كتابات

الاعتكاف وتربية الذات على اتباع الأسلاف

بقلم : محمد بن يحيى اليحيى

لقد شرع الله لعباده كثيراً من الطاعات التي تجمع على المرء الجوارح والقلب لينشغل بعبادة الله تعالى وحده.. وإن من أجلّ هذه الطاعات تلك 54السّنّة التي يخلو المرء فيها بربه خاضعاً فيناجيه معترفاً، وينصرف بها عن الدنيا فتزكو نفسه وتسمو ليصبح إنساناً ربانياً، إنها السّنّة التي حافظ الرسول عليها طوال حياته.. إنها سُنّة الاعتكاف.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه اعتكف عشرين يوماً”[البخاري].

لقد حرص رسول الأمة على هذه العبادة رغم انشغاله بالدعوة والتربية والتعليم والجهاد، تاركاً لمن بعده ممن يقتفون أثره وينتهجون نهجه درساً عظيماً في أهمية الانقطاع إلى الله عز وجل والتحرر من المشاغل والمسؤوليات كائناً من كان صاحبها في الدعوة والعلم.

من حكم الاعتكاف

لا شك أن هذا الاعتكاف ما شُرع إلا لحِكَمٍ عظيمة، لعل منها:

* زيادة الصلة الإيمانية بالله، والجوانب العبادية التي تزكي النفس، وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الدنيا، والعمل على استنقاذ الآخرين منها.

* أن الاعتكاف فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بتحصيله، ومن ثم تعليمه؛ وهذا لأمرين مهمين:

1- أن العمل هو الثمرة والغاية الحقيقية للعلم؛ وبدونه قد يصبح العلم حجة على صاحبه.

2- أن العقلاء يرفضون أن يُعلّم المرءُ الناسَ ما فيه نجاتهم ثم ينصرف هو عن ذلك.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “مثل الذي يُعلّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها”[صحيح الجامع].

* أن سنة الاعتكاف فرصة كبرى للدعاة والمربين من جهتين:

1- تحقيق الحكمتين الأوليين من سداد النقص الذي اعتراهم لانشغالهم بالخلْق، وزيادة صلتهم بالخالق.

2- استثمار الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني والتعبدي وغيرهما عند هؤلاء المدعوين والمتربين إلى مراتب أسمى.

فهذه بعض الحكم الظاهرة التي يمكن أن يستفيد منها أهل النظر لتصبح مسار كثير من شباب الصحوة خلال أيام قلائل.. موجِّهين كانوا أو موجَّهين ممن يُرتضى دينه وخُلقه وعقله.

إن من أهم أسباب طرح موضوع الاعتكاف من الجهة التي سيراها القارئ الكريم، ثلاثة أمور رئيسة:

الأول: حالة الضعف العام في همة الصالحين فيما يتعلق بالجوانب التعبدية والسلوكية كما سيأتي ضرب أمثلة لها مقارنة بما يراد منها لإصلاح المجتمع والارتقاء به لمشابهة مجتمع السلف الصالح.

يقول ابن الجوزي رحمه الله: “أعوذ بالله من سِيَر هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي إليها المبتدئ، ولا صاحب ورعٍ فيستفيد منه المتزهّد”[ قيمة الزمن عند العلماء: 30].

فإذا كان -رحمه الله- يتحدث عن أهل زمانه فلا شك أن الخطب أعظم في زماننا الذي فُتِحت فيه الدنيا من أوسع أبوابها. والله المستعان. ولا شك أننا بحاجة لاستثمار فرصة الاعتكاف في تحسين الصورة العامة عن طريق مخاطبة الأفراد.

فكيف يكون الاعتكاف وسيلة لزيادة الهمة العامة يا ترى؟

الثاني: أن السنة دلت على أهمية الانقطاع عن الناس في خلوة مع الله؛ لتنطلق الأنفس بعد ذلك في الدعوة وتحمّل الأعباء. قال صاحب الظلال: “لا بد لأي روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت…” إلى أن يقول: “فالاستغراق في واقع هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ومن الشواغل التافهة.. فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر منه، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عُرف الناس…” [ الظلال: 6/3741].

ولكن إذا كانت هذه إحدى الغايات العظيمة لهذا الانقطاع (أي الاعتكاف).. فما صورة هذا الاعتكاف المطلوب يا ترى؟!

الثالث: أن الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله في كل الأعمال والحركات والسكنات. وهذه النقطة وإن بدت ابتداءً أنها فردية بالدرجة الأولى فإن أهمية طرحها هنا تأتي من خلال معرفتنا بأن الإخلاص هو مدار قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة، ومنها كل ما يتعلق بالدعوة والتربية والتعليم. وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق الأموال وتبذل الجهود ثم يكون المانع من تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دَخَلا في إخلاص العاملين. ولما كان تحقيق الإخلاص من الصعوبة بمكان في أوساط الجماعة الواحدة قال سهل بن عبد الله: “الدنيا جهل وموات إلا العلم، والعلم كله حجة إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يُختم به”[ العلم ضرورة شرعية: 60].

وحُكي عن أحدهم أنه شعر بخجل عظيم من الناس عندما صلى يوماً في الصف الثاني، فعلم أن راحة قلبه في الصلاة في الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه. وهذا من الدقيق الغامض الذي يغفل عنه الكثير من الناس.

فلما كان الأمر كذلك كان الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص.

والسؤال: ما الاعتكاف المطلوب للتحقق من سلامة القلب من شوائب الإخلاص؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتلخص في الجهة التي نطرح موضوع الاعتكاف من خلالها.. وهي أن الاعتكاف المطلوب ليس هو ذلك الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين أو عناوين للمتزاورين، أو موائد للأكل، أو حلقات للضحك وفضول الكلام.. إنه ليس الاعتكاف الذي يخرج صاحبه وقد ازداد قلبه قسوة، وأتى بمعصية التعدي على حرمات مساجد الله.

إنه ليس الاعتكاف الذي يجعله صاحبه وسيلة لزيادة الأصحاب وتقوية العلاقات الاجتماعية وتبادل الآراء الطبية والنفسية… ونحوها.

إن الاعتكاف المطلوب إنما هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف الصالح في كل همسة ولفتة. نعم إن الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين المتدبرين، وترفع فيه أكف الضارعين المخبتين، ويسعى المرء فيه جاهداً لئلا تضيع من ثواني هذه الأيام المعدودة لحظة واحدة في غير طاعة فيفوته قطار الفائزين.

إنه الاعتكاف الذي يحقق مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين..

*المصدر: مجلة البيان (بتصرف)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى