كتب وبحوث

“المكون الثقافي لدى إبراهيم السكران “قراءة في المنتج الفكري المعاصر

“المكون الثقافي لدى إبراهيم السكران “قراءة في المنتج الفكري المعاصر

إعداد الباحث أحمد صلاح حسانين

فهرس الدراسة

الصفحة الموضوع
4 الإهداء
5 المقدمة
6 مشكلة الدراسة
6 أهداف الدراسة
6 أهمية الدراسة
7 الدراسات السابقة
7 خطة البحث
8 منهج الدراسة
8 حدود الدراسة
9 المبحث الأول: حياة السكران وتراثه العلمي
9 المطلب الأول: حياته ونشأته وتحولاته الفكرية
11 المطلب الثاني: تراثه العلمي
15 المبحث الثاني: المكون الثقافي عند السكران
14 المطلب الأول: مركزية الوحي
18 المطلب الثاني: التراث التيمي
21 المبحث الثالث: اهتمامات السكران والقضايا الملحة
21 المطلب الأول: الجبهة الداخلية
24 المطلب الثاني: الجبهة الخارجية
30 الخاتمة (النتائج والتوصيات)
31 المقترحات
32 المراجع

الإهداء

إلى من أدعو الله أن يرحمه في عليائه

أبي –رحمه الله-

إلى من أدعو الله أن يجزيها خيرا على تربيتها لنا

أمي –حفظها الله-

إلى إخوتي وأحبتي وسندي في الحياة

محمد ومحمود -جزاهما الله عني خيرا-

إلى من سارت معي رحلتي هذه فكانت نعم السند والمعين

زوجي –أكرمها الله-

إلى كل من ساهم في تعليمي وتربيتي ونصحي

جزاكم الله جميعا عني خيرا.

إلى أمة الإسلام التي ملأ حبها كل فؤادي فأردت أن أساهم بشيء في نهضتها وعودة عزتها.

المقدمة

الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لا يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأكرم، والرسول المعلم، الذي ما ترك خيرا إلا وأرشدنا إليه، وما ترك من شر إلا وحذرنا منه، وبعد..

إن أمة الإسلام تعيش فترة عصيبة من فترات تاريخها؛ فقد تسلط عليها عدوها، وخانها بعض أبنائها، وضاع الكثير من شبابها بين فتن الشهوات، وسهام الشبهات، وأحدث الغزو الفكري بعقول أبنائها ما لم تفعله الجيوش المدججة، ويحاول الغرب بكل ما أوتي من قوة صهر الأمة في بوتقة الأممية العالمية؛ خشية قيام المارد لإعادة سيطرته على زمام الحياة، وإمساكه براية التوجيه الحضاري من جديد.

ومن هذا المنطلق، قام رجال من رجالات الأمة، يبعثون فيها روح البعث والتجديد، ويقاومون الغزو الفكري ويدحضون حججه الباطلة، ويعرون الباطل وينصرون الحق.

وقد كان من المفكرين الذين لهم قمة فارعة في مقاومة الغزو الفكري وتصحيح المفاهيم والمسلّمات الوافدة، أبو عمر (إبراهيم السكران)، الذي سخر قلمه لكشف خفايا هذا الفكر الوافد، الذي حمله إلينا أناسا تسموا بأسامينا، ولكن استهدفوا عقل المسلم المعاصر بسهام تتلوها سهام؛ حتى يفرغوا عقله من فكرة الإسلام الواضحة الجلية الفاصلة؛ بل وحولوا الإسلام من حاكم إلى متهم، ” لقد تمّ إنزالُ التراث من كابينة القيادة إلى قفص الاتهام! فبعد أن كانت هذه الشّريحة الشّبابيّة تنظُر إلى التراث الإسلامي باعتباره النموذج المُشعّ الذي تستلهم منه المُثُل والقِيم، وينتصب أمامه المرءُ بسكينة الانتماء، أصبح بعضُ هؤلاء الشباب ينظرون إلى التراث باعتباره ألبوم التصرّفات البدائيّة المُخجِلة الذي لا يجب أن يُفتَح إلّا مع ابتسامة اعتذار، مع استخفاف عميقٍ بمواقف رجالاته وأعلامه. وفي أحسن الأحوال أصبح لا يُقبل من التّراث الإسلاميّ الضّخم إلّا أن يُزوّدنا بالأسانيد والحيثيّات التّي تؤكّد نِتاج عصر الأنوار ليس إلّا!”([1])

بل وكان للسكران صولات وجولات في المساجلات الفكرية والأدبيـة مـع دعـاة التغريب، التي تعد إسهاما مهما في أسلمة الثقافة والفكر والتربية، وتفوق على أقرانه بل وشيوخه في نقده للفكر الغربي؛ حيث نقده نقد العالم الخريت، فقد نقده من داخله، واستخدم لغته، فكان لمؤلفاته أكبر الأثر في نفوس شباب الأمة. غير أن هذا المفكر لم يلق عناية بالغة من قبل الدارسين والباحثين فـي هـذا الميـدان بالرغم من شهوده الفكري والثقافي في المكتبة الإسلامية، وألمعية طرحـه، وتميـز منهجـه، وعمق فكره، مما يجعله بلا شك أنموذجا رائعا للأجيال الواعدة.

مشكلة الدراسة:

من خلال متابعة الباحث لواقع أمته، وجد مدى تأثير الفكر الغربي الوافد على شبابها، وانعكاس ذلك على أنماط شخصياتهم، ومنهج حياتهم. الذي أصبح أقرب ما يكون إلى النموذج الغربي. وبتمعن وجد هناك رجالاً قاموا بتفنيد هذا الفكر الغربي الوافد، ومن هؤلاء الأفذاذ أبو عمر السكران، ويمكن تحديد المشكلة في هذا السؤال الرئيس:

ما المكون الثقافي لإبراهيم السكران وما دوره في الفكر الإسلامي المعاصر؟

ويتفرع من هذا السؤال الأسئلة الفرعية الآتية:

س: كيف نشأ السكران وما التحولات الفكرية التي مر بها؟

س: ما المكون الثقافي الذي انطلق منه إبراهيم السكران؟

س: ما الاهتمامات التي تناولها السكران بقلمه؟

أهداف الدراسة:

1- بيان نشأة السكران وتوضيح التحولات الفكرية التي مر به

2- تحديد المكونات الثقافية التي انطلق منها السكران.

3- إلقاء الضوء على الموضوعات التي اهتم السكران بتناولها في كتاباته.

 أهمية الدراسة:

تنبع أهمية هذه الدراسة من عدة عوامل، أهمها:

1- تعتبر هذه الدراسة أول دراسة علمية عن فكر إبراهيم السكران ومكونه الثقافي.

 2- هذه الدراسة تبصرنا بمجهود ضخم كلف صاحبه الكثير من وقته وجهده وحريته، في صد الغزو الفكري، والوقوف أمام دعاة التغريب.

3- تضع أيدينا على مرض الانهزامية النفسية الذي أصاب الكثيرين منا أمام طغيان الحضارة الغربية المادية، وبيان عوار هذه الحضارة.

4- تمثل هذه الدراسة مشروعا نوعيا لتصحيح جملة من المفاهيم والمسلمات الخاطئة التي عمل الغرب على تسويقها في مجتمع المسلمين.

 5- تكشف هذه الدراسة عن الفرق بين الصحوة الإسـلامية المبتذلـة، والـوعي الإسـلامي الصحيح المستمد من واقعية النص لا واقعية الحال.

6- تفصل هذه الدراسة في قضية حوار الحضارات، وتبين موقف المجتمع المسلم من ثقافـة الغرب في ظل العولمة المعاصرة.

 الدراسات السابقة:

 بعد اطلاع الباحث لم يجد دراسات خاصة في هذا الموضوع، إلا بعض المقالات التي كتبت في مواقع الإنترنت.

خطة البحث:

قسم الباحث دراسته إلى ثلاثة مباحث، وتحت كل مبحث مطلبين، كالآتي:

المبحث الأول: حياة السكران وتراثه العلمي.

المطلب الأول: حياته ونشأته وتحولاته الفكرية

المطلب الثاني: تراثه العلمي

المبحث الثاني: المكون الثقافي عند السكران

المطلب الأول: مركزية الوحي

المطلب الثاني: التراث التيمي

المبحث الثالث: اهتمامات السكران والقضايا الملحة

المطلب الأول: الجبهة الداخلية

المطلب الثاني: الجبهة الخارجية

منهج الدراسة:

سلك الباحث في منهجية كتابة هذه الدراسة المنهجين الاستقرائي والوصفي.

فقد سلك الباحث المنهج الاستقرائي؛ والمقصود به: “طريقة لوصف شيء معين مما يؤدي إلى استنتاج شيء آخر، لذلك عند استخدامه في التفكير المنطقي فإنّ ذلك يعني جمع المعلومات والوصول إلى النتائج باستخدام الملاحظة”.[2]

كما استخدم المنهج الوصفي: “دراسة الأوضاع الراهنة للخصائص من حيث خصائصها، أشكالها، علاقاتها، والعوامل المؤثرة في ذلك”.[3]

حيث قام الباحث بدراسة شخصية المفكـر إبراهيم السكران وآثاره العلمية بالتحليل من خلال مواقفه الواضحة تجاه النظريات الغربية الوافدة ومحاكمتها في ضوء المعايير الإسلامية الأصيلة.

حدود الدراسة:

يمكن حصر حدود الدراسة في الحد الموضوعي وهو (المكون الثقافي عند إبراهيم السكران) عبر ستة كتب من كتبه وهي: مآلات الخطاب المدني – سلطة الثقافة الغالبة – الماجريات – مسلكيات – الطريق إلى القرآن – مجموع نسائم القرآن. ولن يتطرق الباحث إلى كتب أخرى لإبراهيم السكران.

المبحث الأول

حياة السكران وتراثه العلمي

تمهيد:

إبراهيم السكران اسم برز كباحث شرعي مجد مجتهد، صاحب منطق قوي، وقلم سيال، ساهم في خروجه عدة عوامل، صاحبت نشأته وطريقة تحصيله.

بدأ السكران حياته ليبراليا حراً، ثم انتهت قبيل سجنه مفكرا إسلامياً يطارد الفكر الليبرالي، ويقض مضجعه، ينقده من داخله، وقد خبره، وعرف مداخله ومخارجه. فمن إبراهيم السكران؟

المطلب الأول: حياته ونشأته وتحولاته الفكرية:

“أبو عمر إبراهيم بن عمر السكران المشرف الوهبي التميمي، محامي سعودي وباحث ومفكر إسلامي، له اهتمام بالفلسفة والتنوير والمذاهب الفكرية والعقدية؛ حاصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود، والماجستير في السياسة الشرعية من نفس الجامعة، وكذا الماجستير في القانون التجاري الدولي من جامعة اسكس البريطانية”.[4]

ولد السكران في (5 من ربيع الآخر 1396 هـ الموافق 4 من إبريل 1976م).[5] “في 14 يونيو 2016، تناقلت الصحف خبر اعتقال إبراهيم السكران من منزله بالرياض، وقد ترجَّح أن أسباب الاعتقال مجموعة تغريدات غرد بها السكران خارج السرب”.[6]

التحولات الفكرية في حياة السكران:

“بدأ السكران حياته متأثراً بالخطاب الليبرالي وله بحوث مغايرة تتبع تلك الحقبة كبحثه المعروف في نقد مناهج العلوم الشرعية التي تُدرس في المدارس الحكومية حيث اعتبرها من أسباب نمو ظاهرة الغلو والتشدد في المملكة العربية السعودية”.[7]

“ففي عام 1424 هـ أثناء انعقاد ملتقى الحوار الوطني السعودي، قدم السكران ورقة بعنوان “المقررات الدراسية الدينية.. أين الخلل؟”، حاول فيها السكران أن يتتبع الخلل في التعليم الديني السعودي، والذي رده إلى البُعد عن التسامح مع المخالف، والحجب عن المَدنية الأوروبية ومفاهيمها، وهو ما دفع السكران إلى الحديث عن تخفيف جرعة التطرق لقضايا الكفر والإيمان، والتسامح مع المخالف، مع تعزيز ثقافة حقوق الإنسان”.[8]

“لم تمر ورقة السكران مرور الكرام، فقد أثارت لغطا في الأوساط الدينية، وهو ما استدعى عددا من الردود عليها، والتي انبرى لها مُشرعين محسوبين على التيار السلفي السعودي، كان على رأسهم سليمان الغصن، أستاذ العقيدة بجامعة الإمام”.[9]

ولكن بعد مرور سنوات إذا بالسكران نفسه أول من يحاكم هذا الفكر، بنشره (مآلات الخطاب المدني)، وعقب نشر ورقة «المآلات» أعلن براءته التامة مما سبقها، وكتبَ يقول: “… وأنا أبرأ إلى الله من كل حرف خططته قبل ورقة مآلات الخطاب المدني، وأحذر كل شاب مسلم أن يغتر بمثل هذه المقالات التي كنت فيها ضحية الخطاب المدني المعاصر الذي يغالي في الحضارة والتسامح مع المخالف، وأنصح إخواني الذين لازالوا مخدوعين بمثل هذه المفاهيم أن يعودوا للقرآن ويسبروا الطريق واضحاً”[10]

ولكن متى بدأ هذا التحول في حياة السكران؟

كانت البداية في الفترة التي قضاها في تعلم اللغة الإنجليزية بنيوزيلاندا. ويحكي السكران بنفسه عن هذه الفترة، موضحا التجربة التي مر بها: «في مطلع ربيع الأول 1428هـ، مارس 2007م، كانت الطائرة قد حطَّت بي وبزوجتي في نيوزيلاندا لأتم دورة في اللغة الإنجليزية، وكانت مدتها خمسة أشهر على حسابي الخاص، وحين بدأت الدراسة في المعهد وجدت نفسي بعيدًا عن معمعة المجاذبات الفكرية المحلية في المشهد الفكري المحلي السعودي في قرية صامتة خارج الوطن، لا تسمع فيها كل سادسة مساء إلا حفيف الأشجار، وكانت أدغال مهجورة، وكانت فرصة حقًا للتأمل المنظَّم، وخصوصًا أنني حين أعود من المركز وأنهي التكليفات المدرسية فإنه يتبقَّى لدي وقت طويل، فصمَّمت على أن أُعيد دراسة كل الملفات الفكرية التي عشت أسئلتها على ضوء القرآن، فابتدأتُ بالمصحف من الفاتحة إلى الناس، أقف عند كل مقطع وأتأمَّل ما فيه من الشواهد والإجابات على الأسئلة الفكرية التي أُثيرت في مرحلة سابقة، ثم أسجل الآية مع الإشارة إلى وجه الاستشهاد بها في ملف خاص، وبعد شهرين وصلت إلى خواتيم جزء (عم) وأنهيت المهمة. فبدأت بتحرير خلاصة النتائج، واستغرق التحرير زهاء أسبوعين وانتهيت من آخر حرف خططته فيها في 10 ذي الحجة 1428، الموافق يوليو2007م»[11]

وبعد هذا التحول صار السكران رقما صعباً في نقد الفكر الغربي، فلم تعتمد كتاباته على أسلوب الوعظ، “فقد كان السكران على معرفة بمناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، مع اطلاع مباشر على المصادر الأجنبية التي كثيرا ما ينقل عنها، وقد أهّله ذلك، مع معايشته الذاتية للحالة المدنية ودرايته الشرعية، لأن يحلل الإشكالات الواقعة بين الدين والحداثة دون أن يُكثِر من الخطاب الحِجَاجِي والوعظيّ كعادة الإسلاميين في النقد، وهو ما يُكسب نقده قيمة مضافة في الحالة الإسلامية بعموم، والسلفية بخصوص”.[12]

ولذلك كانت لكتب السكران دوراً مهماً في تصحيح المفاهيم الإسلامية، والوقوف أمام موجة التغريب التي اجتاحت الأمة الإسلامية؛ خاصة بعد أحداث سبتمبر 2001، وكانت لكتبه أثر بالغ في مواجهة هذا التيار التغريبي؛ حتى قال الباحث الإسلامي عبد الله العجيري: ” أعظم منتج فكري قدمته الحالة السلفية في المشهد المحلي السعودي هو مآلات الخطاب المدني”.[13]

المطلب الثاني: تراثه العلميفقد خلف السكران -على صغر سنه- تراثاً إسلامياً واسعاً، متعدد الموضوعات، كان له دور كبير في توعية الأمة، وتبصير شبابها.فقد خلّف السكران -حتى الآن- أربعة عشر كتاباً، وهي:

1- مآلات الخطاب المدني:يعتبر أهم ما كتب السكران؛ حيث كان بداية تحوله الفكري. وقد ترك الكتاب أثراً بالغاً على كل من قرأه.وقد ناقش في الكتاب عدة مسائل مهمة وخطيرة، مثل: مرتبة الحضارة في سلم أولويات المسلم، ومركزية الوحي، وتفنيد فكرة آنسنة النص الشرعي، كما تناول فكرة سلطة الغموض، ووظيفة الإنسان، وموقف الأنبياء من الحضارات، وغيرها من الموضوعات المهمة.

ويظهر في الكتاب مدى سعة اطلاع السكران على الموروث الثقافي الغربي، وعلى التراث الشرعي أيضًا، وقد مزج بينهما في الرد مزجا واضحا؛ يظهر مدى رصانته في علوم الشرع، وتمكنه من علوم الغرب.

2- سلطة الثقافة الغالبة:

يعتبر الهدف الأكبر لهذا الكتاب، هو مواجهة الانهزامية النفسية التي أصابت الأمة، كما قال ابن خلدون: ” فترى المهزوم مولعا دائمًا بالاقتداء بالغالب”[14]

فقد تناول فيه الكثير من المواضيع المتشعبة، واختار بعض القضايا الملحة التي أصابها خلل فكري جراء الهجمة التغريبية، فتناول موضوعات مثل: لبرة الولاء والبراء، الطعن في الرواة المكثرين، مسألة الطائفية والإقصاء، آيات الغزو والجهاد، الخصوصية العيدية – حاكمية الذوق الغربي.

ولكن أهم ما سلط عليه الضوء هو تأثر المسلمين بالثقافة الغربية، وهل هذا الموقف نابع من منطق عقلاني؟ أم هي سلطة الثقافة الغالبة التي تجعل من المهزوم مولعا دائما بالاقتداء بغالبه؟

وإن كان الباحث يرى أن هذا الكتاب قد خلط فيه السكران بين ما هو اجتهادي (فقهي)، وبين ما هو ثابت (اعتقادي)، فحسم مسائل ضخم -مثل: “تأويل الصفات – بعض أنواع التبرك – صلاة التسابيح – زيارة النساء للمقابر…” وغيرها- في سطرين، وأسقط اعتبار الخلاف فيها.

3- المُاجريات:

في هذا الكتاب يناقش السكران ظاهرة منتشرة بين طلاب العلم، وهي ظاهرة الانشغال بالماجريات اليومية، سواء السياسية منها أو غير السياسية؛ حيث ينهمك طالب العلم في تتبع الأخبار، والتعليقات عليها، والانشغال بإرسالها، وما يتبعها من مساجلات فكرية، وحوارات نقاشية، تجعل وقت طالب العلم يتسرب من بين يديه دون فائدة حقيقية.

ويقسم المؤلف الماجريات إلى ماجريات شبكية، وهي المرتبطة بمواقع التواصل الاجتماعي، والماجريات السياسية.. ويناقش المؤلف كل ذلك ويحاول أن يضع حلًا يعين على تجاوز هذه المشكلة، خاصة عن طريق النمذجة؛ فيضع نماذج للاقتداء بها، مثل: عبد الوهاب المسيري، ومالك بن نبي، والبشير الإبراهيمي، وأبو الحسن الندوي، وفريد الأنصاري.

متناولا كل شخصية منهم، وظروف البيئة التي نشأ فيها، والنظام الحديدي الذي فرضه على نفسه؛ حتى يستطيع إخراج منتجه، سواء كان منتجا كتابيا، أو دعويا، أو إرشاديا، أو جهاديا.

4- مسلكيات:

هذا الكتاب تناول فيه السكران ظاهرتي الإيمان والعلم، ترتيباً كما رتبهما القرآن الكريم، وأفرد لكل ظاهرة عدة مقالات بأسلوب وعظي بليغ، وبلغة جذابة.

الكتاب يدفع الإنسان دفعاً إلى مراجعات إيمانية، ومراجعات في التحصيل والطلب، وينفض عنه الكثير من غبار الكسل والتوهم، فهو من أمتع كتب الرقائق في طريقته وعرضه.

5- الطريق إلى القرآن:

هذا الكتاب الرائق عبارة عن تأملات في الطريق إلى القرآن، طريق القلوب إلى كتاب الله العظيم.. كيف نسير إليه؟ كيف نجهز قلوبنا لتلقي ما فيه؟ الكتاب يلمس القلب بشكل كبير، والأسلوب غاية في الروعة، وهو مؤثر للغاية، يعرض عليها إبراهيم السكران تأثر الصحابة قبل الإسلام وبعده بهذا القرآن، وكيف أنهم وجدوا فيه سحرًا لم يقدروا على مقاومته.. ويحدثنا عن القلوب القاسية، وعن الشاردين، ويحدثنا عن التدبر، وعن التأمل، وعن الذكر.[15]

6- مجموع نسائم القرآن:

وهو يعتبر رسالة جيب أقرب من كونه كتابا. فهو يحمل خمسة رسائل قرآنية، يستخلص منها الكاتب أهمية الحياة مع القرآن، وأن الأطروحات الحديثة –كما نظنها- قد فندها القرآن، ورد عليها بحكمة بالغة. فالكتاب دعوة إلى معايشة القرآن وتدبر آياته، وإنزالها على واقع حياتنا، ومستجدات عصرنا.

7- التأويل الحداثي للتراث.

8- مفاتيح السياسة الشرعية.

9- أقيسة الاختلاطيين.

10- احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي. 11- المغزى الرمضاني.

12- المخارج الفقهية لأزمة السكان. 13- الاحتساب على شاتم سيد البشرية.

14- رقائق القرآن.

كما ترك مجموعة كبيرة من المرئيات على موقع اليوتيوب وغيره، يشرح فيه رؤاه وأفكاره، وردوده على الفكر التغريبي الوافد، ولا شك أن تراثه أثرى المكتبة العربية الإسلامية، وأثار حراكا فكريا شديدا حول كتاباته.

المبحث الثاني

المكون الثقافي عند السكران

تمهيد:

بعد التحول الفكري الذي حدث في حياة السكران، أصبح انطلاقه انطلاقا إسلاميا متجردا؛ حيث هاجم أي محاولة تحاول تحريف النص القرآني عن معناه، أو محاولة استبدال الوحي بآراء وأفكار أيا كان حاملها؛ ولذا فقد صار المكون الثقافي للسكران مكونا سلفيا، حيث العودة إلى فهم السلف الصالح، وتمثل هذا في مظهرين رئيسيين، هما: مركزية الوحي، والتراث التيمي.

وسنتناول كل واحد منهما بالاستقصاء والتحليل.

المطلب الأول: مركزية الوحي.

تكاد تكون هذه القضية هي التي تناولها السكران في معظم كتبه -إن لم يكن كلها-؛ حيث صارت جزءا رئيسا في مكونه الثقافي، وصارت جزءا رئيسا أيضا في اهتماماته وقضاياه الملحة، التي يتناولها دائما بالبيان والإيضاح.لذا اعتبر السكران أي طريق آخر غير القرآن لتوضيح المفاهيم عبارة عن تطويل وليس تقصير الطريق، يقول السكران: “حين أسمع بعض المفكرين الإسلاميين يتكلمون عن ضرورة مقاومة وتفنيد الأفكار الضالة الجديدة عبر دراسات فكرية موسعة؛ فلا أخفي أنني أحترم تماما حرصهم على سلامة التصورات الإسلامية من الاجتياح العلماني المعاصر.. لكنني أرتاب كثيرا في نجاعة هذا الأسلوب الذي يريدون.. وجهة نظري هذه بكل اختصار هي أن أمر الانحرافات الفكرية المعاصرة أسهل بكثير مما نتصور، فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم بالقرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم -الباحث عن الحق- كل التحريفات الفكرية المعاصرة”.[16]

فهنا يتضح مدى ارتباط السكران بمركزية الوحي، حيث يراها الطريق الأسهل والأقصر، لصناعة الشخصية المسلمة الصحيحة، وهو أنجع الأدوية لعلاج أي شبهات طارئة، أو قضايا فكرية تغريبيه معاصرة.

ولذلك فهو دائما يوجه الشباب إلى معايشة القرآن وجعله المصدر الرئيس لهم في تكوينهم الفكري، ورؤيتهم للحياة، وانطلاقهم في تقييم المواقف والأحداث؛ حيث يقول: “أعطوني ختمة واحدة بتجرد..

أعطيكم مسلماً حنيفاً سنياً سلفياً.. ودعوا عنكم خرافة الكتب الفكرية الموسعة.. ولنجعل القرآن ” أصلاً ” وغيره من الدراسات الفكرية مجرد تبع”.[17]

بل إنه خطا خطوة أخرى عندما عاب على الكتاب والعلماء زخرفة كتبهم ومقالاتهم بالنقولات والمقالات دون الاستشهاد بالوحي بشقيه القرآني والسني؛ حيث يقول السكران: “كم هو مؤلم أن يصير الإبداع في نظر كثير من المثقفين هو ألا تُكثِر من القرآن والسُنة في كتاباتك، وإنما الإبداع هو أن تحشو مقالاتك بذكر فلان وفلان من الأسماء الفرانكفونية الرنانة”.[18]

وهكذا فكل من يطالع كتب السكران يجد فيها نفَسَا تدبريا قرآنيا عجيبا، فهو يحيل الأمور والوقائع والأحداث على القرآن، ويقيسها بميزان الله، ويحسمها بالرؤية القرآنية التي ينطلق منها؛ وبذلك أصبح القرآن هو المصدر الرئيس والأساسي الذي يحتكم إليه السكران، والأمثلة على ذلك متنوعة ومتشعبة في كل كتبه، نورد منها هنا مثالا واحدا.

فعندما كثرت الأغاليط حول مكانة العلماء الماديين من غير المسلمين، وبين مكانة المسلم العادي، وهل يمكن أن يحوز المسلم الخيرية بمجرد إسلامه، رغم أنه لم يقدم أي نفع للبشرية، ويحرم من هذه الخيرية هذا العالم الذي له فضل على البشرية، بمجرد كفره؟ وضع السكران القضية على ميزان الشرع، واحتكم فيها إلى القرآن مباشرة، وخرج بنتيجة خلاصتها، ” رأيت كثيراً من التثقيفين يفاضل بين الناس على أساس معيار مادي بحت، فالكافر العالم خير من المؤمن الجاهل، والكافر الثري خير من المؤمن الفقير، وكنت أتوهم أن هذا المعيار المادي فكرة جديدة لم تنبه إليها النصوص، حتى قرأت قوله تعالى: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)”[19]

وكما كان القرآن حاضرا رئيسا في المكون الثقافي لدى إبراهيم السكران كذلك كانت السنة المطهرة، فامتلأت كتبه بالأحاديث نقلا وشرحا وتبيانا؛ ويكفي أن تطالع هوامش كتبه، ومراجعها؛ لتجد هذا الكم من دواوين السنة، حيث تجد الصحيحين، والسنن الأربعة، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وغيرهم من كتب الأحاديث المعتبرة، التي تتناثر في كل صفحات كتب السكران، وتعد معلما أساسيا، ومكونا رئيسا من مكونات ثقافته ومرجعيته. وقد تتبع الباحث كتاب (مسلكيات) للكاتب، فوجده ضم (53) حديثاً من الصحيحين فقط، دون تتبع باقي أحاديث السنن والمسانيد.

 بل وتجاوز الأمر من مجرد النقولات والشروح إلى تسخير قلمه للدفاع عن السنة المطهرة، ورد الأباطيل عنها، وإزالة الشبهات التي يحاول بثها دعاة التغريب، والعلمنة الخفية. يقول السكران -موضحا وموجها لبعض الرسائل التي دافعت عن السنة دفاعا علميا رصينا-: “الطوائف الفكرية المعاصرة ظهر فيها مذاهب طريفة حول (مصادر التلقي)، منها أن بعض هؤلاء المنتسبين للفكر المعاصر يقول: لا نأخذ إلا بما في القرآن فقط. وطائفة أخرى تقول: نأخذ القرآن والسنة التي لا تخالف القرآن، أما أي حديث نرى أنه يخالف القرآن فلا نأخذ به. وطائفة ثالثة تقول: نلتزم بالإجماع فقط، أما مسائل الخلاف فهي منطقة حرة لا يلزمنا الرجوع فيها لكتاب ولا سنة.

هذه الطوائف الثلاث سبق أن عرض لها ابن حزم بمناقشة ممتعة يقول فيها: (ونسأل قائل هذا القول الفاسد: في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث ركعات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يجتنب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار وصفة الإحرام وما يجتنب فيه، وقطع يد السارق، وصفة الرضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفة الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع وبيان الربا، والأقضية والتداعي والأيمان، والأحباس والعمرى والصدقات، وسائر أنواع الفقه؟ وإنما في القرآن جملٌ لو تُرِكنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها، وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة، قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم بكتاب المراتب، فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة.

ولو أن امرأً قال “لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن” لكان كافراً بإجماع الأمة”[20]

وهكذا نرى السكران يعتمد القرآن والسنة كمكون رئيس في منهجه الفكري، ولكنه تميز عن غيره بأن مزج في كتاباته بين الفكر والوعظ، فجاء إنتاجه غزيرا عميقا، يخاطب العقل والقلب في آن واحد.

المطلب الثاني: التراث التيمي.

إن المتتبع لكتب السكران يجد حضورا واضحا لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فلا يكاد يخلو موضوع من الموضوعات التي يتناولها الكاتب في كتبه إلا ويستدل برأي شيخ الإسلام، ويكثر من النقل عنه، فلا شك من الحضور البارز لابن تيمية في كل كتابات السكران.

وبرز هذا الأمر مع بروز فكر السكران الإسلامي، والتحول الذي حدث في حياته، بما يعني أن لشيخ الإسلام وكتاباته دور مهم في هذا التحول الفكري الذي حدث للسكران. ويمكن ملاحظة ذلك في كتابه “مآلات الخطاب المدني”؛ حيث كان بداية التحول الفكري في حياة السكران حسب ما ذكر هو وتبرأ من أي كتابات قبله، ورغم ذلك يكثر فيه السكران من المنقولات عن ابن تيمية والاستدلال بآرائه، مما يعطي مؤشراً واضحاً على دور كتب ابن تيمية في عملية التحول التي مرّ بها السكران.

وعلى سبيل المثال عندما تطرق لمناقشة قسمات الانقلاب المعياري التي أصابت العقل المسلم المعاصر، ويرد ذلك إلى غياب الأصول والكليات، مستدلاً بقول ابن تيمية: “قد أشار الإمام ابن تيمية في ملاحظة مبدعة إلى دور استكشاف الكليات والأصول في الاستيعاب والاطمئنان العلمي كما يقول رحمه الله: (فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها.., من أعظم العلوم نفعاً, إذ المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة”.[21] وفي حديث السكران عن واقع الحضارة والمدنية في سلم الأولويات عند المسلم، استدعى كلام ابن تيمية في دور الدولة في الإسلام، “وحين تكلم الإمام ابن تيمية عن “وظيفة الدولة” حسب التصور الإسلامي في كتابه “السياسة الشرعية” قدم تلخيصاً هاماً يكشف وسيلة المدنية وكونها مرتبطة بالغاية الدينية، كما يقول الإمام ابن تيمية:

فالمقصود الواجب بالولايات:

1- إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا.

2- إصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم”.[22]

وفي كتاب سلطة الثقافة وأثناء تناوله لفكرة تدجين الخطاب الإسلامي المعاصر؛ ليصبح خطابا ليبراليا بامتياز، يتوافق مع أطروحات الغرب، وقيم الغرب، ومصالح الغرب، ونظرة الغرب، فإن ذلك يكون عبر سلسلة تدجين متدرجة، ولغة هادئة، فقد استدل على هذا المعنى بقول شيخ الإسلام: “وقد وصف الإمام ابن تيمية هذا الأسلوب لأهل الأهواء بقوله: وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق؛ إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم، فان شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداءً ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة، فإنهم لا يتمكنون…، والغرض هاهنا التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل الأقرب إلى موافقة الناس، إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين”.[23]

بل من كلام ابن تيمية -رحمه الله- استنبط السكران اسم كتاب من أعظم كتبه، وهو (الماجريات)؛ حيث يقول في مدخل الكتاب: ” (فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولا سيما إذا كان طالباً ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر ماجَرَيات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى) ذكر الإمام ابن تيمية في نصه السابق من جملة ما يتسلى به محزون الخطايا ذكر “ماجَريَات” النفس والهزل واللعب، وكلمة “الماجَريَات” تعني الأحداث والوقائع والأخبار، وهي في أصل بنائها اللغوي تم توليدها بأسلوب التركيب المزجي، فأصلها من كلمتين وهما (ما) الموصولية بمعنى الذي، و(جرى) بمعنى وقع وحدث، فلما اتسع استخدامهم لها وكثر ترددها على لسانهم جُمِعت الكلمتان في كلمة واحدة، وعوملت كمفردة واحدة “ماجَرَي”، ثم أُدخِلت عليها اللواصق كألف التعريف “الماجرى”، وجمعت جمع المؤنث السالم ” الماجَريَات “، وهي من جنس كلمة الماصدقات والماورائيات والمابعد ونحوها”.[24]

ولا يقتصر التراث التيمي على الجوانب الفكرية فقط، بل حاضر في الموضوعات الإيمانية حضوره في الموضوعات الفكرية كذلك، ففي تعليقه على الحديث الذي جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعاً، لا يذكر الله فيها إلا قليلا) [مسلم:622]. يقول السكران معلقاً: “هل تصدّق أنني من شدة الحرج اكتشفت أنني أغالط نفسي بلا شعور.. وأقول في داخلي لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- علّق وصف النفاق هنا على تأخير الصلاة لآخر وقتها.. كنت كأنني استعجل وأنا أقر قوله “فنقرها أربعاً” .. كأنني أتهرب من مواجهة الحقيقة.. ثم وجدت ابن تيمية يقرصني ويقول: فبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن صلاة المنافق تشتمل على: التأخير عن الوقت الذي يؤمر بفعلها فيه، وعلى النقر الذي لا يذكر الله فيه إلا قليلا”.[25]

بل يصرح هو بقيمة التراث التيمي عنده، قائلاً: ” المراد أن من عادة المحب للعلم أن تتوق نفسه لمعرفة ترجمة وسيرة الرموز المركزيين في أي بيئة معرفية.. ولذلك تتبعت كل ما وقع بيدي من تراجم لشيخ الإسلام ابن تيمية، التراجم المفردة والضمنية، وما وجدت إلى هذه الساعة أعذب من ترجمة البزار لشيخه ابن تيمية.. ففيها وقائع وشهادات حية رواها البزار كأنك تجلس مع الشيخ.. وكم طالعت هذه الترجمة في السنة عدة مرات.. وما رويت منها بعد..”.[26]

وبهذا يتضح لنا معلمين رئيسيين من المكون الثقافي للسكران: مركزية الوحي بشقيه – التراث التيمي.

المبحث الثالث

اهتمامات السكران والقضايا الملحة (الجبهة الداخلية والخارجية).

تمهيد:

امتاز السكران بكونه ترسانة إيمانية وفكرية وسياسية لا تتوقف عن العمل، ولا تضن بالعطاء، فما بين رد سهام الفكر الغربي الوافد، وبين بناء الشخصية المسلمة المعاصرة، قضى السكران وقته، وتنوعت كتبه؛ لتمزج بين الجبهتين مزجا رصينا.

تنوعت كتبه، فتارة تأتي وعظية بطريقة لم يألفها الجيل الحالي، جمعت بين خطاب العقل والعاطفة، فجاءت كتبه مسلكيات والطريق إلى القرآن والماجريات، بمواعظ لفتت نظر الأجيال الحالية، ووجد فيها بغيته، من تدفق المشاعر، وحرارة الإيمان، ويقظة القلب، وخطاب العقل، وعذوبة اللغة.

ثم تأتي كتبه الأخرى، مثل: التأويل الحداثي للتراث، ومآلات الخطاب المدني، وسلطة الثقافة الغالبة؛ ليصدوا هجمات الفكر الغربي الوافد، بطريقة لم يعهدها الحداثيين من قبل؛ “حيث عمد السكران إلى أسلوب “براغماتي” في توظيف العلوم الاجتماعية لنقد الحداثيين العرب، وهو ما لم يألفه الإسلاميون والحداثيون من قبل في السجال الفكري. وجعل السكران مرد القول والرفض للأفكار الحداثية هو الرؤية التي ينشرها القرآن”.[27]

وبذلك كان للسكران دور واضح في العمل على الجبهتين الداخلية والخارجية، كما سنبين.

المطلب الأول: الجبهة الداخلية.

ويمكن تسميتها جبهة بناء الإنسان المسلم المعاصر، وانطلق السكران اتجاه بناء الجبهة الداخلية، عبر العديد من كتاباته، والذي صاغ فيها المفاهيم الإسلامية عبر لغة عذبة. استطاع بها أن يجيش عاطفة المسلم اتجاه دينه، وأن يلهب ظهره بسوط المواعظ الإيمانية، دون أن تتجه منه البوصلة ناحية الجفاف الروحي، أو كثرة التعقيدات، أو الإسهاب المفرط، أو الإغراق في المصطلحات الإنشائية.

جاءت مواعظ السكران لتبني الشخصية المسلمة الجادة، فكانت الانطلاقة من كتابه “الماجريات”؛ حيث وضع يده على مرض مزمن، وظاهرة متفشية، تضعف من البناء المعرفي الحقيقي، والاستثمار الأمثل للوقت في أوساط الشباب بشكل عام، وطلبة العلم بشكل خاص.

فقد استفتح المؤلف كتابه “الماجريات” بقصة مكرورة..

قصة طالب علم أراد البدء في بحثه العلمي، حيث جلس بعد صلاة المغرب مخصصاً هذا الوقت للبحث، محضراً مراجعه وأوراقه وأقلامه وحاسوبه.

وقبل أن يبدأ..

حانت منه التفاتة إلى جواله، ففتح أحد برامج التواصل، ثم انساق شيئاً فشيئاً ولم ينتبه لنفسه إلا والمؤذن ينادي لصلاة العشاء، فإذا هو لم يصنع في بحثه شيئاً قط.

ويشير في ألمٍ واضح إلى هذه الظاهرة وأثرها بقوله: “بكل صراحة لا شيء يهرش الكَدَر ويكبس الغمّ على نفسي مثل أن أرى شاباً كان للتو قد ثنى رجليه على متون العلم أو لبس نظارته للثقافة الجادة؛ ثم انتحى يهريق عمره يتتبّع المهاترات الفكرية والتيارية ومماحكات القضايا الصغيرة على الشبكة، يطارد تعليقات سوقيّة بليدة بعد أن كان يتقفر العلم الشريف، وبعد أن كان يشح بوقته على أمور مشروعة صار يجود بزهرة شبابه على اللغو الشبكي، بل كان هذا الشاب نفسه قبل مدة قريبة يسأل بحرقة كيف يتعامل مع الولائم الاجتماعية والاجتماعات العائلية والأسرية بحيث لا تأخذ من وقته لطلب العلم، برغم أن تلك الاجتماعات العائلية إما بر بالولدين أو صلة للرحم، ومع ذلك كان حينها كاسف البال متحيّراً بسبب فوران همته للعلم، واليوم… يريق تلك الساعات التي ضنّ بها على صلة رحم في ملاحقة تُرّهات شبكية، نقرها عابثُ مستلقٍ على ظهره ذات مساء طبولي…

ومن عجائب ابن آدم أنه قد يتذمر من ضيق الوقت، وينوح من الالتزامات والانشغالات؛ ثم إذا خلا بنفسه أطعم وقته مسبعة الماجَريَات”[28].

وبدأ في علاج هذه الظاهرة بخبرة الحكيم، وتجربة الطبيب، ومرونة الحاذق..

فوضع قواعد خمسة، بين من خلالها أنه لا إفراط ولا تفريط، وهي:

1- التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع.

2- التمييز بين المتابعة المتفرجة والمتابعة المنتجة.

3- التمييز بين المتابعة زمن التحصيل والمتابعة زمن العطاء.

4- التمييز بين توظيف الآلة، والارتهان للآلة.

5- التمييز بين فصل السياسة عن الدين وبين مرتبة السياسة.

ومن خلال هذه القواعد الخمسة، بدأ السكران حصار المشكلة، ثم بدأ في تشريح أسبابها، وبيان أنواعها، ثم وضع الخطوط العملية الرئيسة في التعامل مع الزمن؛ حيث يقول: “يعبر الناس عن الزمن بوحدات كثيرة كالأيام والساعات والدقائق الخ، ومن ألطف تلك الألقاب ما روي من التعبير عن الزمن ب “الأنفاس وهذا التعبير عن الوقت بالأنفاس نافقٌ في مدونات السلوك، بحيث ينظر لكل نفَسٍ من الأنفاس باعتباره وحدة عُمريّة كاملة، كما قال شمس الدين ابن القيم رحمة الله (الأوقات تعد بالأنفاس)”.[29]

ثم بعد هذه الملهبة العاطفية، يضع العلاج عن طريق النمذجة، وهي من “أكثر السلوكيات التي يتعلمها الإنسان، وتتم من خلال ملاحظتها عند الآخرين، والتعلم بالملاحظة يحدث عفوياً في أغلب الأحيان، فالنمذجة إذن عملية حتمية”.[30] وهذه النمذجة ودورها في التربية والارتقاء، سبق إليها القرآن في آية قصيرة، وهي قوله تعالى: ” لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”.[31] فوضع نماذج فذة للتأسي ما بين عالم وكاتب ومجاهد وداعبة ومصلح.

ولهذا الموضوعع أولوية خاصة في فكر السكران، فدائما يوجه لفكرة استثمار العمر، خاصة فترة الشباب، أو كما يسميها هو في مسلكياته –تعليقا على مسوف الأعمال-: “حتى طوَّحَ به العُمرُ خارجَ المَوسِمِ الذهبيِّ للإنتاجِ”[32] فهو يعتبر مرحلة الشباب مرحلة (الموسم الذهبي) للتحصيل، ودائما ما يوجه الشباب إلى بذل الوقت وتحصيل العلم في هذه الفترة الذهبية، “ما أكثر ما رأيتُ عالماً شاباً بزّ أقرانه يتدفق بالأسانيد والمسائل، أو رأيت عملاً علمياً رصيناً صار أصلاً في بابه.. إلا قلت في نفسي: رحم الله يحي بن أبي كثير حين قال (لا يستطاع العلم براحة الجسم)”.[33] فبناء الجبهة الداخلية عنده تبدأ بإحاطة الإنسان بعمره، وحصاره لملهيات الحياة، ودائما يوجه إلى هذا المعنى وبكثرة: “سل من شئت من أهل العلم المبدعين، ونقّب في السيرة الذاتية لمن يأسرك تدفقه بالعلوم.. وستجد في كل هذه الشخصيات أن المتضرر الأكبر في حياتهم هو النوم والطعام والشراب والترفيه”[34] ومنها ينطلق للبناء العلمي الجاد. فهو يرى العلم مفتاح البناء الصحيح للشخصية المسلم: “وتضمن هذا النموذج عند الشيخ عنصرين: العنصر الأول هو أن المراحل العمرية الأولى لطالب العلم يجب تركيز الجهد فيها على البناء العلمي، وعدم مزاحمته بمتابعة الماجريات السياسية …”[35] ومن البناء العلمي الواعي ينطلق المسلم في المجالات التعبدية، فنجده يعطي أولوية أولى لمسائل التزكية، ونرى في كتبه لمسة رقائق متزنة، حيث يعطي أهمية للعبادة ومكانتها، انطلاقا من مكونه الثقافي القرآني والسني، فهو يرى مكانة العبادة وقيمتها برؤية الميزان الشرعي لها، فمثلاً يعطي لقيمة الذكر مكانة كبرى في كتاباته، وهذا نابع من مكونه الثقافي؛ حيث يقول: “وثمة بعد آخر في منزلة هذه الوصية وهي أن إبراهيم الخليل –صلى الله عليه وآله وسلم- رجلٌ ارتحل الآن إلى ربه .. وهو الآن أخبر ما يكون بأنفع شيء لمن لم يمت بعد .. فتخيل أن رجلاً ذهب إلى الله، ثم يرسل لك وصية بعد أن انتقل عن الدنيا؟ فكيف ستكون أهمية وصيته؟ فهذا إبراهيم أعلم الناس بالله بعد نبينا يرسل لنا وصيةً بعد موته وارتحاله عن هذه الدنيا.. إنها وصية قادمة من رجل سبقنا في الرحلة إلى المستقبل الأبدي.. فكأنها وصية قادمة من المستقبل الذي سنؤول إليه..”[36] ثم يؤكد هذا الأمر بقوله: “النهضة والتقدم والتطور والرقي في ميزان الأنبياء يختلف كثيراً عن الموازين المادية المعاصرة”.[37] فهنا يؤكد على ميزان الشرع في قياس الإنسان، وقيمة الأعمال، وحقيقة النهضة والتطور والرقي. وهكذا يفعل مع باقي العبادات، كالصلاة، وبر الوالدين، والحياة مع القرآن.. حتى أنه أخرج ثلاثة كتب قرآنية: الطريق إلى القرآن، رقائق القرآن، مجموع نسائم القرآن. وكلهم فيها لمسة روحانية إيمانية، تنعش القلب، وتخاطب العقل في آن واحد.

وبذلك يظهر أثر ومدى اهتمام السكران بالبناء التعبدي الإيماني العلمي الأخلاقي للشخصية المسلمة المعاصرة.

المطلب الثاني: الجبهة الخارجية.

وكما انطلق السكران في بيان دور المسلم في بناء شخصيته المسلمة المعاصرة، انطلق في الدفاع عن الجبهة الخارجية للأمة، والوقوف أمام الغزو الفكري، ومحاربة الفكر الغربي الوافد، وكان في هذا الأمر فارس الميدان، فقد نازلهم بسلاحهم، ورماهم بدائهم، فكانت لكتبه الفكرية أثرها العميق في إعادة صبغ الروح الإسلامية بصبغ العز والكرامة، وعدم الاستسلام للهزيمة النفسية التي غزت قلوب الكثيرين.

وقد تناول السكران في كتبه الفكرية الكثير من القضايا الشائكة، وفتح ملفات العديد من الأمور المتشابكة، فناقش في كتبه مسائل الحضارة، وأنسنة الوحي، والقراءة المدنية للتراث، وأثر المدرسة الفرانكفونية، وجوهر الاستخلاف، ووظيفة الإنسان، ودور المدنية.

وقد أجاد في عرض هذه المواضيع على الوحي، وجعله هو الحكم عليها، فجعل القرآن والسنة متبوعين لا تابعين. وظهرت ثقافة الرجل التراثية، وتمكنه من الثقافة الغربية الحديثة.

فعندما تناول موضوع الحضارة برؤية إسلامية، ووضعها على ميزان الإسلام، أجاد في الإحاطة بالموضوع، ولم يتسلم إلى الطرح الإسلامي الموجود والذي يحاول تطويع الشريعة لقيم الغرب ومبادئه.

فعندما ناقش مسألة الحضارة، رفض الانطلاقة الموجودة، وهي تطويع النصوص لتوافق الحضارة الغربية بمنجزاتها: “يدعو كثير من منتجي هذا الخطاب إلى قراءة “نصوص الوحي” ونصوص “التراث الإسلامي” قراءة مدنية, بمعنى قراءة “موجهة” تبحث داخل هذه النصوص عن أية مضامين تدعم “المدنية” ثم تؤَوِّل ما يتعارض معها, وتصبح فرادة الفقيه داخل هذا الاتجاه تابعة لقدرته في توفير الغطاء الشرعي لمنتجات الحضارة وبحسب إمكانياته في تأويل ما يتعارض معها وتخريجه بشتى المخارج, بدل أن تكون الدعوة إلى قراءة الوحي قراءة “صادقة” تتجرد للبحث الدقيق عن المراد الإلهي!”.[38] فهو يرفض هذه الانطلاقة، ويراها تحويل الإسلام عن دوره الحاكم في الحياة ليقوم بدور المدافع والمبرر، “تحويل الوحي من “حاكم على الحضارة” إلى مجرد “محام عن منتجاتها” يبررها ويرافع عنها ولا يُقبل منه دور غير ذلك! وليس يخفى أن الحكم نوع من السيادة، أما المحاماة عن الغير فحالة تبع يقاس نجاحها بإمكانيات التبرير والتسويغ.”[39] فكان الانطلاق كما يراه السكران أن الوحي حاكم غير محكوم، تابع غير متبوع، وأن الانطلاق من غير هذا المنطلق هو سبب رئيس في هذه الرؤى التي شاعت، ورُوج لها حتى بين الإسلاميين وعلماء الشريعة، وما يمكن تسميته: “غائية الحضارة” و “مركزية المدنية”.[40] ويرى السكران أن هذا الغلو في المدنية هو سبب رئيس في نظرة الشباب بريبة وحيرة نحو تراثهم الإسلامي؛ “فيمكن القول بكل اختصار أن “الغلو المدني” ينبوع الانحراف الثقافي، حيث يستتبع التحييد العملي للوحي لأنه لا يدفع باتجاه المدنية الدنيوية، ويتعارض مع كثير من منتجاتها، ويورث الاستخفاف بالتراث الإسلامي لتضمنه جهاز مفاهيمي شرعي يزهد في الدنيا ويربط الإنسان بالآخرة، ويثمر لدى الشاب تعظيماً نفسياً للثقافة الغربية الحديثة لتفوقها المدني على غيرها من الأمم المعاصرة، فيصبح مأخوذاً بعرض منجزاتها، ويتضايق من عرض ثغرات الثقافة الغربية ويميل لتفهمها وإعطائها معنى إيجابيا أو محايداً على الأقل وتسويغها في جنب محاسنها”.[41]ويرجع السكران هذا الفكر الغربي الحداثي، إلى ما أحدثته المدرسة الفرانكفونية في العقل المسلم المعاصر، ويبين أثر الفكر الفرانكفوني على الشاب المسلم المعاصر، ويبين كيف جعله يفقد توازنه، ويحدث له صدمة ثقافية، أدخلته في دائرة من الحيرة والربكة، “هذه الشريحة من الشباب الإسلامي اصطدمت في مقاعد المدرسة الفرانكفونية / المغاربية بـ “سؤال الحضارة”، وبات من نافل القول أن نشير إلى أن الصدمة كانت قاسية وشرسة جداً، لدرجة إحداث ارتجاجات فكرية وفقدان للتماسك الثقافي لدى كثير من هؤلاء القراء.

هذه الشريحة الشبابية -ذات الخلفية الدعوية الإسلامية- حاولت بادئ الأمر أن تقدم إجابة عن “سؤال الحضارة” ترضي الطرفين فتتلافى الاصطدام بانتمائها العميق الذي يشدها، وتتودد للذوق الفكري الذي تقرأ له بعد أن خضعت لسطوة خطابه، لكنها قبل أن تجيب فكرت كما يفكر خصمها وتبنت منطلقاته”.[42] ويرفض السكران هذا المنطلق تماما، ويرفض فكرة سؤال الحضارة ثم تأويل النصوص للتوافق مع إجابة هذا السؤال، بل يطرح سؤال وظيفة الإنسان، ومن خلاله يبدأ الإجابة عن مكانة الحضارة، ودور المدنية، في سلم الأولويات الإسلامي.

فيبين السكران: “ما هي وظيفة الإنسان؟ هذا هو السؤال/المدخل الذي تعود إليه الاختلافات الجوهرية للاتجاهات الفكرية كما سبق أن أشرنا، وهناك اتجاهان رئيسيان في الجواب على هذا السؤال:

أولهما هو “الاتجاه المدني” ويرى أن وظيفة خلق الإنسان هي “العمارة” وكل ما سوى ذلك وسيلة لها،  فالوحي والشرائع والعبادات إنما هي وسائل لتحقيق العمارة والحضارة والمدنية, فالعمارة هي الغاية الجوهرية والأولوية الرئيسية للإنسان…

أما الاتجاه الثاني وهو “الاتجاه الشرعي” فيرى أن وظيفة الإنسان هي “العبودية” بمعنى أن الله خلق الإنسان وأرسل الرسل وأنزل الكتب لتدل الناس على الله وعبادته، وبيان دقائق ما ينبغي له سبحانه وما لا ينبغي في معاملته جل وعلا… فالعمارة والحضارة والمدنية مجرد وسيلة لإظهار الدين وإقامة الشعائر والشرائع”[43].

ويبدأ يدلل على هذه النتيجة، من خلال مكونه الثقافي، فتارة يأتي بالأدلة القرآنية، وتارة بالأحاديث النبوية، ويقدم الدليل تلو الدليل، ويعطي البراهين الساطعة على صحة ما يقول، “والحقيقة أن كتاب الله سبحانه وتعالى لم يجعل هذه القضية عائمة أو محتملة أو نسبية, بل حسمها بشكل يقيني واضح صريح وكشف الغاية من خلق الإنسان بلغة حاصرة فقال سبحانه وتعالى:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]

وبين سبحانه أنه إنما بدأ خلق الإنسان في هذه الدنيا ثم بعثه بعد موته ليحاسبه على هذه الغاية وهي القيام بالعبودية كما قال سبحانه:

(إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) [يونس:4]”.[44]

بل ويحرص على توجيه صفعة قوية في وجه من يحاولون ترويج غائية الحضارة، حرصا على تقبل الذوق الغربي للإسلام؛ فيقول: “بكل وضوح وصراحة، وبلا مجاملة ولا مداورة ولا التفاف.. “الحضارة” بالمعنى الشائع -والتي هي العلوم المدنية الدنيوية لخلق الرفاه البشري- هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي، وليست الغاية ولا الأولوية الرئيسية أو القضية المركزية كما نحب أن نتظاهر بذلك…”.[45] ويتعجب السكران من محاولة قلب هرم الاهتمام القرآني، رغم الوضوح والجلاء الذي تمتع به النص القرآني في التعامل مع مسألة الدنيا والآخرة، “لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس “مركزية الآخرة” في مقابل “مركزية الدنيا”، هذا الأمر واضح في القرآن بشكل يخجلنا أن نورد شواهده، ولكننا كثيراً ما نحب أن نتجاهل ذلك، ونتعسف في قلب هرم الاهتمامات القرآني.”[46]

لم يتأثر السكران بما هو شائع، ولكن رد الأمور إلى الوحي، وأظهر ما توصل إليه من نتائج، وما وضح له من نصوص، كثرت حتى لا تحتاج إلى تبرير لإثبات هذه الحقيقة التي يتغافل عنها البعض، بقصد أو بغير قصد.

بل إن القرآن عالج الأمر، وأشار إلى آثاره التاريخية، وحلل أسباب هلاك الأمم السابقة، فرد الأمر إلى الانشغال بالمنجز الدنيوي، والغفلة عن المنتج الأخروي، “ويكشف الوحي في مواضع متعددة عن قانون الانحراف في التاريخ، حيث يكاد القرآن أن يربط كل مظهر من مظاهر الخلل العقدي والأخلاقي به، ألا وهو “الانبهار بالمظاهر المادية” وتعظيمها وامتلاء القلب بالتعلق بها، وتأمل في واقع الناس اليوم وستجد دقة هذا الناموس القرآني، حيث تكاد أن تجد كل “ضلال فكري” أو “انحراف سلوكي” إنما منشؤه تعظيم الدنيا، كما في قوله تعالى: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ) [القيامة:20-21]

ولذلك كثرت موازنة القرآن بين المنجز الدنيوي والمنجز الأخروي, كقوله تعالى: (أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [القصص:61]”.[47]

ولا يكتفي السكران بما أورد من أدلة قرآنية واضحة المعالم والدلالات، بل يستنبط من السنة النبوية، موقف الأنبياء من المنجزات الحضارية، ويجعلها ردا على سؤال الشباب الحائر، ما موقفنا الشرعي من الحضارة الغربية الحديثة؟، فيجيب: “والحقيقة أن من تأمل وتدبر صادقاً متجرداً تعامل الأنبياء مع المنجزات الحضارية ومخزون العلوم والفنون المدنية في عصورهم انكشف له منهج التعامل الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى لنا في موقفنا تجاه الحضارة المعاصرة، وهذا الموضع تسكب عنده العبرات، وهو كافٍ بذاته للدلالة على المقصود، ويغني عن كل تفاصيل هذه المقالة برمتها.

فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وفي عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم: الرومانية والفارسية والهندية والصينية… ومع ذلك كله فإن الله سبحانه وتعالى لما بعث نبيه في جزيرة العرب لم يبعثه ليقول للناس: يا معشر العرب أنتم تعانون من التخلف المدني ويجب عليكم أن تتجاوزوا جفوة عروبتكم وتتعلموا من الأمم المتقدمة، ولم يقل لهم: يجب عليكم أولاً أن تقفوا موقف التلميذ أمام علوم المنطق والطب والفلك والفلسفة ….

بل إن الله أخبر نبيه بعكس ذلك تماماً، كما روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:

(إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك). فمع كل ما يوجد على هذه الأرض من العلوم المدنية والفلاسفة والأدباء فإنهم لا وزن لهم في ميزان الله سبحانه وتعالى سواء في ذلك عربهم وعجمهم، ولم يستثن إلا طائفة قليلة من الناس بسبب ما كان لديهم من بقايا النبوات وبعض من أثارة الوحي.”[48] أي أن الاستثناء الذي قبله الله، هو نور وحي تبقى مع أهل الكتاب من كتبهم المحرفة. ثم يؤكد كلامه من التراث التيمي قائلا: “والى هذا التنوير المستمد من الوحي أشار الامام ابن تيمية في قوله:

(وعند المسلمين من “العلوم الإلهية” الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نورا وهدى)”.[49]

وبعد هذا العرض المليء بالحجج والبراهين، يبين السكران موقف المسلم المعاصر من الحضارة الحديثة، استنبطها من موقف الإسلاميين، وبناها على ركائز ثلاثة:

“الركيزة الأولى: التمييز بين الحضارة كغاية والحضارة كوسيلة.”[50] وقد أوضحه السكران تفصيلا فيما سبق، ومنه انطلق إلى الركيزة الثانية والتي تمثلت في :”التمييز بين الوجه العلمي والفلسفي والسياسي”[51] وبدأ في تفصيل كل وجه من هذه الوجوه، وبين التعامل مع كل مفردة منها على حدة، “فأما الوجه الأول فهو “الوجه العلمي” المحض بما يدخل فيه من منتجات تجريبية وعلوم طبيعية وتصنيع وتكنولوجيا … فهذه حكمة مشتركة، وصواب الفكر الغربي فيها أكثر من ضلاله… وأما الوجه الثاني فهو “الوجه الفلسفي” للحضارة الغربية بما يتضمنه من تصورات عن الأسئلة الأنطولوجية والإكسيولوجية والإبستمولوجية وما بعدها من حقول الفلسفة الكبرى، كحقيقة الحياة، ومفهوم السعادة، ووظيفة الدنيا… فهذا الوجه ضلال الفكر الغربي فيه أكثر من صوابه…

وأما الوجه الثالث فهو “الوجه السياسي” للحضارة الغربية وهو الوجه الكالح بكل معنى الكلمة، فالمؤسسة السياسية الغربية مؤسسة إمبريالية استعمارية تمتص ثروات الأمم الأخرى، وليس لديها أية حواجز أخلاقية أمام مصالحها، فهي ديمقراطية شفافة في السياسة الداخلية، ديكتاتورية معتمة في السياسة الخارجية.”[52] وبعد هذا البيان التفصيلي، ينتقل إلى الركيزة الثالثة في التعاطي مع الحضارة الغربية وهي “التمييز بين الانتفاع والانبهار”[53] وهذه النقطة دائما ما يعمل على صدها السكران بكل الطرق، ولا يكاد يخلو كتاب من كتاباته إلا ويشير إلى نقطة تميز الأمة، واستعلائها بما معها من نور الوحي الإلهي، وقد وضح هذا المعنى في سلطة الثقافة، حيث بين أنه لابد أن يتخلص المسلم من الشعور ب -مركب النقص- والهزيمة النفسية، حتى لا يتأثر بسلطة الثقافة الغالبة، وأشار لأبي الأعلى المودودي وكتاباته في نقد الحضارة الغربية ونظام الحياة الغربي في مجلته ترجمان القرآن، وبين أنها لعبت دور كبير في إعادة الثقة للكثيرين.

وبهذا المنطق ناقش السكران مسألة الحضارة، بهذا القلم السيال، والحجة الواضحة، وكذلك ناقش الكثير والكثير من الأفكار الغربية الوافدة، بنفس الجرأة، ومن خلال نفس المنطلقات الفكرية السابقة.

الخاتمة

ها قد وصلنا إلى خاتمة دراستنا، وإن كانت كتب السكران ما زالت معيناً لا ينضب، لمن أراد أن يستزيد منها بحثا ودراسة واستقصاء، وبعد هذه الجولات في الكتب الستة للسكران، خرج الباحث بمجموعة نتائج وتوصيات ومقترحات، يطرحهم بين أيدي القارئ:

النتائج:

استطاع الباحث الوصول إلى هذه النتائج من خلال بحثه في كتب الشيخ السكران:

1- استطاع الشيخ السكران أن يحدث خللا للمدرسة الحداثية وخطابها التغريبي، بما يحمله من تراث شرعي، وعلوم إنسانية واجتماعية، واطلاع على المصادر الأجنبية والنقل منها.

2- للقرآن الكريم والسنة المطهرة وتراث السلف الصالح حضور قوي وبارز في كتابات السكران، وجعل الشيخ من أساسيات الخطاب الإسلامي المتمثلة في (التوحيد – التزكية – الاتباع – الشريعة – العبادة) أولوية في خطابه، مع تأخير وليس إهدار الخطاب الحضاري العمراني المدني.

3- جعل السكران من مركزية الوحي منطلقا له، وجعل الوحي حاكما لا محكوما، ومتبوعا لا تابعا.

4- خلط الشيخ –أحيانا- بين ما هو اعتقادي لا مجال للنقاش فيه وبين ما هو فقهي يقبل النقاش والاجتهاد.

التوصيات:

وبعدما توصل إليه الباحث من نتائج، فإنه يوصي بـ:

1- ربط العلوم الإنسانية والاجتماعية بالعلوم الشرعية في المدارس والجامعات الإسلامية.

2- يجب إعداد دورات لتربية الأجيال على المفاهيم القرآنية الكبرى، وكيف أبطلت شبهات الخصوم، مع تربية الجيل على فهم سلم الأولويات، وخطورة تأخير أو تقديم الخطاب الرباني حسب الأهواء، أو السلطة الغالبة، أو الرضا بالأمر الواقع.

3- تبني الجامعات الإسلامية فكرة مركزية الوحي في مناهجها، لتكون المنطلق في إبطال شبهات خصوم الإسلام، دون تحرج من هذه المركزية وقيمتها في الحياة.

4- تتبع كتب الشيخ السكران بالتدقيق العلمي النزيه لتوضيح الثوابت (التي لا تقبل اجتهاد) والمتغيرات (التي تقبل الاجتهاد) فيها.

المقترحات:

ويقترح الباحث عدة مقترحات لعناوين أبحاث؛ لعلها تجد دارسين يقومون بها:

1- مركزية الوحي في كتب الشيخ السكران.

2- الحضارة والمدنية في فكر إبراهيم السكران.

3- أثر تعلم العلوم الإنسانية والاجتماعية على ردود السكران في دحض حجج خصوم الإسلام.

4- حصر مسائل الخلاف التي أدخلها السكران في دائرة الثوابت.

5- علاج الانهزامية النفسية أمام حضارة الغرب (كتب السكران نموذجا).

المراجع:

أولاً الكتب:

1- القرآن الكريم.

2- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (2004). المقدمة، ت: عبدالله محمد الدرويش، ط1، دمشق: دار يعرب.

3- السكران، إبراهيم (2014). مآلات الخطاب المدني، ط1، مركز تفكر للبحوث والدراسات.

4- السكران، إبراهيم (2014). سلطة الثقافة الغالبة، ط1، الرياض: دار الحضارة.

5- السكران، إبراهيم ( د.ت ). الطريق إلى القرآن، د.ط، الكتيبات الإسلامية.

6- السكران، إبراهيم ( د.ت ). مجموع نسائم القرآن، د.ط.

7- السكران، إبراهيم (2015). الماجريات، ط2، الرياض: دار الحضارة.

8- السكران، إبراهيم (2014). مسلكيات، ط1، الرياض: دار الحضارة.

9- الشيخ، تاج السر، وأخرس، نائل محمد عبد الرحمن. (2011م). علم النفس التربوي بين المفهوم والنظرية، ط2، الرياض: مكتبة الرشد.

10- عليان، ربحي مصطفى، البحث العلمي، بيت الأفكار الدولية، ط ( 1 )، 2001م.

ثانياً المواقع الإلكترونية:

1- شاكر، أحمد (22 / 6 / 2017). إبراهيم السكرتن السجين القرآني. تم الاطلاع عليه في 9/12/2019م. رابط الموقع: https://www.ida2at.com

2- فتوح، محمد (25 / 7 / 2018 ). إبراهيم السكران الليبرالي الذي تحول إلى متدين فسجنه بن سلمان. تم الاطلاع 6/ 12/ 2019. رابط الموقع: https://midan.aljazeera.net

3- محمود، منار (21 /8/ 2019). أفضل مؤلفات إبراهيم السكران. تم الاطلاع 9/ 12 / 2019. رابط الموقع: https://www.kutub-pdf.net

4- السكران، إبراهيم (  ). توضيح بشأن ماكتبته قبل ورقة المآلات. تم الاطلاع: 7/12 / 2019م. رابط الموقع: https://www.saaid.net

5- العجيري عبدالله (19/ 3 / 2017) . مركزية القرآن الكريم في السجال الفكري المعاصر (مرئية). تم الاطلاع: 9/ 12 / 2019. رابط الموقع: https://www.youtube.com

6- السكران، إبراهيم (1431 هـ). مناقشة حزمية لبعض الطوائف الفكرية. تم الاطلاع: 9/ 12/ 2019م. رابط الموقع: https://ak67.net/ibrahim-alsakran/1386/

7- عديل، حنين (2019). ما هو المنهج الاستقرائي. تم الاطلاع 14 / 12 / 2019م. رابط الموقع: https://mawdoo3.com

([1]) السكران، 2014 ،ص 19.

([2]) عديل، حنين، 2019.

([3]) عليان، ص47

([4]) شاكر، أحمد، 2017

([5]) ويكبيديا، 2018

([6]) شاكر، أحمد، 2017

([7]) المرجع السابق.

([8]) فتوح، محمد، 2018

([9]) المرجع السابق.

([10]) السكران، إبراهيم (23  ).

([11]) العجيري عبدالله، 2017

([12]) فتوح، محمد، 2018

([13]) المرجع السابق.

([14]) ابن خلدون، 2004، ص 283

([15]) المرجع السابق

([16]) السكران، (  ). ص47

([17]) المصدر السابق، ص 53

([18]) السكران، ، ص284

([19]) السكران، 1433 هـ، ص27

([20]) السكران، إبراهيم، 1431هـ

([21]) السكران، 2014، ص23

([22]) السكران، 2014، ص 52

([23]) السكران، 2014، ص 19

([24]) السكران، 2015، ص38

([25]) السكران، 2014، ص132

([26]) المرجع السابق، ص110

([27]) فتوح، محمد، 2018

([28]) السكران، 2015، ص69 – 70

([29]) المرجع السابق، ص324

([30]) الشيخ  وأخرس ،2011م، ص237

([31]) الأحزاب، 21

([32]) السكران، 2014، ص31

([33]) المرجع السابق، ص 16

([34]) المرجع السابق، ص 13

([35]) السكران، 2015، ص 124

([36]) السكران، 2014، ص100

([37]) المرجع السابق، ص104

([38]) السكران، 2014، ص14

([39]) المرجع السابق، ص14

[40] المرجع السابق، ص25

([41]) المرجع السابق، ص25

([42]) المصدر السابق، ص31

([43]) المرجع السابق، ص51 – 52

([44]) المرجع السابق، ص 54

([45]) المرجع السابق، ص 56

([46]) المرجع السابق، ص58

([47]) المرجع السابق، ص59

([48]) المرجع السابق، ص63 – 65

([49]) المرجع السابق، ص66

([50]) المرجع السابق، ص 97

([51]) المرجع السابق، ص98

([52]) المرجع السابق، ص 98 – 111

([53]) المرجع السابق، ص111

المصدر: أكاديمية الرواد الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى