكل في القرن السَّادس عشر قبل الميلاد تقريبًا، كانت “خَيْمَةُ الاجْتِمَاعِ” نموذجه الأوَّلي بدايةً من القرن الثَّالث عشر قبل الميلاد، وحتَّى بُني الهيكل في القرن العاشر قبل الميلاد. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ بني إسرائيل لم يبنوا للرَّبّ هياكل قبل ذلك التَّاريخ؛ فهناك العديد من الإشارات في أسفار القضاة وصموئيل الأوَّل والثَّاني إلى وجود معابد لإقامة الشَّعائر الدّينيَّة. يخبر سفر صموئيل الأوَّل عن هيكل يُسمَّى “شيلوه”، ويشير إلى تعبُّد رجلٌ صالح من سلالة إفرايم بن يوسف، يُدعى ألقانة بن يروحام، في ذلك الهيكل “وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ يَصْعَدُ مِنْ مَدِينَتِهِ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَسْجُدَ وَيَذْبَحَ لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي شِيلُوهَ” (سفر صموئيل 1: إصحاح 1، آية 3). وكان هيكل “شيلوه” كذلك مكان حفْظ تابوت عهْد الرَّبّ “وَصَمُوئِيلُ مُضْطَجعٌ فِي هَيْكَلِ الرَّبِّ الَّذِي فِيهِ تَابُوتُ اللهِ” (سفر صموئيل 1: إصحاح 3، آية 3). وظلَّ تابوت العهد في هيكل “شيلوه” حتَّى استولى عليه الفلسطينيون (سفر صموئيل 1: إصحاح 4، آيات 17-22)، ولم يُرد إلى “شيلوه” بعد استعادته، إنَّما نُقل إلى مدينة داود، الواقعة في أورشليم، بعد حفْظه في بيت رجل إسرائيلي يُدعي عوبيد ثلاثة أشهر “ذَهَبَ دَاوُدُ وَأَصْعَدَ تَابُوتَ اللهِ مِنْ بَيْتِ عُوبِيدَ أَدُومَ إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ بِفَرَحٍ” (سفر صموئيل 2: إصحاح 6، آية 12).

أراد داود في تلك المرحلة بناء بيت للرَّبّ يكون بمثابة مستقَرّ وموقع دائم لتابوت العهد، واعتبر أنَّ خيمة الاجتماع لم تعد تفي بذلك الغرض. غير أنَّ قرار داود قوبل بمعارضة من النَّبيّ ناثان، الَّذي رأى أنَّ قائدًا حربيًّا تلطَّخت يديه بالدّماء مثل داود ليس مناسبًا لبناء بيت للرَّب، معتذّرًا بأنَّ الوقت لم يكن مناسبًا. في حين، فضَّل الرَّبُّ إحالة تلك المهمَّة إلى ابن داود وخليفته، سليمان، كما ورد سفر أخبار الأيَّام الأوَّل “وَقَفَ دَاوُدُ الْمَلِكُ عَلَى رِجْلَيْهِ وَقَالَ…اللهَ قَالَ لِي: لاَ تَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي لأَنَّكَ أَنْتَ رَجُلُ حُرُوبٍ وَقَدْ سَفَكْتَ دَمًا…وَقَالَ لِي: إِنَّ سُلَيْمَانَ ابْنَكَ هُوَ يَبْنِي بَيْتِي وَدِيَارِي” (سفر أخبار الأيَّام 1: إصحاح 28، آيات 2-6). تذكر الباحثة الإنجيليَّة أنَّ خطَّة إحالة بناء الهيكل إلى عهْد سليمان أوحيت إلى داود، مقرَّة بأنَّ “كيف أوحي إلى داود بتلك الخطَّة الإلهيَّة غير معلوم”، لكنَّها ترى أنَّ الأمر ببناء هيكل أورشليم مرتبط بإقامة موسى خيمة الاجتماع قبل قرون (ص16). نفهم من ذلك أنَّ الرَّبّ لم يأمر داود مباشرةً بأن يبني له بيتًا؛ إنَّما أراد داود ذلك، وفضَّل الرَّبُّ أن يبنيه خليفته، كونه، أي داود، سفك الدّماء في حروب تأسيس دولة إسرائيل. أمَّا النَّصُّ الكتابي الَّذي يصرّح بأمر الرَّبّ ببناء بيت لعبادته، فهو في سفر الحكمة، الَّذي يُنسب إلى سليمان، وتقرُّ الكاتبة بأنَّه “كُتب، على الأرجح، في القرن الأوَّل الميلادي”، أي بعد موت سليمان بقرابة الألف عام (ص16). يقول سفر الحكمة عن ارتباط بيت الرَّبّ بـ “الْمَسْكَنِ الْمُقَدَّسِ“، أي خيمة الاجتماع “إِنَّكَ قَدِ اخْتَرْتَنِي لِشَعْبِكَ مَلِكًا، وَلِبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ قَاضِيًا. وَأَمَرْتَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَيْكَلًا فِي جَبَلِ قُدْسِكَ، وَمَذْبَحًا فِي مَدِينَةِ سُكْنَاكَ عَلَى مِثَالِ الْمَسْكَنِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي هَيَّأَتَهُ مُنْذُ الْبَدْءِ” (سفر الحكمة: إصحاح 9، آيتان 7-8).

أهميَّة “الصَّخرة العظيمة” في تصميم هيكل أورشليم

تؤكّد الباحثة الإنجيليَّة مارجريت باركر أنَّ أعلى جزء من هضبة موريا، الّذي تُطلق عليه “الصَّخرة العظيمة”، والّذي يُعرف اليوم بالصَّخرة المشرَّفة، احتلَّ أهميَّة كبيرة في بناء هيكل أورشليم (ص18). يقع تحت الصَّخرة كهف يوجد دليل على أنَّ قناة قديمة كانت تجري شماله، وتختلف الآراء حول إذا ما كانت الصَّخرة أرضيَّة المذبح العظيم، أم كانت جزءً من قُدس الأقداس في الهيكل؛ ويذهب الكثير من الباحثين إلى الفرضيَّة الثَّانية، مفترضين أنَّ الصَّخرة العظيمة كانت أساسًا بُني عليها قُدس الأقداس في نهاية الجزء الغربي للهيكل، خاصَّة وأن أرضيَّة ذلك الجزء من البناء تبدو مرتفعةً عن باقي أجزاء البناء. على كلّ حال، إذا كان موقع الصَّخرة في الهيكل غامضًا، فأهميَّتها ليست كذلك. توضح الباحثة أنَّ الصَّخرة أُطلق عليها لاحقًا مُسمَّى “ابين شتيه” (אבן שתיה)، أو حجر الأساس، ويُعتقد أنَّها أساس قُدس الأقداس، والصَّخرة الَّتي كان الكاهن الأكبر ينثر عليها الدّماء يوم عيد الغفران في الهيكل الثَّاني، بعد اختفاء تابوت عهْد الرَّبّ وعرش الكروبيم.

نهاية وجود هيكل أورشليم

انتهت ثورة اليهود ضدَّ الحُكم الرُّوماني في عامها الرَّابع، عام 70 ميلاديًّا، باستباحة الرُّوماني لعاصمة دولة اليهود، وتدميرها، وبخاصَّة هيكل أورشليم؛ والمفارقة أنَّ دمار المدينة ومعها الهيكل كان من النُّبوءات المسيحيَّة، كما ترى باركر. يشير إنجيل مرقس، المفترَض أنَّه أوَّل الأناجيل تدوينًا، وفق بعض الرُّوايات الَّتي ترجّح أنَّه دُوّن ما بين عاميّ 61 و70 ميلاديًّا، إلى تنبُّؤ يسوع المسيح بدمار المدينة وما عليها بقوله “وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ، قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: «يَا مُعَلِّمُ، انْظُرْ! مَا هذِهِ الْحِجَارَةُ! وَهذِهِ الأَبْنِيَةُ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «أَتَنْظُرُ هذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ»” (إنجيل مرقس: إصحاح 13، آيتان 1-2). وينقل إنجيل لوقا تأسُّف يسوع على مصير مدينة أورشليم وبكاءه وهو يقترب منها، قائلًا ” إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ” (إنجيل لوقا: إصحاح 19، آيات 42-44). وتلقي الباحثة باللوم فيما حلَّ بأورشليم وهيكلها على محاربة اليهود دعوة المسيح وقتيلهم أتباعه، مستشهدةً بما أورده المؤرّخ الكنسي البارز يوسابيوس القيصري في كتابه تاريخ الكنيسة (The Church History) في ثاني أجزائه الخاص بدمار أورشليم على يد القائد الرُّوماني تيتوس، حيث افترض أنَّ دمار المدينة كان بمثابة عقاب إلهي لأهلها بعد استشهاد جيمس، أو يعقوب البار، أخ يسوع من أمّه، الَّذي عمل أسقفًا لأورشليم ثلاثين عامًا.

يؤيّد ذلك الرَّأي ليوسابيوس القيصري ما ذكره المؤرّخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس في مؤلَّفه آثار اليهود (المجلد العشرون)، عن أنَّ دمار أورشليم والهيكل كان عقابًا على مقتل يعقوب البار، الَّذي يُروى أنَّه أُلقي به شرفات الهيكل، ثمَّ رُجم حتَّى الموت لمَّا لم يمت إثره سقوطه من الأعلى. أمَّا عن سبب مقتل يعقوب البار بهذه الطَّريقة على يد جماعة من الفريسيين والكَتَبة، فيُقال أنَّه رفْضه تلبية أمرهم والتَّصريح أمام جموع الشَّعب الإسرائيلي يوم عيد الفصح بأنَّ يسوع ليس هو الماشيح (המשיח)، حيث أنَّه قال أمام الشَّعب “ماذا تريدون إن تعلموا عن يسوع أنَّه جالس في السَّماوات عن يمين قدرة أبيه وهو الذي سوف يأتي جالسًا على سحاب السماء لكي يدين بالعدل كلَّ المسكونة”. يفرد يوسيفوس فلافيوس في المجلَّد السَّادس من كتابه الحرب اليهوديَّة (The Jewish War)، مساحة كبيرة لسرد تفاصيل سقوط أورشليم وتدمير الهيكل، موضحًا أنَّ الرُّومان اقتحموا المدينة بعد فترة من الحصار أدَّت إلى حدوث مجاعة، أفضت بدورها إلى أكْل اليهود لحوم بعضهم، وحينها أصبح من السَّهل إبادة سُكَّان المدينة. اتَّجه جنود القائد الرُّوماني تيتوس إلى هيكل أورشليم، وأشعلوا النَّار في بوَّاباته، وأصيب اليهود حينها بالذُّعر والعجز عن الحركة؛ فلم يجرؤ أحدٌ على محاولة إخماد النّيران. اقتحم الجنود بعد ذلك بوَّابات الهيكل، وأشعلوا النّيران في أركانه، بعد أن استولوا على كنوز الهيكل، الَّتي حُملت إلى روما، وطاف بها الجنود هناك في موكب النَّصر.

وتختتم مارجريت باركر تناوُلها لدمار أورشليم وهيكلها عام 70 ميلاديًّا (ص52) بالتَّذكير برأي بعض المحلّلين القائل أنَّ ما حدث هو تحقُّق نبوءة حزقيال، السَّابقة على ذلك التَّاريخ بأكثر من خمسة قرون، عن دمار المدينة وهلاك أهلها “وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «اعْبُرْ فِي وَسْطِ الْمَدِينَةِ، فِي وَسْطِ أُورُشَلِيمَ، وَسِمْ سِمَةً عَلَى جِبَاهِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَئِنُّونَ وَيَتَنَهَّدُونَ عَلَى كُلِّ الرَّجَاسَاتِ الْمَصْنُوعَةِ فِي وَسْطِهَا». وَقَالَ لأُولئِكَ فِي سَمْعِي: «اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَرَاءَهُ وَاضْرِبُوا. لاَ تُشْفُقْ أَعْيُنُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا. اَلشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ، اقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ. وَلاَ تَقْرُبُوا مِنْ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ، وَابْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي». فَابْتَدَأُوا بِالرِّجَالِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَمَامَ الْبَيْتِ. وَقَالَ لَهُمْ: «نَجِّسُوا الْبَيْتَ، وَامْلأُوا الدُّورَ قَتْلَى. اخْرُجُوا». فَخَرَجُوا وَقَتَلُوا فِي الْمَدِينَةِ” (سفر حزقيال: إصحاح 9، آيات 4-7). لم يستجب الرُّبّ لتوسُّل حزقيال أن يرفع غضبه عن أورشليم، مبرّرًا ذلك بأنَّ “إِثْمَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا عَظِيمٌ جِدًّا جِدًّا”؛ أي أنَّ اقتراف الآثام هو الَّذي أفضى إلى الانتقام الإلهي ” وَكَانَ بَيْنَمَا هُمْ يَقْتُلُونَ، وَأُبْقِيتُ أَنَا، أَنِّي خَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي وَصَرَخْتُ وَقُلْتُ: «آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبُّ! هَلْ أَنْتَ مُهْلِكٌ بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ كُلَّهَا بِصَبِّ رِجْزِكَ عَلَى أُورُشَلِيمَ؟». فَقَالَ لِي: «إِنَّ إِثْمَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا عَظِيمٌ جِدًّا جِدًّا، وَقَدِ امْتَلأَتِ الأَرْضُ دِمَاءً، وَامْتَلأَتِ الْمَدِينَةُ جَنَفًا. لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الرَّبُّ قَدْ تَرَكَ الأَرْضَ، وَالرَّبُّ لاَ يَرَى. وَأَنَا أَيْضًا عَيْنِي لاَ تَشْفُقُ وَلاَ أَعْفُو. أَجْلِبُ طَرِيقَهُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ»” (سفر حزقيال: إصحاح 9، آيات 8-10).

3.أصل هيكل أورشليم في عقائد اليهود

يستعرض الباحث التَّاريخي جون إم. لاندكويست في كتابه The Temple of Jerusalem: Past, Present, and Future-هيكل أورشليم: الماضي والحاضر والمستقبل (2008م)، تاريخ هيكل أورشليم منذ تأسيسه في القرن العاشر قبل الميلاد وحتَّى دماره على يد الرُّومان عام 70 ميلاديًّا، مع التَّركيز على الموقع الَّذي يشغله في الذّهنيَّة اليهوديَّة والدَّور الَّذي لعبه في تاريخ اليهود، حتَّى بعد دماره منذ ما يقرب من ألفي عام، وهو الحدث الأهمّ في تاريخ اليهود قبل المحرقة النَّازيَّة خلال سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م). يبدأ الباحث، المتخصّص في تاريخ آسيا ومنطقة الشَّرق الأوسط، تناوُله لموقع الهيكل في حياة اليهود بعد دماره، بالتَّذكير بأنَّ فرقة اليهود الصَّدوقيين كانت هي المسيطرة على هيكل أورشليم الثَّاني والمشرفة على إقامة الشَّعائر فيه. وتعريفًا بأهمّ معتقدات الصَّدوقيين الدّينيَّة، فقد كانوا يؤمنون بالتَّوراة، أي أسفار موسى الخمسة، رافضين التَّسليم بصحَّة الاعتقاد في باقي أسفار العهد القديم؛ وكانوا كذلك لا يؤمنون بالقيامة بعد الموت، ولا الحياة الآخرة، ولا بالملائكة والشَّياطين؛ إذ لم يُذكر شيءٌ عن ذلك في أسفار موسى. ويذكر المؤرّخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس في مؤلَّفه الموسوعي آثار اليهود (Antiquities of the Jews)، في المجلَّد الثَّامن عشر (ص11-22) أنَّ ثلاث فرِق من اليهود سادت المجتمع اليهود زمن الهيكل الثَّاني، وهي الصدوقيون والفريسيون والاسينيون.

عُرف عن الفريسيين وفئة الكَتَبة المرتبطة بهم استغلال الدّين في تحقيق المصالح؛ ولذلك أدانهم يسوع النَّاصري وتوعَّدهم بحساب عسير “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا” (إنجيل متَّى: إصحاح 23، آيات 13-15). وفور دمار الهيكل عام 70 ميلاديًّا، تزعَّم الفريسيون الحياة الدّينيَّة اليهوديَّة، ليؤسّسوا مذهبًا عقائديًّا جديدًا هو اليهوديَّة الرَّبَّانيَّة (יהדות רבנית). وتُعرف اليهوديَّة الرَّبَّانيَّة كذلك باليهوديَّة الحاخاميَّة والتُّلموديَّة والكلاسيكيَّة، وهي تؤمن بأنَّ أساس عقيدة اليهود يقوم على أنَّ النَّبي موسى تلقَّى عن ربّه ألواح التَّوراة ومعها تفسير شفوي يُعرف بالتُّلمود؛ وقد سلَّم موسى التَّوراة إلى يشوع، الَّذي سلَّمها بدوره إلى حكماء بني إسرائيل، الَّذين سلَّموها بدورهم إلى الأنبياء. ويسود في الأوساط الدّينيَّة اعتقاد في أسطورة توضح انتقال اليهوديَّة من الهيكل إلى ما يُعرف الآن باليهوديَّة الرَّبَّانيَّة، وهي أسطورة الحاخام يوحانان بن زكَّاي، الَّذي يُشاع أنَّه لمَّا تنبَّأ بأن أورشليم ستسقط ومعها هيكلها، هرب من المدينة ليقابل القائد العسكري الرُّوماني، تيتوس فسبازيان، الَّذي صار لاحقًا الإمبراطور الرُّوماني (69-79 ميلاديًّا)، ليطلب منه ألَّا يمسَّ مدينة يفنه وحكماءها. وتقع مدينة يفنه على ساحل البحر المتوسّط، جنوبي مدينة حيفا المحتلَّة، ويُعتقد أنَّ الحاخام يوحانان بن زكَّاي أسَّس هناك الكنيس في تلك المدينة.

جُمع التُّراث الدّيني اليهودي الشَّفهي في القرنين التَّاليين لدمار الهيكل (70 ميلاديًّا)، ويُطلق عليه المشناه (המשנה)، وصاحَبه تفسيرات وتحليلات عُرفت باسم الجمارا (הַגְּמָרָא)، ليكوّنا معًا التُّلمود. وقد بدأ جمْع المشناه على يد الحاخام يهودا الأمير، كما يُطلق عليه، والَّذي بدأ جهوده في هذا الصَّدد في القرن الثَّاني للميلاد. وبما أنَّ قسمًا كبيرًا من محتوى المشناه يتعلَّق بهيكل أورشليم وعباداته وتصميمه، فذلك يعني أنَّ نصف المحتوى تقريبًا ليس له دور في الممارسات الشَّعائريَّة اليهوديَّة اليوم. مع ذلك، فبدون ما تحتويه عليه المشناه من وصْف للهيكل الثَّاني، من حيث العمارة، والتَّخطيط، والتَّصميم، والصَّلوات اليوميَّة، وكيفيَّة إقامة المهرجانات الدّينيَّة، يفقد التُّراث اليهودي قسمًا قيّمًا من المعلومات عن الهيكل من الصَّعب الحصول عليه من مصدر آخر.

تعظيم “الصَّخرة المشرَّفة” في التُّراث الباطني اليهودي

برغم ما يؤكّده حاخامات اليهود عن عدم اتّضاح الموقع الفعلي لهيكلي أورشليم، فهناك العديد من الإشارات إلى بنائهما على الصَّخرة المعلَّقة، التَّي تقع في وسط مُصلَّى قبَّة الصَّخرة في الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، الَّتي يُطلق عليها بالعبريَّة ابن شتيه (אבן השתייה‎)، أي حجر الأساس. تتمتَّع تلك الصَّخرة بنسبة كبيرة من الاهتمام في التُّراث الباطني اليهودي، الَّذي عُرف في البداية باسم المركبة أو العربة الباطنيَّة (מרכבה)، في الفترة ما بين القرن الأوَّل قبل الميلاد ونهاية القرن العاشر، ثمَّ بات معروفًا لاحقًا باسم القبَّالة (קַבָּלָה)، أي التَّلقّي. يعني ذلك أنَّ التُّراث الباطني في زمن الهيكل الثَّاني كان يُعرف باسم المركبة، وهو يتمحور حول رؤيا النَّبي حزقيال (سفر حزقيال: إصحاح 1، آيات 4-26)، حيث يقسّم الإصحاح 1 العالم إلى أربعة عوالم: عالم الحركة على الأرض؛ وعالم المركبة؛ وعالم العرش؛ وعالم الفيض الإلهي. تطوَّر علم المركبة الباطنيَّة إلى القبَّالة تقريبًا في منتصف القرن الثَّاني عشر للميلاد، في جنوب إسبانيا وفرنسا، وكان كتاب الخلْق (ספר יצירה‎) من أهمّ الأسس الَّتي قام عليها علم القبَّالة، ومحوره أنَّ العالم يتكوَّن من توليفات غير محدودة من الأحرف، تؤدّي كلُّ توليفةٌ دورًا في عمليَّة تصريف الأمور الكونيَّة. ويُعتبر كتاب الزُّوهار (זֹהַר‎)، أي النَّور السَّاطع، أشهر مؤلَّف في هذا المجال، وهو يُنسب إلى الحكيم اليهودي الإسباني موشيه بن شيم-توف، أو موسى دي ليون، وإن كان يُنسب زورًا إلى الحاخام شمعون بن يوحاي، ويُزعم أنَّه كتبه في القرن الثاني الميلادي، بعد أن لجأ إلى كهف احتمى به من بطش الرُّومان بعد فشْل ثورة اليهود عليهم عام 135م.

الصَّخرة المشرَّفة في مصلَّى قبَّة الصَّخرة-الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بالقُدس الشَّريف

يستشهد الباحث لاندكويست بما أورده عالم الاجتماع اليهودي رافائيل باتاي في كتابهMan and Temple in Ancient Jewish Myth and Ritual-الإنسان والهيكل في الأسطورة والشَّعائر اليهوديَّة القديمة (1967م)، عن الصَّخرة المشرَّفة، أعلى جزء من هضبة موريا في القُدس، الَّتي يُعتقد أنَّها كان الأساس الَّذي بُني عليه هيكلا أورشليم، في التَّصريح بالمكانة العظيمة لتلك الصَّخرة، وفق العقيدة اليهوديَّة. يقول باتاي عن الصَّخرة المشرَّفة أنَّها “أوَّل شيء صلب خلقه الرَّبُّ، ووضعه في وسط سائل المياه الأوَّليَّة، الَّتي كانت لم تزل بلا حدود. تقول الأسطورة أنَّ الجنين كما يتكوَّن في رحم الأمّ السُّرَّة، خلق الرَّبُّ الأرض حول تلك الصَّخرة، سُرَّة الأرض. وكما يتلقَّى الجنين قوته عبر السُّرَّة، تتلقَّى الأرض المياه الَّتي تغذّيها من تلك السُّرَّة الأرضيَّة” (ص85-86)، نقلًا عن لاندكويست (ص146). يضيف الباحث مسألة في غاية الأهميَّة، وهي أنَّ القبَّالة تربط موقع الهيكل برؤيا يعقوب الَّتي يروي عنها سفر التَّكوين (إصحاح 28، آيات 10-17)، والَّتي رآها وهو نائم فوق هضبة موريا. رأى يعقوب الرَّبَّ يسطع نوره أعلى سلّم متدلّ من السَّماء، وإذ بالملائكة تصعد وتنزل “وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَ ذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا” (سفر التَّكوين: إصحاح 28، آية 12). يعني ذلك أنَّ الهيكل يقع حيث رُؤي الرَّبُّ، وحيث تستقر شيخيناه، أي السَّكينة (שכינה‎)، أو حضرة الرَّبّ، أو الوجود الإلهي. وتمثّل شيخيناه الجانب الأنثوي من الإله، الَّذي يتَّسم بالبهاء والرّفق والحنو، كما تُعتبر تجسيدٌ للوجود الإلهي.

يذكّر لاندكويست بما أورده رافائيل باتاي في كتابه آنف الذّكر (1967م) بشأن الارتباط بين الرَّبّ وجبل صهيون، الواقع جنوب غربي البلدة القديمة في القُدس، والَّذي اختاره الرَّبُّ مسكنًا له، وسكب عليه من البركات الَّتي تنطلق منه إلى سائر بقاع الأرض، وجعل منه موطنًا للمخلّص. أمَّا عن أصل هذا الاعتقاد، فهو مستقً ممَّا ورد بشأن صهيون في العهد القديم “أَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ. اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ. «هذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى الأَبَدِ. ههُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا. طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبعُ خُبْزًا. كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصًا، وَأَتْقِيَاؤُهَا يَهْتِفُونَ هُتَافًا. هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْنًا لِدَاوُدَ. رَتَّبْتُ سِرَاجًا لِمَسِيحِي. أَعْدَاءَهُ أُلْبِسُ خِزْيًا، وَعَلَيْهِ يُزْهِرُ إِكْلِيلُهُ»” (سفر المزامير: مزمور 132، آيات 13-18). يفسّر باتاي تلك الآيات بأنَّ صهيون بمثابة فرْج الأنثى الَّذي يتدفَّق فيه الفيض الإلهي؛ ممَّا يعني أنَّ تلك البقعة تمثّل الاتّحاد الفعلي بين الرَّبّ وأرض إسرائيل، ومن حيث تنتشر البركة لتعمَّ العالم بأسره.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى