كتب وبحوث

التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية حقيقته- حجيته- مرتكزاته

التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية حقيقته- حجيته- مرتكزاته

إعداد عبد الرحمن الكيلاني

ملخص البحث

يتناول هذا البحث دراسة موضوع تطبيق الأحكام الشرعية على مواقعها ومحالها بما يتوافق مع مقاصد التشريع وحِكمه ومصالحه.

ويظهر الباحث أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية منهج اجتهادي أصيل قررته آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والتزمه علماء الأمة رضوان الله عنهم في فتاواهم واجتهاداتهم.

ويكشف البحث عن المرتكزات العامة التي يجدر بالفقيه اعتمادها حتى يكون تطبيقه للأحكام تطبيقا مقاصدياً محققاً لمصالح العباد في العاجل والآجل، وينبه على أهمية مراعاة هذه المرتكزات في الاجتهاد الفقهي المعاصر من خلال فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة، والنظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.

وينتهي الباحث إلى أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ضرب من ضروب الاجتهاد، ينبغي أن تتحقق فيه جميع شروط الاجتهاد وضوابطه ومعاييره.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لم تنفك آيات الكتاب العزيز عن التأكيد على ارتباط أحكام الشريعة الإسلامية بالحِكَم والمقاصد والمصالح التي تغياها الشارع في التشريع، حيث يجد الناظر في كتاب الله الكريم الارتباط الوثيق بين الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال المكلفين من جهة، وبين المصالح الحيوية التي ستتمخض عن امتثال هذه الأحكام من جهة أخرى.

وهذا ظاهر في العديد من الآيات الكريمة التي عبّرت عن هذا المعنى من مثل قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ) [179: البقرة]، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [183: البقرة]، وقوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) [60: الأنفال]، وقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) [103: التوبة] إلى غيرها من الآيات الكثيرة الأخرى التي أرشدت إلى أن التكليف ليس مجرد أوامر ونواه فقط، وإنما هو قبل ذلك وبعده حِكم ومصالح وغايات ومقاصد تتحقق بها سعادة الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء.

ومثل هذا نجده أيضاً في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي عزّزت الاقتران بين الأحكام الشرعية وبين مصالحها المتوخاة منها، وأن الأحكام لم تشرع عبثاً وإنما شرعت لمصالح حيوية تكفل تحقيق أمن الإنسان واستقراره وسعادته.

وبناءً على هذا المنهج التشريعي الثابت في كتاب الله الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قرر العلماء “أن التكاليف كلَّها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم”([1]).

و”أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجيح خير الخيرين وشرّ الشّرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”([2]).

و”أن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة، ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة”([3]).

ولقد أفرز هذا الوعي بأهمية المصالح وارتباطها بالتشريع الإسلامي ارتباطاً مطرداً، اشتراط العلماء في المجتهد الذي يريد التصدي للنوازل والقضايا المختلفة أن يكون محيطاً بمقاصد التشريع. وهذا ما نبّه إليه الإمام تقي الدين السبكي في مؤهلات العالم حتى يصل إلى كمال رتبة الاجتهاد بقوله: “أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكماً لها في ذلك المحل، وإن لم يصرح به”([4]).

ومثله أيضاً قول الشاطبي: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:

أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.

والثاني: التمكّن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها”([5]).

ولهذا فإن العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية شرط ضروري في سبيل سلامة عمل المجتهد، سواء أكان مجال الاجتهاد هو في فهم النّص واستنباط مدلوله منه، أم كان مجاله في تطبيق الأحكام الشرعية على الأفراد والأفعال والمواقع المناسبة، ذلك أن النظر الاجتهادي كما يكون في فهم النص واستنباط معانيه، فكذلك يكون في تطبيقه على أفراده وجزئياته المناسبة.

وقد وجدتُ أثناء دراستي لموضوع تطبيق الأحكام الشرعية أنها عملية منهجية دقيقة تخضع لجملة من الشروط والمعايير والضوابط التي ينبغي على المجتهد أن يستحضرها ويحيط بها، وأن العلماء قد تنبهوا إلى أهمية عملية تطبيق الأحكام الشرعية، وأشاروا إلى جملة من شروطها ومعاييرها عند تناولهم لموضوع تحقيق المناط الذي يعتبر العمود الفقري لعملية تطبيق الأحكام الشرعية.

والناظر في الضوابط التي يحتكم إليها في عملية تطبيق الأحكام الشرعية يجد أن من أبرزها وأظهرها، النظر العميق لمقاصد الشريعة الإسلامية، والإدراك الواعي للغايات والمصالح التي شرعت الأحكام من أجلها، ووجه اشتراط هذا الضابط: أن الحكم قد شرع ابتداءً لتحقيق مقصد شرعي، فكان لا بد أثناء التطبيق أن يحقق الحكم هذا المقصد الذي شرع من أجله حتى يكون التطبيق على الوجه الذي أراده الشارع وتغيّاه، وإلا وقع التفاوت والاختلاف بين التشريع الذي يهدف إلى تحقيق مصالح معينة، وبين التطبيق الذي لا يعير هذه المصالح أي أهمية وينزِّل الحكم الشرعي على الأفراد بطريقة آلية مجردة، دون أيِّ اعتبار للنظر المقاصدي الكلي العميق.

وعلى الرغم من حداثة مصطلح “التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية” وعدم وروده في أمهات الكتب والمصنفات الأصولية، فلقد عرف علماء الأمة السابقون أهمية مراعاة المقاصد أثناء تطبيق الأحكام الشرعية، وتجلّت هذه المعرفة من خلال العديد من الأصول والقواعد التي أرسوها وصاغوها من مثل: الاستحسان، وسدَ الذرائع، والعرف، وقواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، وغيرها كثير من المفردات التي تعتبر من تجليات الاجتهاد المقاصدي في تطبيق الأحكام الشرعية، وتعبِّر في مجموعها عن أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ليس منهجاً جديداً حادثاً، وإنما هو منهج أصيل له شواهده وتجلياته وتطبيقاته في كثير من المواطن التي يزخر بها العطاء الأصولي والفقهي الذي تركه لنا علماء الأمة جزاهم الله خير الجزاء.

ومن هنا جاء العديد من الدراسات المعاصرة التي نبّهت إلى أهمية مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية عند تنزيل الأحكام الشرعية على مواقعها ومحالها المختلفة من مثل كتاب: “فقه التدين فهماً وتنزيلاً” للدكتور عبد المجيد النجار، و”نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” للدكتور أحمد الريسوني، و”في الاجتهاد التنزيلي” للدكتور بشير بن مولود جحيش، وغيرها من الدراسات والأبحاث القيمة التي أشارت إلى البعد المقاصدي عند تطبيق الأحكام الشرعية.

وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسات والجهود المبذولة فيها، فإنني وجدت أن موضوع التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ما زال يحتاج إلى المزيد من البحث والتحرير والضبط، لا سيما في مجال تحرير المصطلح، وإظهار الحجية، وقبل هذا وذاك، تحديد المرتكزات وإبراز الأسس التي ينبغي على المجتهد تمثلُّها، حتى يكون تطبيقه للأحكام الشرعية تطبيقاً مقاصدياً محققاً لمصالح العباد في الآجل والعاجل معاً.

ومن أجل ذلك كله، كان هذا البحث الذي آمل أن يساهم في تكميل بعض الجوانب التي ما زالت بحاجة إلى بحث ودراسة في هذا الموضوع، وفي سبيل ذلك فسأمضي على وفق الخطة الآتية:

المبحث الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية وحجيته، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.

المطلب الثاني: حجية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.

المبحث الثاني: مرتكزات التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول: فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي.

المطلب الثاني: الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق.

المطلب الثالث: التحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة.

المطلب الرابع: النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.

والله أسأل أن يوفقني فيما أنا بصدد بحثه ودراسته إنه نعم المولى ونعم النصير.

# اقرأ البحث

(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى