كتب وبحوث

المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 3

المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 3

إعداد أكرم حجازي

باختصار: من أين جاءت الرافضة بدينها؟

ابن سبأ و« السبئية»

    ما فعله ابن سبأ في الإسلام هو عين ما فعله ابن ملته « بولس» في « النصرانية» حين دخل فيها، وشرع في تحريفها من الداخل، وهدمها ليأتي بدين جديد! فلنبدأ، إذن، بشخصية بولس كي نتعرف على الطريقة التي تَنصَّر فيها، وما أحدثه في « النصرانية» من تحريفات مريعة.

أولا: شخصية بولس

    ولد بولس لأبوين يهوديين متشددين في السنة الرابعة للميلاد في مدينة طرسوس* في آسيا الصغرى أو ما كان يسمى بتركيا القديمة. ودرسه والده الناموس ( الشريعة). وبحسب المؤرخين النصارى فقد تَنصَّر فجأة، ودون أية مقدمات، بل تَنصَّر خلال مهمة يهودية أُرسل بموجبها من حاخامات اليهود في القدس إلى دمشق للتواصل مع حاخاماتها، واستعادة اليهود الذين تَنصَّروا وهربوا إليها!!! لكن في الطريق، وبحسب كتاب « أعمال الرسل»، أُبرق حول بولس وجنوده نور من السماء، فسقط على الأرض، وسمع صوت يسوع يدعوه للإيمان. وفي ( الأعمال 9 )، بقليل من التصرف، أن « الرجال الذين كانوا مع شاول ( بولس) وقفوا صامتين يسمعون الصوت ولم يروا شيئا. أما الصوت فقد أمره أن يدخل دمشق، حيث سيعرف ما يفعله. وظل هناك أعمى ثلاثة أيام». وفي ( الأعمال 26) أيضا: « من لمعان النور سقط شاول على الأرض هو وجميع من معه، وأمره الصوت» قائلا: « الآن أرسلك إلى الشعب لتفتح عيونهم ليرجعوا إلى الله»! وبعد ثلاثة أيام جاءه تلميذ اسمه حنانيا، وصلى عليه فشفاه، وتم تعميده ( تنصيره )، فخرج في الحال يبشر بدين المسيحية، ويطوف على معابد اليهود في دمشق!!!

   بعيدا عن التخريفات والتناقضات والروايات المختلقة التي يأتي بها في ( أعمال الرسل)، دون أي شاهد عليها أو دليل من كتاب سماوي، أعلن بولس تَنصُّره، وتلقيه للوحي. يحدث هذا الَّنَصُّر بينما هو (1) من المفروض أنه في مهمة كهنوتية حظي بثقة الحاخامية لتنفيذها! و (2) في الوقت الذي اشتهر فيه بعدائه وعنفه الشديدين ضد « النصرانية» والنصارى الذين كان يعذبهم ويضطهدهم بقسوة! و (3) في الوقت الذي لم يشاهد فيه المسيح أو يقابله ولو لمرة واحدة في حياته، إلا حين تجلى له في الطريق بعد رفعه بحسب زعمه! وفي (4) الوقت الذي لم يكن فيه شاهدا على الأحداث، و (5) ليس حواريا. بل أن كل ما حظي به بولس، بعد تنصره وليس قبله، أنه قابل برنابا، أحد الحواريين الاثنى عشر للمسيح. ونشط في التبشير، لينتهى به المطاف إلى كتابة 14 سفرا من أصل 27 سفرا!

     ومن أهم تحريفاته القول بأن: (1) المسيح ابن الله، وأن (2) الله هو مجموع أرواح البشر وأجسادهم، و (3) المسيحية دين عالمي وليس خاصاً ببني إسرائيل، وأن (4) عيسى صُلب تكفيراً لخطايا البشر ( عقيدة الفداء)، وأن (5) قيامة عيسى u من الأموات وأنه صعد وجلس عن يمين الله، وأنه (6) تلقى الرسالة من المسيح وهو ذاهب إلى دمشق، وأنه جاء (7) لينقض الناموس، ويعلن كل (8) من يتبع شريعة موسى u مرتدا، باعتبارها تعاليم شيطانية، مضلة وعجائزية بالية، وأنها خرافات دنسة ونجسة، وأنه (9) يستعلي على الله، و (10) بالعنصرية على غير قومه، و (11) ويحل ويحرم ما يشاء، وهو (12) أول من أوجد كلمة المسيح، و (13) وأول من أسس النظام الكهنوتي في الكنيسة بمراتبه الدينية، واستبدل الشيخ بالأسقف، وأول من (14) شجع على الرهبنة كما في النظام اليهودي[1].. بل أنه لم يترك شاردة أو واردة في « النصرانية» إلا وقع عليها وأولها أو زعمها أو حرفها. وفي النهاية مـات مقتولا في روما في زمن الإمبراطور نيرون سنة 65 أو 66م . ورغم كل التحريف الذي أحدثه في « النصرانية» إلى الحد الذي اعتبره الكثيرون من المفكرين واللاهوتيين مؤسس « النصرانية» الوثنية الجديدة إلا أن الإمبراطور قسطنطين، صاحب مجمع نيقية، اعترف بدعوته، وتبني رسميا عقائده سنة 325م. بل أن دائرة المعارف الفرنسية تنسب إليه كلا من إنجيلي « مرقس» و « لوقا» وسفر « أعمال الرسل».

   أما شخصيته، بعد التنصر، فقد اتسمت بالكذب والدفاع عنه: « فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟»، ( رومية 3: 7) ، كما اتسمت شخصيته بتمجيد الذات والنفاق والتلون مع كل طائفة بما تهوى، حتى بدت الخطيئة له منهج حياة: « 19 فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرّاً مِنَ الْجَمِيعِ اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. 20 فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ 21 وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ – مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلَّهِ بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ – لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. 22 صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً. 23 وَهَذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ لأَكُونَ شَرِيكاً فِيهِ»، ( كورنثوس الأولى 9: 19-23 ).

    وفي الغلو بالسيد المسيح u، فقد نقل البنوة من « اليهودية» إلى « النصرانية»، حيث يقول: « 3 … فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ »، ( رومية 8/3). ويقول: « 32 اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟ »، ( رومية 8/32). ويقول: « 4 وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، »، ويقول: « 1 اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، 2كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ – الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ.3الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي، 4صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ. »، ( عبرانيين 1/1-4). ويقول: « 15 اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. »، ( كولوسي 1/15). ويقول أيضا: « 6 الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. 7لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. »، ( فيلبي 2/6-7). ويقول: « 16 وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ. »، ( 1 تيموثاوس 3/16).

    يخلص الشافعي في دراسته عن بولس ورسائله إلى ثلاث ميزات تميزت بها شخصيته، بالمقارنة مع من عاصره من الحواريين، أو من جاؤوا بعده من القديسين، وعلماء النصارى: (1)« كان نشيطا دائم الحركة لا يكل من كثرة الأسفار»، و(2)« ذكي، فطن، بارع الحيلة، ذو فكر، متصرف يدبر الأمور بذكاء»، و(3)« قوي التأثير على نفوس الناس وعلى أهوائهم، قادر على قلب دفة الحوار إلى ما يريد». لذا، والكلام للباحث، « استطاع بولس أن يكون محور الدعاة النصارى، واستطاع أيضا أن يفرض كل ما ارتآه على مريديه فيعتنقوه دينا ويتخذون قوله حجة دامغة»[2]. فهل أخفق ابن سبأ حيث نجح بولس؟

ثانيا: شخصية ابن سبأ

عبدالله ابن سبأ!!! حقيقة تاريخية بارزة، باعتراف علماء الرافضة ومشايخهم، وكتب الأولين منهم. ورغم إنكار البعض منهم حقيقة ابن سبأ إلا أن المرجع الشيعي ابن بابويه القمي، في حديثه عن الفرقة « السبئية»، انفرد عن سائر العلماء والمؤرخين، من أية جهة كانت، بالإشارة إلى هويته بالقول أنه: « عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني»، (المقالات والفرق/20). ومع ذلك فهو شخصية غامضة من حيث الاسم والنسب، بما يكفي للتحفظ بشدة على تسمية القمي له، بل ورفضها من الأساس. إذ ما من مبرر يجعل من التسمية صحيحة لاسيما أن اسم « عبدالله» كان يطلق آنذاك على أي شخص نكرة يُنادى عليه في الشارع أو في السوق أو في المسجد أو في أي مكان يتعرض فيه للنداء، تماما كما كان يُنادى على أية امرأة بـ « أمة الله».  ففي شمال أفريقيا مثلا ينادى على الرجل النكرة في الطريق باسم « سي محمد». والأرجح أن نكرة الاسم والنسبة معا، تَسببا بذيوع شهرته بين الناس بلقب « ابن السوداء»، نسبة لأمه الحبشية. وغني عن البيان ملاحظة أن النسبة للأم تعني جهلا في النسب، حتى لمن عاصروه! وهذا يعد نقيصة كبرى في عرف العرب، بالإضافة إلى أن اللقب بحد ذاته يعبر عن نسبة مناطقية عامة، وغير محددة. أما لماذا تعمد الغموض؟ فلأنه بحاجة لِئن يخفي أمرا ما، لم يكن يرغب في كشفه بداية، كي لا يتيسر لأحد تتبعه أصلا وفصلا بحيث يمكن التعرف على حقيقته، وعلى أهدافه، وغاياته. ولا ريب أن الأسوأ في شخصية ابن سبأ، أن الغموض سينسحب على المستقبل، وليس على حاضره فقط، بحيث يبدو حال الباحثين عنه، كما لو أنهم يواجهون منظومة محكمة من الطلاسم، التي تستعص على الحل.

    الفرق بين شخصية شاؤول بن كيساي، الملقب بـ « بولس الرسول»، وابن سبأ أن هذا الأخير استثمر عميقا في شخصية بولس، وتجاوز عن الأخطاء التي وقع فيها، عبر التشدد في مسألة الغموض. لكن المنهج المتبع بين الشخصيتين كان واحدا تقريبا، بل أن ديناميات الفعل والتحريف لكليهما تكاد تكون متماثلة موضوعيا ومنهجيا. ففي حين جاء بولس من القدس إلى الشام، نجد ابن سبا أيضا ارتحل من اليمن إلى مكة، بتحريض من اليهود والفرس المجوس، ومسترشدا بسابقة بولس وآليات عمله. فشرع في التنقل في الحواضر الإسلامية آنذاك، ما بين البصرة والكوفة والشام ومصر. فهو، في هذا الحراك، يماثل بولس في نشاطه وبروزه المفاجئ، وتنقلاته بين مدن الحدث، ووصوله إلى علية القوم، وتبوئه مكانة بين قطاع عريض من العامة. كما أنه ناظر بولس في ذكائه وفطنته، في ضوء ظهوره المفاجئ، وفي تواجده في اللحظة المناسبة للفتنة، وفي بلاغته العربية، وسرعة ردوده، وعلاقاته الواسعة، وقدرته على الحشد، وفي أطروحاته وشبهاته، التي لاقت رواجا، وحتى تعاطفا لدى البعض، بما ينبئ عن شخصية عالم ضليع في الأديان. فهو يعرف « اليهودية» و« النصرانية» والإسلام. وهذا يؤشر على أنه ليس من العامة ولا الدهماء. ولعله من شبه المستحيل القول بأنه ولج الفتنة، وساهم في إشعال نارها، بوحي ذاتي أو لمصلحة فردية، بقدر ما يبدو أن هناك طائفة تقف خلفه، وتقدم له ما يحتاج من المشورة والنصح والدعم[3].

 ومن الجدير في الاعتبار أن اللحظة التي أعلن فيها ابن سبأ إسلامه هي ذات اللحظة التي جاهر فيها بعدائه لعثمان، وذات اللحظة التي اندرج فيها في فتنة التحريض على قتله! وذات اللحظة التي والى فيها علي بن أبي طالب، وذات اللحظة التي ردد فيها بحقه أطروحات « اليهودية» و« النصرانية» في تحريفاتهما العقدية، خاصة في « الولاية»، كالقول بأنه: « كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصيه»، أو في « الرجعة» كقوله: « عجبت ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمد يرجع وقد قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ، (القصص: 85) »!!!

 وتذكر المصادر الشيعية، كابن أبي الحديد، أن عبد الله بن سبأ قام إلى علي وهو يخطب فقال له: « أنت أنت، وجعل يكررها، فقال له – علي- ويلك من أنا، فقال: أنت الله، فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه»، شرح نـهج البلاغة (5/5). وقال نعمة الله الجزائري: « قال عبد الله بن سبأ لعلي u: أنت الإله حقاً، فنفاه علي u إلى المدائن، وقيل أنه كان يهودياً فأسلم، وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وفي موسى مثل ما قال في علي»، ( الأنوار النعمانية – 2/234). فكان ابن سبأ أول من نادى بـ « الإمامة» لعلي، وأول من ادعى نبوته ثم ألوهيته، وأول من علم أتباعه اللعن وسب أبي بكر وعمر، وأشد من حرض على عثمان رضي الله عنه، وأول من قال بخلود الأئمة. فلما قتل الخوارج الخليفة علي بن أبي طالب، وتلقى ابن سبأ الخبر وهو في مصر، رد بالقول: « كذبت عدو الله لو جئتنا والله بدماغه لو جئتنا بدماغه في صرة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض» [4]، ( النوبختي: فرق الشيعة/23).

  لما نزل عند لص البصرة، حكيم بن جبلة، وقبل مقتله رضي الله عنه، بعث الخليفة عثمان إلى عامله، عبدالله بن عامر، محذرا منه. فأرسل بن عامر، الذي أحس بغموض نسبه، إلى ابن سبأ يسأله:« من أنت؟»!!! ولم يسأله مثلا: « ماذا تريد؟» أو « ما هي غايتك؟» وفي مثل سؤال بن عامر له، من المفترض أن تكون الإجابة بأنني فلان ابن فلان، لكنه اكتفى بالقول: « رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك»!!! من الواضح أنها إجابة تحرص وتصر على الغموض، وتتعمد طمس الهوية الشخصية، دون أن تخلو طياتها من جهد كامن في استمالة بن عامر لصفه. ولا شك أنه غموض يحول دون تتبع نسبه أو انتمائه أو عمله أو إقامته أو حالته الاجتماعية. لكنه، في المحصلة، لم تتحقق مراميه، ولم يجد في البصرة من يستمع لدعواه إلا حين ذهب إلى مصر، التي كانت، في ذلك الوقت، أخصب مراتع الفرقة « السبئية»، ومنطلق الفتنة إلى الحواضر الإسلامية آنذاك.

ثالثا: بعض الملاحظات

  1.  بالتأكيد لم يكن ظهور ابن سبأ المفاجئ قدرا وسط توغل فتنة «الخوارج»، حتى عجز أكثر الصحابة عن ردع غلوائها بحق الخليفة عثمان، واعتزال البعض الآخر، وإصرار الخليفة على رفض الاقتتال، إلى أن دفع حياته ثمنا لها، ومن بعده علي بن أبي طالب وابنه الحسين. كان ابن سبأ كالوزغ ينفخ في كير الفتنة في كل اتجاه، بدءً من التحريض على قتل عثمان، مرورا بالترويج لأطروحاته في « الولاية» و « الرجعة»، وانتهاء بتأليه علي. ولعله من الطريف أن علماء الشيعة ومؤرخيهم الذين أوردوا روايات علي بن أبي طالب وأبنائه، في الإنكار على ابن سبأ، واستتابته ولعنه، وتهديده بالحرق، ونفيه، هم أنفسهم الذين قالوا بأن ابن سبأ هو أول من نادى بعقيدة « الإمامية» و« الرجعة» وألوهية علي!!! وأنه بعد مقتل علي جاهر بعقائده وصارت له طائفة تشعبت عنها الغالبية الساحقة من فرق الشيعة والرفض.
  • من الطريف ملاحظة أن بولس يقول في ( أعمال الرسل) أنه تم إرساله إلى دمشق من قبل حاخامية القدس!!!!! ومع أن روايته عن تنصره تعرضت للطعن والتشكيك، إلى حد اتهامه باختلاقها، إلا أن إيراده لهذه الجزئية، تؤكد أنه لم يتجه نحو دمشق بوازع من نفسه. فهو يتحدث عن مهمة، أوكلت إليه من قبل المؤسسة الدينية « اليهودية». والأنكى من ذلك أن بيت المقدس، في وقته، كانت تحت الحكم الروماني، حيث لا صلاحية ولا سلطان لليهود، كي يتصرفوا بمعزل عن السلطة القائمة. وهو ما لاحظه الشافعي في دراسته عن « بولس وأثره في النصرانية»[5]. كما أنه ما من ثقل عقدي لليهود في الشام في ذلك الوقت! فلماذا ذهب إذن؟ لا شك أن السؤال يُطرح في سياق تنصره المفاجئ. فإنْ كان بولس في مهمة؛ فهل جاء ابن سبأ منفردا، بلا أية مهمة!؟ وفي المحصلة؛ هل ثمة فرق فيما أنجزه الشخصان بحق « النصرانية» والإسلام؟
  • مشكلة بولس، بموجب رسائله و ( أعمال الرسل)، أنه لم يكن فعلا يهوديا على شريعة موسى كما نزلت عليه، ولا صار مسيحيا كما كانت قبل تحريفه إياها! وكذلك الأمر حال ابن سبأ. فلا هو بيهودي يعرف ولا هو بمسلم. وكل ما فعله هو نقل التحريفات « اليهودية» و« النصرانية» ليؤسس بها دين « الإمامية»، كما أسس عزرا بن سرايا، من قبل، التوراة والتلمود في بابل، بتشجيع من قورش الفارسي، كما سنرى لاحقا. ومثل هذه الأفعال ليست سوى إعلان حرب على الله ورسله وأنبيائه والمؤمنين. بل أن حال اليهود والنصارى والرافضة، صار كحال أبي جهل، الذي جاءت دعوته، برفض الحق، في آيات قرآنية تتلى إلى قيام الساعة: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، ( الأنفال: 32). إذ لا فرق في الشكل والمضمون، بين هذه الآية وما يقوله الجزائري من: « إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا»، أو المجلسي: « إننا لا نعبد إلهاً يقيم بناء شامخا للعبادة والعدالة والتدين، ثم يقوم بهدمه بنفسه».

    من جهته؛ يعقد ابن عبد ربه في ( العقد الفريد 2/250)، مقارنة بليغة بين « اليهودية» و« الإمامية» حين يقول: « إنهم يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله ولكن مقتاً لأهل الإسلام وبغياً عليهم، وقد حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى البلدان، منهم عبد الله بن سبأ، … وأبو الكروس، وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود. قالت اليهود: لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب، وقالت اليهود: لا يكون جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح المنتظر، وينادي مناد من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينزل سبب من السماء. واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة، واليهود لا ترى الطلاق الثلاث شيئاً، وكذا الرافضة، واليهود لا ترى على النساء عدة، وكذلك الرافضة، واليهود تستحل دم كل مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفت القرآن، واليهود تبغض جبريل عليه السلام وتقول: هو عدونا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غلط جبريل في الوحي إلى محمد بترك علي بن أبي طالب، واليهود لا تأكل لحم الجزور، وكذلك الرافضة». وفي السياق يستحضر علي الكاش مقولة الخميني في (الحكومة الإسلامية / 135)، حين قال: « إذا عزمنا على إقامة حكم إسلامي سنحصل على عصا موسى، وسيف علي بن أبي طالب»! ولا نظن أنه ثمة مبالغة في القول بأن: « الاقتباس العقائدي الإمامي من اليهودية لم يقتصر رغم تأثيرها الأقوى من غيرها في العقيدة فهناك اقتباسات من النصرانية والبوذية والمجوسية، حتى يمكن القول إن الأمامية هي البوتقة التي جمعت معظم الديانات»[6]. ويبقى السؤال: هل انتهى دور اليهود بنهاية ابن سبأ!؟ سنرى.


* هناك من يقول بأنها مدينة طرطوس السورية.

[1] أبو عبدالرحمن: « كيف اخترع –  بولس – المسيحية ، وهدم النصرانية؟»، 27/5/2008، موقع من خير أمة إلى كل نصراني عاقل، على الشبكة: http://cutt.us/DH9qW. من المدهش جدا أن نجد هذا المنطق لدى المفكر الإيراني، د. علي شريعتي!!! الذي اشتهر كإصلاحي حتى لدى الكثير من السنة العرب وغيرهم، رغم شعوبيته الواضحة كما سنرى لاحقا. أما عن مشابهته لبولس في منهج التلون، فيكشف عنه بنفسه حين  تلقى سؤالا من أحد طلبته يستفسر فيه عما بدا شعورا لدى طلابه حول « إعجابه جدا بالدين البوذي»، فأجاب: « نعم فأنا سني المذهب، صوفي المشرب، بوذي ذو نزعة وجودية، شيوعي ذو نزعة   =

=  دينية، مغترب ذو نزعة رجعية، واقعي ذو نزعة خيالية، شيعي ذو نزعة وهابية، وغير ذلك .. اللهم زد وبارك»!!! راجع: د. علي شريعتي، « دين ضد الدين»، دار الأمير، بيروت – لبنان، ط1/ 2003، ص 213.

[2] طارق محمد الشافعي، « بولس وأثره في النصرانية»، على الشبكة: http://cutt.us/u0R4

[3]  ثمة ملاحظات جديرة بالاعتبار في هذا السياق أوردها الباحث العراقي علي الكاش في كتابه « اغتيال العقل الشيعي»، يقول فيها بأن: « المعرفة العالية بتعاليم اليهودية وما تضمنته من أفكار تؤكد بما لا يقبل الشك وجود شخصيات وليس شخصية واحدة من اليهود هي من زودت الإمامية بأفكار اليهود» .. ويلاحظ بأن: « البعض ممن يتعجب من وجود شخص واحد هو ابن سبأ الذي يلعب بالعقيدة الإسلامية بمعزل عن تدخل واعتراض الصحابة وبقية المسلمين، لا يعني مطلقا بأنه كان وحده يلعب في الميدان بل هناك مؤسسة يهودية كبيرة وراءه، وهو واجهتها الأمامية». مرجع سابق، ص 418.

[4]  في رواية ابن حزم الأندلسي يقول ابن سبأ: « لو أتيتموني بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً».

[5] مرجع سابق.

[6] علي الكاش، « اغتيال العقل الشيعي: دراسات في الفكر الشعوبي»، مرجع سابق، ص 455. قد يبدو طريفا أن يتحدث المرجع الشيعي كمال الحيدري، وعلى قناة الكوثر» الشيعية، عن مصادر التراث الشيعي. راجع علىموقع«يوتيوب»: كارثة كمال الحيدري يعترف بأن التراث الشيعي أكثره من اليهود والنصارى والمجوس. http://cutt.us/D89Z. لكنها الحقيقة الواقعة. وكمثال على ذلك، نذكر ما جاء في «التلمود» البابلي وهو يخاطب اليهودي: « اعلم أن أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء وزيادة على ذلك اعتبار أقوال الحاخامات مثل الشريعة لأن أقوالهم هي قول الله الحي، فإذا قال لك الحاخام؛ إن يدك اليمنى هي اليسرى وبالعكس فصدق قوله، ولا تجادله فما بالك إذا قال لك إن اليمنى هي اليمنى واليسرى هي اليسرى». (الكنز المرصود/45). وفي المقابل يقول ابن بابويه في كتاب « الاعتقادات: « الأئمة كالرسل، قولهم قول الله، وأمرهم أمر الله وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله، ولا ينطقون إلا عن الله وعن وحيه». فما الفرق بين القولين؟

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى