كتب وبحوث

أطروحة «ما بعد الإسلام السياسي»: أزمة بناء النسق

أطروحة «ما بعد الإسلام السياسي»: أزمة بناء النسق

بقلم بلال التليدي

مقدمة

ثمة التباس أكاديمي كبير حول أطروحة «ما بعد الإسلاموية»، ولا يتعلَّق الأمر بمفهومها وأبعادها النظرية فقط، وإنما يتعلَّق أيضًا بزمنها وسياق تشكُّلها، والتداخل الكبير لمقولاتها بمقولات أطروحاتٍ أخرى سابقة، حاولت أن تدرس الإسلاميين وتقدِّم نموذجًا تفسيريًّا لسلوكهم. والذي يزيد  الأمر تعقيدًا هو أن بعض الدارسين للإسلام السياسي قد تأرجح سلوكهم الأكاديمي بين أكثر من أطروحة في زمنٍ قصيرٍ (بين أطروحة الفشل وأطروحة ما بعد الإسلاميين)، دون أن يقدموا أيَّ تفسيرٍ نظريٍّ لهذا التحوُّل، أو على الأقل حصل لديهم تداخل بين «إخفاق الإسلام السياسي» و«ما بعد الإسلاميين»، وتبنَّى بعضهم أطروحة التحولات[1]، ودافع عنها في مرحلةٍ زمنيةٍ ليست بالقصيرة، لكنه لم يستشرف أبدًا أطروحة «ما بعد الإسلاميين»[2]. علمًا بأن بعض روَّاد أطروحة «ما بعد الإسلاموية» ومؤسِّسيها كانوا يقدمون أطروحتهم -في سياقات محدَّدة- غير بعيدةٍ عن أطروحة التحولات نفسها[3]، مما يطرح أكثر من سؤالٍ على هذه الأطروحة: فهل هي مستقلَّة تتمايز عن غيرها؟ أم أنها مسارٌ من العلميات والتحولات يجعل من الأطروحات الأخرى السابقة مجرَّد محطاتٍ ضمنها؟ أم أن الأمر يتعلَّق بعدم استقرار الأطروحة نفسها وخضوعها للتحوُّل بحسب ما انتهى إليه مستقبل الإسلاميين؟

من الصعب أن نغامر بأيِّ جواب في هذا الصدد قبل أن نرسم صورة الطيف الأكاديمي الذي حاول مقاربة ظاهرة الإسلام السياسي رسمًا مجملًا، حتى نتبيَّن لحظة ما قبل أطروحة «ما بعد الإسلاموية»، وهي خطوة لا بدَّ من القيام بها -في نظرنا- قبل أن نتبيَّن تلك اللحظة التي تشكَّلت فيها أطروحة «ما بعد الإسلاموية»، وسياق تطوُّرها كما ارتسمت عبر أهم مؤسسيها، وما آلت إليه في أدبياتهم المتأخرة، كما يُعيننا ذلك في إدراك خارطة التفاعلات والتداخلات والتقاطعات التي حدثت بين الأطروحات المختلفة، تلك الخارطة التي  تقدم تصورًا عن مدى استقلال الأطروحة بمفاهيمها وأبعادها النظرية، أو عدم وضوح براديغمها ونموذجها المعرفي.

ومن الصعب أيضًا أن نأتي على مجمل الطيف الأكاديمي الذي حاول مقاربة ظاهرة الإسلام السياسي؛ إذ هناك عدد كبير من الأطروحات التي حاولت الاقتراب من هذه الظاهرة، معتمدة زوايا نظرٍ مختلفة: سيكيولوجية وثقافية وهوياتية وأنثروبولوجية وسوسيو-اقتصادية[4] وسياسية، ولكن لا يهمُّنا في هذا الإطار المنهجي الذي نحاول فيه التعرُّف إلى مرحلة ما قبل تشكُّل أطروحة ما بعد الإسلاموية، لا يهمُّنا تفسير محددات بروز ظاهرة الإسلام السياسي، والعوامل التي يرجع إليها ذلك، فالدراسات التي قاربت هذا الموضوع تكاد لا تُحصر، فضلًا عن تعدُّدها واختلاف مقترباتها[5]، ومركزية النظرة الاستشراقية فيها[6].

لا تهمُّنا هذه المقاربات كثيرًا؛ لأنها تطرح سؤال نشأة الإسلام السياسي، بينما مجال الدراسة هو بحث تحولات الإسلام السياسي وما بعده، والأطروحات التي تزامنت أو سبقت أو أعقبت لحظة تشكُّل أطروحة «ما بعد الإسلاميين»، ونقصد بذلك: أطروحة فشله وإخفاقه، وأطروحة التحولات.

وهي أطروحات لا تدرس مستقبل الإسلاميين في الحقيقة، بقدر ما تدرس شكل التعاطي معهم: بين أطروحة ترى أن العقل السياسي للإسلاميين سينتهي إلى القصور، وأن ممارساتهم هي الأخرى ستصل إلى بابٍ مسدودٍ وسيخفق المشروع، وهو ما قد يعني تركهم لمصيرهم القدري المحتوم[7]. وأطروحة مغايرة تتبنَّى مقولات تحوُّل الإسلاميين، وإمكانية تطبيعهم مع قواعد البيئة السياسية، وهو ما يعني إنتاج سياسة ترشيدية للتعاطي معهم، وهي سياسة تدفعهم نحو الاعتدال[8].

لا يهمنا كثيرًا بحث الأسبقيات بين هذه الأطروحات، فمهما اختلف زمن تشكُّل كل أطروحة على حدة، فلا يخرج عن سياق الجدل الذي حكم صنَّاع القرار السياسي ومراكز الصناعة البحثية المختصَّة في دراسة التحولات الديمقراطية في العالم العربي، حول شكل التعاطي مع الإسلاميين، مع التأكيد هنا على أن لحظة إطلاق المبادرة الأمريكية لدعم التحولات الديمقراطية سنة 2002، لم تكن لحظةً مفصليةً في نضج هذه الأطروحات فقط، وإنما في صراع الحجج بينها أيضًا.

كما نودُّ الإشارة أيضًا إلى أن الدراسات التي اهتمَّت بالحركات الاجتماعية، وانتهت إلى تأصيل أطروحة «ما بعد الإسلاموية»، ووجدت نفسها مضطرةً إلى إقحام الحركات الإسلامية ضمن فروع الحركات الاجتماعية[9]، قد انتهت هي الأخرى -بوعي منها أو دون وعي- إلى أن تجد نفسها معنيَّة بالنقاش حول شكل التعاطي مع الإسلاميين، سواء من جهة اصطفافها الضمني مع أطروحة التحولات، أو من خلال ما توفره من نتائج بخصوص النزوع الديمقراطي لما بعد الإسلاموية، لا سيما أن إحدى صيغ هذه  الأطروحة[10] ترى أن الإسلاميين في نسختهم المتحولة جزءٌ من ظاهرة ما بعد الإسلاموية، بل إن تحولات الإسلاميين هي التي أملت الملاحظات والمؤشرات التي انتهت ببعض الدارسين إلى صياغة أطروحة ما بعد الإسلاموية.


[1]  نقصد الباحث الفرنسي أوليفيه روا.

[2]  نقصد الباحث الأمريكي ناثان براون.

[3]  نقصد الباحث الإيراني آصف بيات.

[4]  حاول الباحث عكاشة بن المصطفى بَسْطَ هذه المقاربات التي حاولت دراسة بروز ظاهرة الإسلام السياسي، ولم يكتفِ بالرصد والتحليل فقط، وإنما مارس عليها غير قليل من النقد العلمي. انظر: عكاشة بن المصطفى، الإسلاميون في المغرب (الدار البيضاء: دار توبقال، ط1، 2008م).

[5]  انظر مراجعتنا للكتاب التي نُشرت بجريدة التجديد المغربية، 9 يونيو 2008م، ونُشرت على الرابط:

https://www.maghress.com/attajdid/42296

[6]  عكاشة بن المصطفى، الإسلاميون في المغرب، مرجع سابق.

[7]  نشير إلى كتابات جيل كيبل ودراسات أوليفيه ورا.

[8] نشير إلى أطروحة التحولات كما عبَّر عنها معهد واشنطن للسلام الدولي وعدد من المراكز البحثية الأوروبية والأمريكية القريبة من أطروحته.

[9]  نشير على وجه الدقة إلى مقال آصف بيات:

Asef Bayat (2005) Islamism and Social Movement Theory, Third World Quarterly

[10]  نقصد صيغة آصف بيات لا صيغة أوليفيه روا.

(المصدر: مركز نهوض للدراسات والبحوث)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى