تقارير وإضاءات

«البيتكوين» .. رؤية إسلامية

إعداد د. أشرف دوابة

فرضت النقود الإلكترونية نفسها في ساحة الاقتصاد العالمي، ولم تشغل فقط الدول الغربية، بل تشابكت وتعددت الأسئلة عنها في الدول الإسلامية لا سيما فيما يتعلق بالحكم الشرعي للتعامل بها، وكذلك في ظل ما أثارته عملة «البيتكوين» (Bitcoin) من إشكاليات وتساؤلات.

بداية؛ النقود الإلكترونية هي عبارة عن نقود غير ملموسة، تأخذ صورة وحدات إلكترونية وتخزن في مكان آمن على “الهارد ديسك” لجهاز الكمبيوتر الخاص بالعميل يعرف باسم “المحفظة الإلكترونية”، ويمكن للعميل أن يستخدم هذه المحفظة في إتمام عمليات البيع أو الشراء والتحويل وخلافه.

وتعتمد فكرة النقد الرقمي على قيام العميل (المشتري) بشراء عملات إلكترونية من البنك الذي يقوم بإصدارها، ويتم تحميل هذه العملات على الحاسب الخاص بالمشتري، وتكون في صورة وحدات عملة صغيرة القيمة، ولكل وحدة رقم خاص أو علامة خاصة من البنك المصدر، وبالتالي تعمل هذه العملات الإلكترونية محل العملات العادية، وتكون بنفس القيمة المحددة عليها وتسمى “Tokens”.

وعند قيام المستخدم بالشراء من بائع يتعامل بالعملات الإلكترونية يقوم المشتري باختيار السلع ومعرفة أسعارها، ثم يقوم بإصدار أمر عن طريق الكمبيوتر بدفع قيمة مشترياته باستخدام العملات الإلكترونية المسجلة على الحاسب الخاص به.

ويتم نقل العملات الإلكترونية Tokens من خلال البنك المُصدر لها الذي يقوم بالتأكد من صلاحية العملات وعدم تزييفها أو نسخها ويقوم بتحميلها على الحاسب الخاص بالبائع، ويظهر لدى البائع زيادة في قيمة النقدية بالمبلغ الذي تمت إضافته مقابل شراء الأصناف المحددة في طلب شراء المشتري.

ويمكن للبائع تحويل العملات الإلكترونية المتاحة لديه إلى عملات حقيقية من خلال البنك المصدر.

أنواع «البيتكوين»

ويوجد نوعان أساسيان من النقود الإلكترونية:

1- النقود الإلكترونية الاسمية: حيث تحتوي وحدة النقد الإلكتروني على معلومات تتعلق بهوية كل الأشخاص الذين تداولوها، وهي في هذا تشابه بطاقات الائتمان حيث يستطيع البنك أن يقتفي أثر وحدة النقد التي أصدرها أثناء تداولها.

2- النقود الإلكترونية غير الاسمية: حيث يتم تداول وحدة النقد دون الإفصاح عن حاملها إلا إذا حاول شخص ما أن ينفقها أكثر من مرة واحدة.

وأيضاً هناك نوعان من عمليات تداول النقود الإلكترونية:

النوع الأول: عمليات تتدخل فيها البنوك؛ حيث تتطلب عملية تداول وحدة النقد الإلكتروني بين طرفين أن يتدخل البنك المصدر لاعتمادها أو تعزيز إصدارها، ويعرف هذا النوع باسم On-Line E. Cash.

النوع الثاني: عمليات تعرف باسم Off-Line E.Cash؛ حيث يتم تداول وحدات النقد الإلكتروني بين الأطراف المختلفة دون تدخل البنوك، وهي تشبه في هذا عمليات تداول النقد العادي.

وهذا النوع الثاني برز منه “البيتكوين” كعملة إلكترونية افتراضية يديرها مستخدموها بحيث تحقق مبدأ “الند للند” Peer-to-Peer.

وتتكون عملة “البيتكوين” من عنوان رقمي مربوط بمحفظة إلكترونية، وكل “بيتكوين” مقسم لمائة مليون وحدة تسمى “ساتوشي”، وعند شراء السلعة بـ”بيتكوين” واحد فإن “البيتكوين” يتحول بضغطة زر إلى محفظة البائع التي تمثل تطبيقاً إلكترونياً، وإذا أراد شخص ما تحويل قيمة معينة من “البيتكوين” إلى شخص آخر؛ فإنه يستخدم ما يسمى بالتوقيع الرقمي الذي يحتوي على رسالة التحويل، والرقم الخاص بـ”البيتكوين”، والعنوان المعلن للشخص الذي سيستلم “البيتكوين”، وعندما يتم تحويل “بيتكوين” إلى محفظة أخرى فإن التحويل يذهب إلى شبكة “البيتكوين” ويدخل في عملية التأكد ويتم حفظه في سلسلة البلوكات (Blockchain)،

وقد ظهر “البيتكوين” في بحث عن العملات المشفرة أصدره تقني مجهول لقب نفسه بـ”ساتوشي ناكاموتي”، وتم طرح “البيتكوين” للتداول في عام 2009م بقيمة 0.0001 دولار، وارتفع في منتصف عام 2011م إلى 35 دولاراً، ووصل في بداية عام 2017م إلى 1000 دولار، ثم تصاعد “البيتكوين” بشكل سريع حتى وصل إلى نحو 6055 دولاراً في 21 أكتوبر الماضي.

ومن المتعارف عليه اقتصادياً أن البشرية عرفت من النظم النقدية ما هو سلعي وما هو ائتماني، وقد بدأت النظم النقدية السلعية بالمقايضة فالنقود السلعية فالنقود المعدنية ثم النقود النائبة التي كانت تنوب عن الذهب والفضة في التبادل وتصرف بهما عند الطلب، أما النظم النقدية الائتمانية فهي نظم لا تستمد فيها النقود قيمتها من ذاتها، ولكن من قبول الأفراد في معاملاتهم لها؛ لذا فطبيعة المادة المصنوعة منها النقود الائتمانية ليس لها اعتبار، والسمة الأساسية لها هي انقطاع صلتها كنقد عن قيمتها السلعية؛ فهي أقل منها بكثير، والنقود الائتمانية لا اعتراض عليها ابتداء في الإسلام ما دامت تتسم باحتفاظها بالقوة الشرائية ولا تستخدم مصدراً للإيراد.

رؤية إسلامية

إن نظرة الإسلام للنقود بصفة عامة تتفق مع ما جاء في تعريفها الاقتصادي الذي يركز فيه الاقتصاديون على وظائف النقود متجاوزين تعريفها بسلطة الإصدار أو المكون الذاتي لها، حيث تعرف النقود بأنها: أي شيء يلقي قبولاً عاماً كوسيط للتبادل، ويصلح في الوقت ذاته مقياساً للقيم وحفظ الثروة وتسوية الديون والالتزامات.

وقد فطن العديد من الفقهاء المسلمين لوظائف النقود الأساسية من كونها مقياساً للقيم، ووسيطاً للتبادل، ومستودعاً للقيمة، ومعياراً للمدفوعات الآجلة، قبل أن يهتدي إليها الفكر الاقتصادي التقليدي، وتناولوها في كتبهم بالبيان والتوضيح، ومنهم الإمام الغزالي، والكاساني، وابن الهمام، وابن العربي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن خلدون.. وغيرهم.

لذا فإن الطبيعة السلعية للنقود من كونها ذهباً أو ورقاً أو خلاف ذلك ليست محل اعتبار ما دامت تؤدي وظائفها بصورة شرعية، وقد همَّ الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه باتخاذ الدراهم من جلود الإبل، وما منعه من ذلك إلا خشيته على البعير من الانقراض.

وها هو ابن تيمية يعكس المنظور الإسلامي للنقود بقوله: “وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثماناً بخلاف سائر الأموال، فإن المقصود الانتفاع بها نفسها، فلهذا كانت مقدرة بالأمور الطبعية أو الشرعية، والوسيلة المحضة الذي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت”.

فالعبرة شرعاً بقيام النقود بوظائفها بأن يتاجر بها باعتبارها وسيطاً للتبادل لا المتاجرة فيها وتحويلها إلى سلعة والخروج بها عن وظائفها.

وبالنظر إلى العملات الإلكترونية التي تدخل البنوك لاعتمادها أو تعزيز إصدارها، نجد أنها لا غرر فيها أو جهالة، وتستمد قبولها العام من قوة القوانين المنظمة لها، وهذا لا غبار عليه من الناحية الشرعية مادام يتم في تداولها مراعاة قواعد التعامل الشرعي بالتماثل والتقابض ولو حكمياً عند اتحاد الجنس، والتقابض ولو حكمياً دون التماثل عند اختلاف الجنس.

أما غير ذلك من العملات الإلكترونية التي لا دخل للبنوك فيها ومنها عملة “البيتكوين” نجد أن فيها غرراً وجهالة بمن يصدرها ومن ثم بالجهة التي تضمن إصدارها، كما أنها تفتقد للقبول العام، وغلبت عليها المضاربات، فأصبح تحرك سعرها يتسم بالتذبذب والمغالاة، وتحولت إلى كونها مصدراً للإيراد ووسيلة لغسل الأموال، وأصبح من الصعوبة اعتبارها مستودعاً للقيمة، ومعياراً للمدفوعات الآجلة، وهو ما لا يتفق مع القواعد والمقاصد الاقتصادية الإسلامية.

لذا؛ فإن قبول عملة “البيتكوين” إسلامياً – حتى لو تحققت في تداولها قواعد التعامل الشرعي – مرهون برفع الغرر والجهالة عنها من خلال معرفة الجهة التي تصدرها وقدرتها على ضمان الإصدار، وكذلك تحقيق القبول العام لها، وتوافر عوامل الأمان فيها بصورة تمنع تبخرها من حسابات مستخدميها بحواسبهم الشخصية وضياع حقوقهم، والمتاجرة بها لا فيها، وهو ما لا يتوافر في وضعها الحالي بصورة تجعلها خدعة كما وصفها “جيمي ديمون”، الرئيس التنفيذي لبنك “جي بي مورجان”، والله تعالى أعلم.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى