كتاباتكتابات المنتدى

الثقافة السنيّة في العهد الأيوبي وأسسها الكبرى

الثقافة السنيّة في العهد الأيوبي وأسسها الكبرى

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

تأسست الدولة الأيوبية على يد صلاح الدين الأيوبي ، الذي هزم الفاطميين وطردهم من مصر عام 567 هـ / 1174 م ، وعادت مصر تحت حكم الخلافة العباسية مرة أخرى. عمل صلاح الدين على نشر المذهب السني بدلاً من المذهب الشيعي الذي كان سائداً في العصر الفاطمي، فكانت عناية صلاح الدين الأيوبي، والسَّلاطين الذين جاؤوا بعده للتمكين لمذهب أهل السنة في البلاد التي حكموها عنايةً شاملةً ، ومكثَّفةً في المدن التابعة لهم ، كالقاهرة ، والإسكندرية ، ودمشق ، وحلب ، وغيرها.
ومن أهم عناصر الثقافة السنية التي اهتمَّ بها الأيوبيُّون:
1 ـ القرآن الكريم:
اهتمَّ الأيوبيُّون يتلقين القران الكريم للصغار ، وتحفيظهم إيَّاه في البلاد التابعة لهم ، فابن جبير يذكر: أنَّ صلاح الدين أمر بعمارة أماكن متعدِّدة في مصر ، ورتَّب فيها معلَّمين للقران الكريم، يعلِّمون أبناء الفقراء، والأيتام خاصَّةً، وتجرى عليهم الجراية الكافية لهم. ويصور القاضي بهاء الدين بن شدَّاد مدى عناية صلاح الدين بالقران، فيذكر: أنه مرَّ يوماً على طفل صغير يقرأ القران ، فاستحسن قراءته ، فقرَّ به إليه ، وجعل له حظاً من خاصِّ طعامه ، ووقف عليه ، وعلى أبيه جزءاً من مزرعةٍ. وكان يشترط في إمامه ، أن يكون عالماً بعلوم القران ، متقناً لحفظه. (التاريخ السياسي والفكري ص243)
وقد مرَّ بنا: أنَّ القاضي الفاضل جعل إلى جانب مدرسته في القاهرة كُتَّاباً وقفه على تعليم الأيتام القران الكريم ، وأنَّه خصَّص إحدى قاعات هذه المدرسة لإقراء القران، وتدريس علم القراءات ، وعندما زار ابن جبير دمشق وجد الجامع الأموي لا يخلو من تلاوة القران الكريم لا صباحاً، ولا مساءً، ولهؤلاء القراء إجراء يومي يعيش منه أكثر من خمسمئة إنسان ، وعند فراغ القراء من التلاوة الصباحية يجلس أمام كلٍّ منهم صبيٌّ يلقنه القران الكريم، وللصبيان على قراءتهم جرايةٌ معلومة أيضاً ، تصل إليهم عدا أبناء ذوي اليسار ، فإنَّ اباءهم ينزهونهم عن أخذها. كما رأى ابن جبير مكاناً بدمشق، يتعلَّم فيه الصبيان القران الكريم، وعليه وَقْفٌ كبير يأخذ منه المعلمون ما يفي بحاجات الصبيان ، وكسوتهم ، وينفقونه عليهم، وكان علم القراءات يدرس بدار الحديث الأشرفية بدمشق، وبالمدرسة القاهرية بحلب. (أعلام النبلاء، 4/355 ـ 356)
2 ـ الحديث الشريف:
واهتمَّ الأيوبيون بالحديث الشريف اهتماماً عظيماً ، وكان هذا الاهتمام تلبيةً لحاجتين ملحَّتين واجههما المجتمع الإسلامي في مصر ، والشام ، وإحداهما عامَّة ، والأخرى خاصَّة ببعض البيئات ، أما العامة؛ فهي: أنَّ المسلمين كانوا يواجهون عدواً يتربَّص بهم الدوائر ، ويعبث بمقدساتهم ، وكان الاهتمام بتحريض المؤمنين على قتالهم يتطلب عنايةً كبيرةً بالحديث الشريف ، وخاصَّةً ، ما يتعلَّق منه بهذا الباب ، لذا وجدنا صلاح الدين شغوفاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يردِّده ، ويسمعه ، بل ويسعى لسماعه ، ويشجِّع على التأليف فيه ، ويذكر العماد الأصفهاني: أنَّه تردَّد معه أثناء زيارته للإسكندرية في عام 572هـ/1176م على الحافظ السلفي ، وسمعوا منه الحديث الشريف، كما سمع هو ، وأولاده موطَّأ مالك من فقيه الإسكندرية: ابن عوف الزُّهري ، وذلك في عام 577هـ/1181م. ويصف بهاء الدين بن شدَّاد صلاح الدين: بأنه كان شديد الرغبة في سماع الحديث ، وأنه كان يسعى إلى علمائه إذا كانوا ممَّن ينزهون أنفسهم عن حضور مجالس الحكام ، ويستطرد ابن شداد قائلاً: إنه كان يحبُّ أن يقرأ الحديث بنفسه ، ويستحضرني في خلوته ، ويحضر بعضاً من كتب الحديث ، ويقرؤها. (سيرة صلاح الدين ص10)
وكان الرَّجل إذا أراد أن يتقرَّب إليه حثَّه على الجهاد ، أو ذكر له شيئاً من أخباره. يقول ابن شداد: ولقد ألِّفَ له كتبٌ عدَّة في الجهاد ، وأنا مِمَّن جمع له فيه كتاباً ، جمعت فيه آدابه ، وكلَّ ايةٍ وردت فيه ، وكلَّ حديثٍ في فضله ، وكان ـ رحمه الله ـ كثيراً ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الأفضل. (التاريخ السياسي والفكري ص245)
ولم تكن العناية بالحديث مما اختصَّ به صلاح الدين ، بل إنَّ كثيراً من أمراء الأيوبيين سعى إلى سماع الحديث ، وروايته ، ومنهم: تقي الدِّين عمر؛ الذي سمع من السلفي بالإسكندرية، والملك الكامل؛ الذي نهج سبيل نور الدين ، وأنشأ بمصر أوَّل دارٍ للحديث الشريف. ووصفه السيوطي بأنَّه كان معظماً للسنة ، وأهلها ، وأنَّه سمع من السلفي ، وأجازه. كما وصفه سبط ابن الجوزي بأنه كان يتكلَّم في صحيح مسلم بكلامٍ مليح. أما الأشرف بن العادل؛ فقد سمع صحيح البخاري في دار الحديث الأشرفية؛ التي أنشأها بدمشق.
هذه الجهود التي نهض بها الأيوبيون للعناية بالحديث كانت استجابة لحاجةٍ عامة تتعلَّق بمتطلَّبات الجهاد في سبيل الله، والحض عليه، ورفع إمكانات المسلمين عن طريق تربيتهم ، وتثقيفهم بعنصر هام من عناصر الثقافة السنية.
وأما الحاجة الخاصة التي تطلب مزيداً من الحفاوة بالحديث الشريف ، فكانت ، تتعلَّق بالبيئات التي ساد فيها النفوذ الشيعي فترةً من الزَّمن ، ذلك: أن الشيعة لا يصحِّحون من الأحاديث إلا ما رواه أهل البيت فقط ، وما ينسبونه إلى أهل البيت لا يخلو من الوضع ، والأكاذيب ، كروايات زرارة ، وجابر الجعفي ، وغيرهم من الكذبة ، ويطعنون فيما سواه ، ويتَّخذون من ذلك وسيلةً إلى الطعن في رواتها، ولذا كانت العناية بالحديث الشريف في مصر إحياءً لهذا الجانب من جوانب الثقافة السنية. (الدارس في تاريخ المدارس 1/19 ـ 21)
4 ـ أصول العقيدة السنية:
اهتم الأيوبيون بالمحافظة على أصول العقيدة على مذهب الإمام الأشعري ، فقد كان ـ رحمه الله ـ من العلماء الذين حملوا لواء العلم في كلِّ ميادينه ، وصنوفه ويعدُّ من العلماء الذين جمعوا بين شتَّى المعارف ، والعلوم، والفنون. قال عنه الذهبي: العلامة إمام المتكلمين أبو الحسن… وكان عجباً في الذَّكاء ، وقوة الفهم ، ولمَّا برع في معرفة الاعتزال كرهه ، وتبرأ منه ، وصعد للناس فتاب إلى الله تعالى منه ، ثم أخذ يردُّ على المعتزلة ، ويهتك عُوارهم. وذكر الذهبي أيضاً: ولأبي الحسن ذكاءٌ مفرط ، وتبحُّر في العلم ، وله أشياء حسنة ، وتصانيف جمَّة تقضي له بسعة العلم، ويقول: رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول ، يذكر فيها قواعد مذهب السَّلف في الصِّفات ، وقال فيها: تُمَرُّ كما جاءت ، ثم قال: وبذلك أقول ، وبه أدين ، ولا تُؤَوَّل. (شعبة العقيدة بين أبي الحسن الأشعري والمنتسبين إليه ص21)
وقال عنه القاضي عياض: وصنف لأهل السنة التصانيف ، وأقام الحجج على إثبات السنة ، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ، ورؤيته ، وقِدَم كلامه ، وقدرته ، وأمور السَّمع الواردة عن الصِّراط ، والميزان ، والشفاعة، والحوض ، وفتنة القبر التي نفت المعتزلة ، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة ، والحديث ، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب ، والسنة ، والدلائل الواضحة العقلية ، ودفع شبه المبتدعة ، ومن بعدهم من الملاحدة الرافضة ، وصنَّف في ذلك التصانيف المبسوطة؛ التي نفع الله بها الأمَّة. وأما ابن عساكر؛ فقد أفرد كتاباً في الدِّفاع عنه ، ومدحه كثيراً ، وجعله من المجدِّدين ، وذكر الروايات الواردة في مدح قومه ، وأسرته. (ترتيب المدارك، 5/24).
وكذلك السِّبكي في طبقات الشافعية ، وكان ممَّا قال فيه: شيخنا ، وقدوتنا إلى الله تعالى الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري ، شيخ طريقة أهل السنة ، والجماعة ، وإمام المتكلِّمين ، وناصر سنة سيد المرسلين ، والذابُّ عن الدِّين ، والساعي في حفظ عقائد المسلمين سعياً يبقى أثره إلى يوم يقوم الناس لربِّ العالمين ، إمام حبر ، تقيٌّ ، بَرٌّ ، حمى جناب الشرع من الحديث المفتري ، وقام في نصرة الإسلام ، فنصره نصراً مؤزراً. وغيرهم من العلماء الذين مدحوه ، وأثنوا على ما قام به من نصر المسلمين ، والردِّ على المبتدعة من المعتزلة ، وغيرهم. (طبقات السبكي، 3/347).

المراجع:
• الكواكب الدرية في السيرة النورية ، تقي الدين أحمد بن قاضي شهبة ، تحقيق ، محمود زايد، طبعة أولى ، بيروت 1971 م.
• 64 ـ المدارس العصرونية في بلاد الشام ، د. صادق أحمد داوود جودة ، مؤسَّسة الرسالة ، دار عمار ، الطبعة الأولى 1406 هـ 1986 م.
• التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي من القرن الخامس الهجري حتى سقوط بغداد، د. عبد المجيد أبو الفتوح بدوي، الطبعة الثانية 1408هـ 1998م.
• سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي.
• صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، د. علي محمد محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى