كتب وبحوث

الاستراتيجيات الأمريكية والتحالفات الدولية عرض ونقد وتقييم 1

الاستراتيجيات الأمريكية والتحالفات الدولية عرض ونقد وتقييم 1

إعداد أكرم حجازي

الفصل الأول

استراتيجيا الأمن القومي الأمريكي

مدخل في تحولات الإستراتيجية الأمريكية

   لعقود طويلة، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية، ولمّا تزل، تحقق بحسب مساعد وزير الدفاع ورئيس مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي، Joseph S. Nye، « تفوقا» مستمرا، يمكن الاستدلال عليه عبر معايير قابلة للقياس، تتعلق بما يسميه:«موارد النفوذ الثلاثة: العسكرية والاقتصادية والقوة الناعمة»[1]؛ « تفوق» .. لم تستطع أية قوة على وجه الأرض أن تبلغه من قبل، إلى أن أنتج ما يمكن تسميته بـ «الدولة – العالم» بامتياز. وحتى لو شاركتها دول أخرى في هذا التفوق، إلا أن تمتعها بامتيازات جيوسياسية واقتصادية واجتماعية مميزة يجعل من تفوقها فريدا في الكم والنوع، حتى لو ناظرتها، جدلا، قوىً عسكرية واقتصادية أخرى، سواء بحجم أوروبا أو روسيا أو الصين.

   تبعا لهذه المكانة من الطبيعي أن يمتد الأمن القومي الأمريكي إلى حيث تمتد مخرجات التفوق في العالم. وبالتالي فالولايات المتحدة من المفترض، وفقا لمكانتها، أن تتحمل من المسؤولية في الداخل الأمريكي بقدر ما تتحملها في الخارج. وهذا يعني بالضرورة أن أي تقدم أو تراجع في الداخل لا بد وأن ينعكس على النفوذ في الخارج، بحيث يزيد أو يقلص من حدود الهيمنة دون أن ينال الانحسار، بالضرورة، من مستوى التفوق. وهنا بالضبط يكمن جوهر أي استراتيجيا أمريكية قومية.

    بقطع النظر عن مشروعيتها أو تداعياتها أو أية مواقف مؤيدة أو معارضة، أو أية اعتبارات أخرى، تبقى هجمات 11 سبتمبر 2001 بالنسبة لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنة 2010 بمثابة: « التهديد المباشر الذي مثلته تلك الهجمات الأكثر فتكا على الإطلاق التي وقعت على التراب الأميركي»[2]، باعتبارهاأول تجرؤ من نوعه ينال من رموز الهيمنة والتفوق، في عقر دار أعتى قوة في التاريخ، وأول مؤشرات التراجع. فما الذي يدفع مجموعة مطاردة، ومحاصرة من كل جانب، للتفكير في ( أو التجرؤ على) استباحة قوة قادرة على مسح الأرض عن الوجود مئات المرات، دون أن تلقي بالا لأية ردود فعل منها؟ وفي المقابل؛ هل ثمة جدوى من رد الإهانة باستعمال أفتك أدوات القوة ضد مجموعة مقاتلة!؟ هذه هي المعادلة المحيرة التي أفرزها التساؤلين، وسط هيمنة قيمية مطلقة على العقل. إذ أن ردود الفعل الأمريكية كانت عاطفية أو قيمية أو أيديولوجية أكثر بكثير مما كانت عقلانية.

   فحين وقعت الهجمات كانت الولايات المتحدة في ذروة قوتها وهيمنتها. ولأنها تعاملت مع الحدث كـ «إهانة» جارحة للغاية، فلم يكن ثمة تغيير في استراتيجياتها القومية إلا فيما يتعلق بالإستراتيجية الدفاعية، التي تحدثت عن «مكافحة الإرهاب». لكن فيما يتعلق بالتدخلات العسكرية المباشرة، فلم يجر التفكير بأي تقييم أو تغيير في الإستراتيجية، بقدر ما تفاقمت حدتها عبر مهاجمة أفغانستان واحتلالها ثم التحضير، بلا مبرر إلا من سيل الأكاذيب، لغزو العراق، بعيدا عن أية قوانين أو قواعد دولية تذكر، فضلا عن التفكير في المصالح  والمآلات. هذا ما شهد به القائد العام السابق للقوات الأمريكية في أوروبا، والقائد العام لحلف الناتو 1997 – 2001، وأحد المرشحين الديمقراطيين لسباق الرئاسة سنة 2004، الجنرال ويسلي كلارك[3]، في مؤتمر « الديمقراطية الآن»، خلال مقابلة تلفزيونية في 2/3/2007، كشف فيها عن مذكرة تظهر أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، خططت للسيطرة على سبع دول في ظرف خمس سنوات، هي العراق وسوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران.

    كانت النتائج بالغة السلبية على نفوذها ومكانتها؛ لأن الولايات المتحدة لم تلجأ إلى ترجمة «التساؤلين» إلى لغة استراتيجية تسترشد بها. وما بين سنتي 2010 و 2015 أصدرت الولايات المتحدة إستراتيجيتين للأمن القومي. لكن السؤال ليس فيما إذا نجحت أمريكا بهما في تجاوز منطق الأيديولوجيا؛ بل فيما إذا أضحت الأيديولوجيا هي المنطق الوحيد الذي تصاغ به الاستراتيجيات الأمريكية؟ وفي الكم الهائل من التناقضات التي لا تجد لها تفسيرا لدى المؤيدين والمعارضين لسياسات الرئيس الأمريكي إلا «التخبط» و «الإرباك».

    ثمة إقرار أمريكي، وغير أمريكي، بتراجع « الدور القيادي» الذي تلعبه الولايات المتحدة على مستوى العالم، وما يوازيه من إقرار بتراجع في « المكانة» التي تتمتع بها. وهو تراجع يلقي بثقله على مضمون الإستراتيجية القومية، وما دونها من الاستراتيجيات التي تسترشد بها. أما النقاشات الدائرة حول الإستراتيجية القومية لسنة 2015 فجاءت بمثابة الصدى لتلك « النقاشات» الدائرة حول مكانة أمريكا ومصير النظام الدولي، والتي تدور رحاها بالأساس في أمريكا وأوروبا.

     لكن سواء كان التراجع بفعل عوامل خارجية أو داخلية، فسوف يظل في النهاية خصما من المكانة والنفوذ. والسؤال هنا: ما هو مقدار التراجع؟ وما هو مستوى الخصم؟ وهل سيؤديان إلى نوع من الانزواء، بما يكفي لإعادة الولايات المتحدة إلى عزلتها عن العالم؟ أم إلى نهاية الدور الأمريكي؟

  كان سقوط الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، وكذا الاتحاد السوفياتي، وسيادة الأحادية القطبية، من أبرز تداعيات حرب الخليج الثانية سنة 1992. وفي تلك الفترة كان هناك إستراتيجية أمريكية كتب عنها السفير ومساعد وزير الخارجية الأمريكية،  Martin S. Indyk، في مقالته:«عودة إلى لعبة الشرق الأوسط[4] – 17/2/2015»، قال فيها:

     «كان للولايات المتحدة إستراتيجية للشرق الأوسط عرفت بإستراتيجية الأعمدة، وأساسها العمل مع القوى الإقليمية الملتزمة بالحفاظ على الوضع القائم – إيران والسعودية وإسرائيل وتركيا». لكن « بعد عام 1992، حين أصبحت الولايات المتحدة القوة المسيطرة ..تبنّى بوش، المولود عام 1941، وكلينتون المولود عام 1942، إستراتيجية واضحة ومتوسّعة للحفاظ على الاستقرار، تضمنت ثلاثة مكونات:

1. السلام الأمريكي – حل شامل تدعمه أمريكا للصراع العربي الإسرائيلي؛

2. الاحتواء الثنائي لاثنتين من قوى المراجعة – العراق تحت حكم صدام حسين وإيران تحت حكم آيات الله؛

3. الاستثنائية العربية – تم إعطاء المستبدين العرب، شركاء أمريكا في الحفاظ على نظام الشرق الأوسط، إشارة خضراء عندما يتعلق الأمر بمعاملة مواطنيهم». لكن « الاستثنائية العربية ساعدت على إنتاج الثورات العربية التي اجتاحت المنطقة» …

  ويعلق السفير Indyk على هذه الإستراتيجية بالقول:

     « في سياق الحفاظ على النظام فإن الإستراتيجية عملت بشكل جيد لمدة عقد، لكن كل شيء تساقط في أعقاب 11 سبتمبر؛ (حيثهجرت الولايات المتحدة الاحتواء في سياق تغيير الأنظمة، مسقطة صدام حسين، بتهور فتح الأبواب من بغداد إلى إيران، كما توقفت عملية السلام العربية الإسرائيلية، وقاومت بعناد المحاولات المتعددة لإعادتها للعمل … وخلال تلك العملية انهار النظام القائم، وتم استبداله بأنظمة فاشلة، ومناطق غير محكومة، وصعود القاعدة وداعش. لا يجب أن يشعر المرء بحنين للنظام القديم: لقد كان استقراره كثيرًا ما يؤدي إلى صراعات وانقلابات، كما كان ثمنه هو القمع. وقد جلب انهيار النظام القديم ثلاثة صراعات إلى الصدارة، يغذي بعضها بعضًا، وتخلق الاضطراب الحاد في جميع أنحاء المنطقة».

     وفقا لشهادة Indyk؛ فقد بدت الولايات المتحدة آنذاك أشد عدوانية وغطرسة من أي وقت مضى. لكن بعد مضي أقل من عام على هجمات 11 سبتمبر؛ وأمام تجمع مناهض للحرب في ولاية شيكاغو في أكتوبر سنة 2002، وخلال الإعداد لغزو العراق واحتلاله، حدد الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، بعبارته الشهيرة موقفه من الحرب قائلا: «I don’t oppose all wars. What I am opposed to is a dumb war. What I am opposed to is a rash war. = أنا لا أعارض الحروب لكني أعارض الحرب الغبية والمتهورة»[5]كان على « العبارة» أن تنتظر ست سنوات ليجري استعادتها على أوسع نطاق.

    أما قيمة « العبارة» فتكمن في أن (1) أوباما وقتها لم يكن معروفا في الساحة السياسية الأمريكية، وأن (2) الساحة السياسية والمجتمع الأمريكيان كانا يتميزان غيظا، جراء ما ألحقته بهما هجمات 11 سبتمبر من إذلال، وأن (3) حكام الولايات المتحدة آنذاك ممن عرفوا بـ «المحافظين»، كانوا غارقين في قيادة بلادهم عبر الأيديولوجيا، وأن (4) مثل هذه « العبارة» لن تجد لها صدى يذكر إلا لدى أولئك القلة المناهضة للحرب، وأن (5) « العبارة» سبقت انتخابه عضوا ديمقراطيا في مجلس الشيوخ الأمريكي سنة 2004. وأنه (6) احتاج بعدها إلى أربع سنوات كي يصل إلى الرئاسة الأمريكية. فهل يمكن لـ « العبارة»، في مثل هذه الظروف، أن تجد لها حيزا خارج نطاق الأيديولوجيا!!؟ ربما، للوهلة الأولى وحتى الثانية، تبدو الإجابة كذلك. إذ أنه للوهلة الأولى يتبين أن (1) نمط التفكير هذا؛ لدى الرئيس الأمريكي قديم، وهو نمط ينزع إلى حد ما إلى الأيديولوجيا. وفي الوهلة الثانية (2) تبدو أطروحته هذه ردا أيديولوجيا صريحا على المحافظين الجدد، أمثال بول وولفويتس وريتشارد بيل ودونالد رامسفيلد وبوش الأب والابن.

    فإذا قبلنا، مبدئيا، بأطروحة الأيديولوجيا، وقمنا بتفكيك إستراتيجية 2010 وحتى 2015 لوجدنا أنهما، بأدق تفاصيلهما، انعكاس لفكر أوباما، والفريق المحيط به والشبيه بـ «المحافظين الجدد»[6]، وليس تعبيرا عن مسألة أمن قومي يعلو أية آراء شخصية. ولو تتبعنا سلسلة الوثائق الإستراتيجية، الأدنى منزلة، لما اختلفت النتيجة أبدا. وفي كل الحالات سيكون صعبا جدا الوقوف على حقيقة السياسة الأمريكية التي يكتنفها الغموض شبه التام، بسبب شدة المفارقات إنْ لم نقل التناقضات، التي يرجعها البعض إلى تضخم مجلس الأمن القومي[7] في عهد أوباما بصورة غير مسبوقة بحيث وصل التنافس فيه إلى حد الفوضى العارمة.

  مع ذلك؛ فالأيديولوجيا ليست إلا انعكاسا، سلبيا أو إيجابيا، للواقع. ولكونه ديمقراطيا فلن يخرج أوباما في سياساته واستراتيجياته عن المنطق الوظيفي الذي تدار به الولايات المتحدة. فلما يكون الجمهوريون في الحكم فالتركيز غالبا ما يكون على السياسة الخارجية، حيث الهيمنة الدبلوماسية، والدفاع، حيث تجد الحروب لها حيزا لممارسة « الصيد» و «القنص». ولما يكون الديمقراطيون في الحكم سيكون التركيز على « الأمن» و «الاقتصاد». هذه هي المعادلة التي تحكم الولايات المتحدة، وتؤدي إلى التداول السلس على السلطة بين ثنائية حزبية لا ينازعها أحد، لأنها تقوم على تلبية احتياجات أمريكا وليس احتياجات الحزب. فالجمهوريون لا يذهبون للحروب إلا باقتصاد جيد، مثلما أن الديمقراطيين لا يصلون إلى السلطة دون أن تتوفر لهم الفرصة لمعالجة مخلفات حروب الجمهوريين في الأمن والاقتصاد. كل هذا سنجد ترجماته في استراتيجيات الأمن القومي في عهد الديمقراطيين.

   لكن قبل التوقف عند التحولات الكبرى التي تثيرها استراتيجيات الأمن القومي، ينبغي ملاحظة التراتبية في الاستراتيجيات، كما عرضها Peter D. Feaver في مقالته التي علق فيها على استراتيجيا الأمن القومي لسنة 2015: « كيف تقرأ الإستراتيجية العسكرية الوطنية الجديدة لأمريكا[8] – 6/7/2015»؟، ولفت فيها الانتباه إلى « عدة وثائق تتسق مع بعضها بشكل منطقي، ويجري إعدادها بصورة متزامنة أو غير متزامنة» بسبب التنافس بين المجموعات والوكالات المتخصصة. وهي على التوالي من حيث الأهمية:

  • «إستراتيجية الأمن القومي، .. يوقعها الرئيس، وتوضح الأهداف الأوسع وتناقش كيفية تكامل جميع عناصر القوة الوطنية من أجل تحقيق تلك الأهداف».
  • ·      «إستراتيجية الدفاع الوطني، .. يوقعها وزير الدفاع، وتركز على دور وزارة الدفاع في تطبيق الإستراتيجية المصاغة في إستراتيجية الأمن القومي. وتنشر … أحيانا كوثيقة قائمة بذاتها، لكنها توصف كجزء من تقرير مراجعة الدفاع الرباعية».
  • ·      «الإستراتيجية الوطنية العسكرية، … تركز على دور الجيش النظامي في دعم إستراتيجية الدفاع الوطني وإستراتيجية الأمن القومي».
  • ·      «استراتيجيات الخدمة الفردية .. تركز على أدوار، القوات الجوية، والبحرية، والبرية».

 

 


[1] Joseph S. Nye: « هيمنة أم تفوق أمريكي؟ – 9/3/2015»، موقع « بروجيكت سينديكيت»، على الشبكة: http://cutt.us/ZI94

[2] تقرير« استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنة 2010»

[3] « شهادة الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك»، مقابلة مع الصحفية Amy Goodman، موقع « يوتيوب – 20/3/2011»، على الشبكة: http://cutt.us/RVZqu، وكذلك رابط آخر بعنوان:  «gegen den Irak, Iran, Syrien und Libyen seit langem geplant»http://cutt.us/DpcGJ

[4] Martin S. Indyk« عودة إلى لعبة الشرق الأوسط – 17/2/2015»، موقع« brookings.ed »، على الشبكة:http://cutt.us/HhDFZ، فريق ترجمة موقع« راقب»: http://cutt.us/eM8h4   

[5] Barack Obama on War & Peace، موقع « ontheissues»، على الشبكة: http://cutt.us/eS8zp

[6] هذا توصيف الكثير من الأمريكيين، ومن بينهم Paul Craig Roberts في مقالته:« البنتاجون: أمريكا لن تكون آمنة حتى تغزو العالم»، 10/7/2015، موقع« counterpunch»، على الشبكة: http://cutt.us/K8JGx

[7] في تعليقة على استقالة وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هيغل، نقل مراسل قناة « الجزيرة» في العاصمة الأمريكية – واشنطن، عبد الرحيم فقراء، عن أن: « بعض المصادر نقلت عن هيغل امتعاضه من مجلس الأمن القومي لأن باراك أوباما يحيط نفسه بمن يوصفون بالموالين له تماما، ولفت إلى أن المصادر ذاتها أكدت أن هيغل كان “يعجز عن إيجاد صوته في مجلس الأمن القومي». للمتابعة: « وزير الدفاع الأميركي يستقيل وأوباما يشيد به»، 24/11/2014، موقع « الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/VWNyc

[8] By Peter D. Feaver: « كيف تقرأ الاستراتيجية العسكرية الوطنية الجديدة لأمريكا – 6/7/2015»، موقع « foreignpolicy»، على الشبكة: http://cutt.us/1uFjA، فريق ترجمة موقع « راقب»: http://cutt.us/CSPN8

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى