تقارير وإضاءات

البوسنة.. قصة البشناق المسلمين في أوروبا

إعداد مازن عبد القادر عبد السلام

مسلمون عاشوا في دولة البوسنة والهرسك وما جاورها، تمركزوا فيها وسكن قرابة نصفهم في إقليم السنجق الواقع بين كوسوفو الذاتي الحكم والجبل الأسود، إنهم البشناق أو البوشناق. فماذا تعرف عنهم؟

أُطلق هذا المصطلح “البشناق” على سكان البوسنة والهرسك منذ العصور الوسطى وتطوّر في تسعينيات القرن العشرين حتى نُعت به المسلمون البوسنيون، وينحدر هذا العرق تاريخيًا من جماعة سلافية كانت قد اعتنقت الإسلام في زمن فتوحات الخلافة العثمانية لأرضهم في أوروبا، حيث شهدوا عدل الإسلام بمقابل الجرائم التي اُرتكبت في حقهم من قبل ملوك المجر.

سنتعرف في هذا المقال على البشناق المسلمين في أرض أوروبا، تاريخهم الحديث وحاضرهم والمآسي التي مروا بها.

التغيير الديمغرافي في البوسنة والهجرة إلى أراضي الخلافة العثمانية

البشناق

مع بداية الانهيار للخلافة العثمانية ضعُفت سيطرتها على أطراف الدولة ما أدى إلى بداية انحسار الخلافة وتقوقعها على نفسها، والبوسنة كانت واجهة الخلافة على الممالك النصرانية في أوروبا، فاضطرت في ظل هذا الصراع والضعف أن تتنازل عن البوسنة للإمبراطورية النمساوية المجرية عام 1878م للميلاد.

مما أدى لتغيير ديمغرافي في البوسنة، فمُزجت القوميات والطوائف في أرض البوسنة المسلمة، ومع قرب سقوط الخلافة وتفكك الدولة العثمانية، تحولت البوسنة بهذا المزيج العرقي والقومي متعدد الأسماء إلى ساحة خلافات وتوترات كبيرة بين الروس والمجر والبلغار والصرب، حتى بلغت ذروة التوتر عند اغتيال ولي العهد النمساوي على يد شاب صربي في سراييفو، مشعلًا الحرب العالمية الأولى التي أكلت البشر والحجر في عام 1914 للميلاد.

ويُذكر أن بعض البشناق هاجروا من أرضهم إلى أراضي الخلافة العثمانية؛ ليستقروا ويعيشوا بعيدًا عن طغيان وحقد الإمبراطورية النمساوية المجرية، فمنهم من استقر في بلاد الشام في مدن كقيسارية ونابلس وجنين، واستمر وجودهم في تلك البلاد حتى دافع أحفادهم عن أرض فلسطين في حرب 1948 للميلاد ضد قيام الدولة المزعومة على أرض فلسطين.

نشأة “منظمة الشباب المسلم” كحلٍ لأزمة الهوية

البشناق

من قلب مدينة سراييفو وموستار زاغراب خرج الحراك الشبابي المنادي بالهوية المسلمة لشباب البوسنة المسلمين، فقد تجمع الشباب المثقف الجامعي والطلابي وأنشأوا حراكًا انعكس على واقع البوسنة وأخرجها من أزمات كانت لتنهي وجود الإسلام على أرض البوسنة.

نظم الشباب البوسني المسلم نفسه تحت مسمى “منظمة الشباب المسلم” والتي خرجت من رحم أزمات كبيرة عصفت بالمسلمين في البوسنة، بدأت بسيطرة أزمة الهوية التي نتجت من سيطرة الإمبراطورية النمساوية المجرية على الأراضي البوسنية كما أسلفنا ومقاومة البوسنيين للغزو الفكري ضدهم، وبعد هزيمة الإمبراطورية النمساوية في الحرب العالمية الأولى كانت البوسنة وباقي الدول التي خضعت للنمساوية غنيمة حرب للمملكة اليوغسلافية “صربيا”، فبدأ عهد العنصرية الصربية ضد كل الأعراق والقوميات التي مزجت في هذه البلاد.

وجاءت المرحلة الثالثة من الأزمات التي عصفت بالمسلمين في البوسنة إثر توقيع اتفاقية “سفيكوفيتش- ماتشيك” بين الصرب والكروات أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية، فأنشئ إقليم “بانوفينا كرواتيا” ذو الحكم الذاتي على إثرها.

ويقع جزء كبير من هذا الإقليم على أرض البوسنة والهرسك مما أدى إلى تحول البوسنة من العنصرية الصربية إلى الصربية والكرواتية النصرانية أيضًا، وتلك كانت القاصمة لدى الشباب البوسني المسلم.

وكذلك من ليس له قوة فهو يخضع لقوة غيره، عايش البوسنيون أزمة الهوية منذ سيطرة الإمبراطورية النمساوية المجرية عليهم وحتى توقيع اتفاقية “سفيكوفيتش- ماتشيك” حيث أصبحوا بلا انتماء ولا جنسية حقيقية ينتمون إليها.

فكانت هذه الأزمة كما أسلفنا أبرز العوامل لتنظيم الشباب البوسني وتوحيده ليستعيد هويته وانتماءه، ولكن مع انخفاض التأثير المسلم في المجتمع البوسني وظهور النخب العلمانية من المثقفين البوسنيين المؤدلجين انقسم المجتمع البوسني المسلم بشكل كبير، علاوة على انتشار الشيوعية والفاشية كما حدث مع المجتمعات المسلمة الأخرى.

موقف الشباب المسلم من الحرب العالمية الثانية

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في الأول من سبتمبر من عام 1938 للميلاد أخذت منظمة الشباب المسلم موقفًا محايدًا من جميع الأطراف على أرض القارة العجوز، حيث تجنبت الحرب فقد اعتبروا هذه الحرب لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل، وحذروا المسلمين من الخوض في هذه الحرب.

ومع هذا الموقف الحازم قدمت منظمة “الشباب المسلم” انطلاقًا من مرجعيتها الإسلامية المساعدات الخيرية للاجئين القادمين من شرق البوسنة فرارًا من مذابح الصرب.

وكذلك دور المسلم الحقيقي باختيار الحرب الصحيحة ذات النفع المنعكس على الأمة لا الخوض مع من يخوض.

سيطرة الشيوعية على البوسنة والمقاومة الحضارية

علم الحزب الشيوعي في البوسنة.

إثر هزيمة ألمانيا النازية في أبريل عام 1945م في الحرب العالمية الثانية سيطرت الشيوعية على أجزاء واسعة من البوسنة، وكان أن بدأت بالتضييق على شعائر المسلمين البشناق حيث حاربت كل المظاهر الإسلامية وأغلقت المدارس الإسلامية والمساجد وأقدمت على كثير من الانتهاكات بحق البشناق.

يقدر المؤرخ نويل مالكولم إلى أن حوالي 250 ألف شخص قد قضوا في الإعدامات الجماعية التي قام بها جوزيف بروز تيتو (رئيس المقاومة اليوغسلافية ضد الاحتلال النازي)، وفي مسيرات الموت والإجبارية ومعسكرات الاعتقال في الفترة ما بين عامي 1945 و1946م.

قاوم البشناق هذه الإجراءات بسرية حيث عملوا على تداول الكتب الإسلامية وتعليم الأطفال الدين في المساجد، وتحول الاحتفال ببعض المناسبات الدينية إلى البيوت بعيدًا عن الأضواء، واستمرت منظمة الشباب المسلم في المقاومة الحضارية ضد الغزو الشيوعي المفروض عليهم من قبل الحكومة.

مما أدى بالمئات منهم إلى السجون ما بين عامي 1949 و1950م ولكن مع هذا حافظت البشناق في البوسنة على هويتهم المسلمة، فالانتماء للدين كان أكبر من الانتماء للأرض والحكومة.

وكذلك صراع الحضارات يستمر فيه القوي بضخ ثقافته ومحاربة الثقافة الضعيفة حتى يبسط نفوذه على الأذهان بعد الأبدان، ولكن نجاتك مرتبطة بمدى جَلَدك على المقاومة.

علي عزت بيجوفيتش وظهور الشباب المسلم

البشناق

أعلن في عام 1990 للميلاد الزعيم البوسني علي عزت بيجوفيتش رئيسًا للبلاد؛ وهو من أبرز قيادات منظمة الشباب المسلم وأحد مؤسسيها، اعتبر هذا الحدث فريدًا من نوعه في الساحة السياسية البوسنية، حيث هيّأ للبشناق استلام مقاليد الحكم في البوسنة.

كانت هذه اللحظة التاريخية فاصلة في تاريخ البشناق المسلمين حيث تولى القائد علي عزت بيجوفيتش من بعدها الحكم طيلة سنوات استقلال البوسنة من يوغسلافيا، على مدار عشر سنوات 1990- 2000م، فعبر المسلمون -لأول مرة منذ احتلال الإمبراطورية النمساوية المجرية لأرضهم- عن أنفسهم.

حدثت في هذه السنوات حرب البوسنة والتي كانت نتيجة مساجلات سياسية في يوغسلافيا، وكانت نتيجة المساجلات والاستفتاءات استقلال البوسنة عن يوغسلافيا بأغلبية عظمى.

فامتدت الحرب على البشناق لأكثر من 3 سنوات حيث حاول الصرب القيام بالتطهير العرقي للبشناق من أرض البوسنة وقاموا بأسوأ المجازر التي شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية مثل مجزرة سربرنيتسا والتي قتل فيها الآلاف، فكان حصيلة هذه الحرب الشنيعة ضد التواجد الإسلامي في أوروبا إبادة ما يقرب من 300 ألف شخص.

وكانت نتيجة الاتفاقية تقسيم البوسنة إلى 3 كيانات فيدرالية (البوسنة والهرسك- جمهورية صرب البوسنة- مقاطعة برتشكو). كما جعلت الاتفاقية للبوسنة مجلسًا رئاسيًا يتناوب على رئاسته ثلاثة أعضاء يمثلون البشناق والكروات والصرب بمعدل مرتين مدة كل واحدة منهما ثمانية أشهر ومنحت سلطات غير محدودة تقريبًا لممثل المجموعة الدولية الذي يقيم في سراييفو.

ورغم أن اتفاقية دايتون جاءت بنصوص غير مرضية للمسلمين قال الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش:

إن اتفاقًا غير منصف خير من استمرار الحرب.

الخاتمة

في ختام هذا المقال نُشيدُ بالمسلمين البشناق في البوسنة ومقاومتهم للقوى الاستعمارية التي مرت بأرضهم من كافة الأيديولوجيات والأعراق، ونسلط الضوء على أثر منظمة الشباب المسلم والتي علمت كيف تحمي البشناق من الغرق في سلطة الثقافات المستعمرة لأرضهم بتفعيل الهوية الإسلامية وحمايتها.

ومما نستخلصه من التاريخ البشناقي أن التنظيم والالتحام بالقادة والوحدة والبعد عن التفرقة هو ما يحقق للمسلمين نصرهم ومجدهم، على ضعف الإمكانات والاستضعاف عند البشناق أمام الإمبراطوريات المتعاقبة عليهم إلا أن وحدتهم وتجمعهم حول الشباب المثقف الملتزم في “منظمة الشباب المسلم” هو ما أخرجهم مرارًا وتكرارًا من الأزمات والمصائب في حالة الاستضعاف التي يعيشون، فلنا في البشناق تجربة علينا أن نتعلم منها.

__________________________________________________________

المصدر: موقع تبيان

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى