كتاباتكتابات مختارة

الاجتهاد والاستنباط المقاصدي ثمرة الانسجام بين الوحي والعقل

الاجتهاد والاستنباط المقاصدي ثمرة الانسجام بين الوحي والعقل

بقلم د. محمد القطاونة

فإن مساحة العقل عند الوحي ومساحة الوحي عند العقل قضية شغلت  دائرة الفكر الاسلامي وخضعت لمسميات متعددة منها السمع والعقل وكذلك الخبر والعقل، والنص والعقل، والبيان والبرهان، وتُعد هذه المسألة من أهم المسائل في الفكر الاسلامي فعليها كان مدار الخلاف بين الفرق الإسلامية بحسب اتخاذ كل منهما مصدراً وآليات في الفهم فنشأة الخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرها من الفرق الإسلامية، وكان لذلك أثر على المدارس الفقهية كذلك، وتعمق هذا الخلاف في واقعنا المعاصر حين دخلت الثقافة الغربية والقت بإرثها التاريخي والديني على فهم التصور الإسلامي الصحيح  فأحدثت انفصاماً وانفكاكاً بين مسألة الوحي والعقل، فنشأت بذلك المذاهب العلمانية والإلحادية في عالمنا العربي والاسلامي، فكل هذه الاتجاهات القديمة والمعاصرة انطلقت في انحرافاتها بسبب عدم فهم نصوص الوحي التي تبين الانسجام المتكامل بين الوحي والعقل . من هنا جاءت اهمية وضع القواعد الصحيحة وبيان أولويات مصادر المعرفة الدينية لضبط حركة إقصاء الوحي وإلغاء دوره أو تحجيم مساحته في التصور الإسلامي، وكذلك بيان دور ومساحة العقل في التصور الإسلامي وبيان مجالاته ودوره في النهوض الحضاري للأمة الاسلامية. لذلك كان لا بد من ضرب الأمثلة والشواهد على الانسجام بين الوحي والعقل في ساحة الفكر الإسلامي وتفعيلها في الواقع، وهذا من شأنه إلغاء دور المناهج العلمانية التي تسعى لتكريس فكرة البينونة بين الوحي والعقل في ساحة الفكر الإسلامي، وان الناظر الى ساحة الفكر الاسلامي([1]) يجد شواهد كثيرة تتجلى من خلال ذلك الانسجام الحقيقي نظرياً وتطبيقياً بين الوحي والعقل، وما انتجه المفسرون والأصوليون والفقهاء عبر التاريخ الإسلامي ليس الا ثمرة و نموذجاً واضحاً لذلك الانسجام الذي نتحدث حوله . وخذ أمثلة على ذلك: الاجتهاد والاستنباط ومقاصد الشريعة في الفقه الإسلامي  فبنظرة إلى مصدر الوحي الأول القران الكريم نجد أنه يفتح الباب واسعاً أمام حركة العقل الاجتهادية، فعلى مستوى التشريعات والمعاملات فتح باب الاجتهاد في تفسير القضايا التي لم تقرر بنصوص قطعية، لا في الكتاب ولا في السنة الصحيحة، كذلك فتح المجال واسعاً للاجتهاد في القضايا والمسائل التي سكت عنها في ضوء القواعد المستنبطه، فعلم أصول الفقه مثلاً ثمرة لذلك الانسجام بين الوحي والعقل، صاغه الإمام الشافعي في كتابه الرسالة الذي يعتبر أكبر اجتهاد عقلي في فهم النص الفقهي واستنباط أحكامه. ويعتبر منهج الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات”([2]) ايضاً نقلةً نوعيةً في فهم الوحي بأدوات العقل، أو بما يعرف بمقاصد الشريعة. فقد بنى الشاطبي المنهج الأصولي على استجلاء مقاصد الشريعة لعظيم أهميتها في عملية استنباط الأحكام. ووجه جهده لإنتاج إضافات نوعية لإعمال العقل بالوحي المنزل، ذلك أن الشاطبي اعتبر المقاصد أساس النظر الأصولي، وسعى لتقعيدها علماً قائماً بذاته، الذي جعله يؤسس لفقه التنزيل، فإن هذا الجانب مثّل البعد الغائب في الفكر الأصولي. وبهذا العمل الجبار انتقل الشاطبي بعلم أصول الفقه من دائرة التنظير للفهم إلى دائرة التنظير للتنـزيل، وقد مكنّه هذا المنحى الذي اتخذه من تطوير البحث في بعض الأدلة، كالاستحسان، والمصلحة، وسد الذرائع، من إخراج علم أصول الفقه من دائرة المناقشة النظرية حول المفهوم والحجية إلى استثماره منهاجاً وآليات لفهم الواقع، واعتبارها عند تنـزيل الأحكام الشرعية([3])

دكتور العقيدة والفلسفة جامعة UM/ ماليزيا

[email protected]


([1])_ الفكر الإسلامي هو الجهد البشري لفهم النص الذي لا يعتريه التغير بينما تتفاوت الأفهام في فهم وتأويلات النص المقروء ويجعله في آن واحد ذا معنى بالنسبة لمحيطه الفكري- الاجتماعي – السياسي، وبصيغة أخرى نستطيع أن نقول أن الفكر الإسلامي هو حركة العقل المسلم منذ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم في المعارف الكونية العامة المتصلة بالله سبحانه وتعالى والعالم والإنسان ، والذي يعبر عن اجتهادات العقل الإنساني لتفسير تلك المعارف العامة في إطار المبادئ الإسلامية عقيدة وشريعة وسلوك ، يقول محسن عبد الحميد بأن كل فكر بشري نتج عن فكر مستقل ولم ينطلق من مفاهيم الإسلام الثابتة القاطعة في القرآن والسنة النبوية الصحيحة ، لا يمكن وصفه بأنه فكر إسلامي بل بوصفه فكراً عاماً لم ينطلق من الإسلام .انظر: الجابري ، محمد عابد. نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، (بيروت: الناشر المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة،1993م)، ص11.

اُنظر: عبد الحميد، محسن. تجديد الفكر الإسلامي، (الولايات المتحدة الأمريكية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1416هـ- 1994م)، ص42.

([2])- انظر: الشاطبي. مقدمة الموافقات في أصول الشريعة، قدم له ووضع تراجمه عبد الله دراز، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2004م_ 1435ه).

([3]) انظر: الدسوقي، محمد. نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه، (فرجينيا: مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد الثالث، 1996م)، ص111-148.

انظر: العلواني، طه جابر. أصول الفقه، منهج بحث ومعرفة، (فرجينيا: مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي الطبعة ال ثانية1995م)

 وكذلك انظر: عطية، جمال الدين. “قواعد في منهجية تجديد علم أصول الفقه”، (المستقلة: العدد 164، ط1، 1997م،) ص189.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى