كتب وبحوث

تجديد الخطاب الدّيني: مؤامرة متجدّدة لتحريف صحيح العقيدة 1من 6

تجديد الخطاب الدّيني: مؤامرة متجدّدة لتحريف صحيح العقيدة 1من 6

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرَّحيم

 

“وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)” وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)” (سورة الزُّخرف: آيات 33-35).

مقدّمة

أرسل الله تعالى رسوله مُحمَّدًا (ﷺ)، بالهدى ودين الحقِّ؛ ليظهره على الدِّين كلِّه، ولو كره الكافرون…ولو كره المشركون؛ ونزَّل عليه الكتاب تبيانًا لكلِّ شيء، وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين…هكذا أخبرنا بيان الحقِّ في مُحكم آيات القرآن الكريم، آخر كتاب سماوي لآخر الأمم. جعل الله في آيات القرآن هدىً للضالِّين عن سبيل الحقِّ، والحائرين في مساعيهم الحياتيَّة؛ وجعله رحمةً للعصاة والمذنبين بأن أرشدهم إلى مغفرة ربِّهم، ورحمته التي وسعت كلَّ شيء؛ كما جعله بشرى للمظلومين بانتصارهم على عدوٍّ، ولو بعد حين، وللمعدومين بأنَّ الرزق سيأتيهم من فضل ربِّهم بالصبر واتِّباع سبيل الحقِّ، وللصابرين بأنَّ جزاءهم النعيم الأبدي، جاعلًا التقوى والعمل الصالح والتضحية بالنفس والمال، لتقل التخلِي عن ملذَّات الدنيا التي حرَّمها عليهم-فما بالك بالتي أحلَّها لهم-مقابل الهناء والرغد وحُسن القرار في دار الآخرة. غير أنَّ ما وعد به رسول الله للناس كافَّة لم يعد يروق لدعاة التحرُّر من ربقة الدِّين تحت مُسمَّى تطبيق النهج العلماني الغربي، أملًا في تحقيق ولو جزءٍ ممَّا حققه الغرب من مُنجزات ماديَّة منذ عصري النهضة والتنوير، في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد. تتعالى المطالبات بتطبيق مفاهيم العلمانيَّة الغربيَّة، استنادًا إلى عقائد محسوبة على الإسلام، تقزِّم العبادات والفرائض والشرائع المنصوص عليها في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة المُطهَّرة إلى مجرَّد طقوس روحانيَّة؛ على اعتبار أنَّ الدِّين علاقة بين الخالق والمخلوق تعتمد على الإيمان القلبي، وأنَّ البارَّ بالإيمان يحيا، وأن متطلّبات زمن الحداثة تفرض تجديد الخطاب الدّيني ليتناسب مع إيقاع العصر.

لا تقتصر دعوة التحرُّر ونشر العلمانيَّة في عصرنا هذا على خريجي الجامعات الغربيَّة، من دارسي الفلسفات الحديثة، أو لتقل الفلسفات الوثنيَّة القديمة المحدَّثة، والعلوم الحديثة، بل إنَّ الأمر يمتدُّ إلى حفظة القرآن الكريم وخريجي المعاهد الدينيَّة الإسلاميَّة، ممن رأوا في إحياء فِكر المعتزلة والتركيز على الجانب الروحاني في العقيدة الحلَّ الموفِّق بين الحفاظ على مظهر الدِّين واتِّباع النهج الغربي. والسؤال: هل الهدف من الدعوة إلى التحديث والتمدين حقًّا هو الارتقاء بحال المسلمين والقضاء على أسباب تخلُّفهم، أمَّ أنَّ الهدف الحقيقي هو تخلِّيهم عن الإسلام لاعتناق غيره، كما أوضحت الدراسة السابقة عن وسائل الإعداد لألفيَّة المسيح؟ وهل ينطبق على دعوة المخالفين لصحيح الرسالة السماويَّة ومعتنقي عقائد تمدُّ بجذورها في الديانات الوثنيَّة القديمة للمسلمين بالخروج عن صحيح دينهم، واتِّباع سُنن الغرب، قوله تعالى “وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً”، فيكون الحلُّ “فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ”، كما تُكمل الآية الكريمة (سورة النِّساء: آية 89)؟ وهل الحلُّ هو التصوُّف والإرجاء ونشر الفكر الشيعي وعلوم المعتزلة؟ وهل الحقُّ عند الفئة الَّتي أوَّلت المقصود بما تلقَّاه آدم من كلمات للتَّوبة والاستغفار، في قوله تعالى “فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” (سورة البقرة: الآية 37)، على أنَّه تمائم وتعاويذ لتسخير قوى الكون الخفيَّة، ووضعوا علم التَّلقّي، أو القبَّالة (קַבָּלָה‎)، وهو العلم الباطني اليهودي؟ أم أنَّ الحقَّ هو في اتّباع آدم وذريَّته الهدى المنزَّل من الله تعالى إلى أنبيائه المأمورين بتبليغ رسالات الله، مصداقًا لقوله تعالى “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (سورة البقرة: الآية 38).

 1.تعريف الحداثة، ونشأتها، وسندها الفكري

وفق ما تنشره موسوعة ويكيبيديا الرقميَّة عن نشأة الحداثة، Modernity، فقد بدأت تلك الحركة الفكريَّة في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد، استجابة للتغيُّرات الفكريَّة والاتجاهات الثقافيَّة المتأثِّرة بالتطوُّر العلمي الذي شهده العالم الغربي، وبخاصَّة في مجال التقنيات الحديثة. تطوَّرت الحركة الحداثيَّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتوالت المنجزات الفكريَّة التي أكسبتها الشرعيَّة، ومنحتها الأولويَّة في الاتِّباع، في ظلِّ الوفرة الماديَّة الهائلة التي جناها الغرب من التشجيع على تطوير العلوم الحديثة، والخروج بمخترعات غيَّرت طبيعة ممارسة البشر مهام حياتهم اليوميَّة؛ ولذلك يرى البعض أنَّ بداية الحداثة يؤرَّخ باختراع الألماني يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة عام 1436 ميلاديًّا، بينما يرى البعض أنَّ البداية الحقيقيَّة للحداثة كانت مع ثورة القس الألماني مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكيَّة، وتأسيس المذهب البروتستانتي، أي بداية من عام 1520 ميلاديًّا. غير أنَّه من المسلَّم به أنَّ أكثر ما تأثَّر به الفكر الحداثي وشكَّل مفاهيمه الثورة العقلانيَّة والاتِّجاه إلى تطبيق المفاهيم الاستعرافيَّة في البحث العلمي، في العلوم التطبيقيَّة والنظريَّة معًا، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد، فيما عُرف بعصر النهضة الإيطاليَّة، وعصر التنوير الأوروبي.

في مقال بعنوان ما الحداثة؟، يشير الدكتور أحمد محمَّد زايد، أستاذ أصول الدِّين في جامعة الأزهر في مصر، إلى أنَّه وفق المفهوم الغربي، ترتبط الحداثة بنظام اجتماعي متكامل، يعتمد على العقلانيَّة والتحرُّر من القوالب القديمة، استنادًا إلى رأي إيمانويل كانت، وهو فيلسوف ألماني صاحب النظريَّات الأشد تأثيرًا في الثقافة الغربيَّة، وتعتبر نظريَّاته آخر ما أنجزه عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلادي، لينطلق بعد ذلك، ووفق هذه الإسهامات الفكريَّة، الفكر الحداثي بزعامة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في القرن التاسع عشر. أوصى إيمانويل كانت باستخدام العقل دون توجيه خارجي؛ لاستقبال “الأنوار” التي تتنزَّل على الإنسان في فترات التأمُّل. وكان رأي كانت صريحًا في رأي الدِّين في منتج العقل، بتأكيده على ضرورة التحرُّر من “المُقدَّس”، لو تعارَض مع المنتج العقلي. ويعلِّق زايد في مقاله آنف الذِّكر على الدعوة إلى تغليب العقل على كلِّ الموروثات، بما فيها النصوص الدينيَّة المنزَّلة من السماء، قائلًا أنَّ دعاة الحداثة بذلك يقدِّمون “تصورًا هدامًا لحياة الناس يشمل مختلف نواحيها”. من هنا، يستنتج زايد أنَّ الحداثة “فكرة ضد الله والغيب”؛ لأنَّها تقوم على أساس اتِّباع إملاءات العقل وحدها، وازدراء أيِّ رأي مخالف، ولو كان رأي الدِّين، مما يستوجب فصْل الدِّين عن الأنشطة الحياتيَّة، أي تطبيق العلمانيَّة، سرِّ النهضة الغربيَّة.

يستعرض زايد آراء بعض دعاة الحداثة العرب عن مفهومها، ومن بينهم الدكتور جابر عصفور، أستاذ اللغة العربيَّة في جامعة القاهرة المصريَّة ووزير الثقافة المصري الأسبق، الذي يرى أنَّ الحداثة تقوم على استكشاف أسرار الكون، من خلال تعميق البحث عن الحقيقة، ورفض المُسلَّمات، ما يتطلَّب التجديد المتواصل للمبادئ، واتِّباع العقل في الوصول إلى ما يتناسب مع كلِّ عصر، في إطار من التحرُّر من القيود التقليديَّة. أمَّا الشاعر والمفكِّر السوري النصيري أحمد سعيد “أدونيس”، فقد رأى في كتابه الثابت والمتحوِّل (1973) الحداثةَ صراعًا بين “السلفيَّة” والاتجاه إلى الخروج عن سيطرتها من خلال استحداث نهج جديد في تصريف الأمور الحياتيَّة. ويتَّفق معه اللبناني ناصيف اليازجي، أحد أشهر دعاة العلمانيَّة في العالم العربي، مع هذا الأمر بأن رأى الحداثة تمرُّدًا على التقاليد والأعراف. وأهم ما أشار إليه الدكتور أحمد محمَّد زايد من آراء الحداثيين المعاصرين اعتبارهم أنَّ الحداثة عبارة عن دعوة إلى إعادة صياغة الفكر العالمي وفق ما يمليه العقل، وعلى أساس المذهب العقلاني في الفِكر، وإعادة تصميم هيكل المجتمع العالمي، على أساس حضاري ومعرفي جديد يتوافق مع إيقاع الزمن، الذي تحدده المنجزات العلميَّة الجديدة، التي طوَّرها الغرب باتِّباع المذهب العقلاني. تتعامل الحداثة مع الوعي الإنساني بوصفه خاضعًا للتغيُّر، بحسب المعطيات المتاحة، مما يستوجب التكيُّف مع المعطيات الجديدة، ولو تعارضت مع أي أفكار قديمة، بما فيها الدِّين. كأنَّما تفترض الحداثة أنَّ سُنَّة الله في خَلْقه تتبدَّل وتتحوَّل من جيل إلى آخر، ولم تعرف القرون الأولى التحديث والتمدُّن، ولم يُتح لها من العلم ما أحرزته الهمَّة الغربيَّة، التي تحرَّرت من قيود الدِّين، ولم تعد تضيع وقتها في عبادات تستهلك وقت العمل والإبداع. يشير زايد إلى أنَّ أصل الحداثة هو “الفلسفة والتصورات الغربيَّة التي نشأت في أجواء مخالفة تماما لأجوائنا الإسلاميَّة، وفي ظروف ولأسباب تخالف ظروفنا وأحوالنا كأمة مسلمة تملك تصورات ربانيَّة عن الكون والحياة“. من ثمَّ، يعتبر أستاذ أصول الدِّين أنَّ الحداثة منتج غربي لا يناسب أمَّة دستورها كتاب الله وسُنَّة نبيِّه (ﷺ).

يعتبر الدكتور عوض القرني، أستاذ أصول الفقه والشريعة الإسلاميَّة في جامعة الملك خالد السعوديَّة، من أشهر خصوم الحداثة والعلمانيَّة في العالم الإسلامي، ويعد كتابه الحداثة في ميزان الإسلام (1988) مرجعيًا قيِّمًا للباحثين عن رأي الشرع في اتِّهام الالتزام بصحيح الدِّين بالرجعيَّة، وقد حظي هذا الكتاب باهتمام خاض بفضل حرص الشيخ عبد العزيز بن باز، رئيس هيئة كبار العلماء السعوديَّة، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الأسبق، على تقديمه. يشير القرني في مقدِّمة كتابه إلى أنَّ الهدف من تأليفه تقديم “موعظة لمَن خُدع بالحداثة” من المسلمين، لعلَّه يقتنع بعدم توافُق هذه الحركة الفكريَّة، النابعة من فلسفات غربيَّة مُستمدَّة من الفكر الوثني القديم، مع صحيح الإسلام؛ “فينيبَ إلى ربِّه، ويعودَ إلى أصالته، ويستغفرَ من ذنبه، والله غفور رحيم” (ص14). يبيِّن أستاذ أصول الفقه أنَّ الحداثة “مذهب فكري غربي، وُلد ونشأ في الغرب، ثمَّ انتقل منه إلى بلاد المسلمين” (ص17).

ويبدأ القرني جداله بالإقرار بعدم وجود أيِّ أصل في التاريخ الإسلامي للحداثة يستند إليه دعاتها العصريون، ما عدا ما تتضمَّنه أعمال الملاحدة والفسَّاق والماجنين، على شاكلة الحلَّاج، وابن عربي، والمعرِّي، والقرامطة، مشيرًا إلى أنَّ ما يتَّفق مع الفكر الحداثي الغربي، الذي يدعو إليه المتشدِّقون بأهميَّة الانسلاخ من عباءة التراث الإسلامي، لا يوجد إلَّا في أعمال “الزنادقة والفسَّاق، وغلاة الصوفيَّة من دُعاة وَحدة الوجود، وشعراء الإلحاد، ودعاة الفلسفة اليونانيَّة” (ص26). ويصف القرني دعاة الحداثة العرب بـ “المنهزمين فكريًّا”، الباحثين عبثًا عن “ثوب عربي يلبسونه الفكرة الغربيَّة”؛ فلم يجدوا من أصحاب الفِكر القدامى مَن يتوافق أثره الفكري مع أفكارهم سوى “كلِّ شاذٍّ، ومنحرف من الشعراء والأدباء والمفكِّرين”؛ لأنَّ ديدن هؤلاء كان “المروق على الإسلام، والتشكيك في العقائد، والسخرية منها، والدعوة إلى الانحلال الجنسي” (ص27-28). ويرى القرني أنَّ دعاة الحداثة هم نتاج التشكيل الذهني للمسلمين، الذي حرص عليه أساطين الاستعمار الغربي في سنواته كثومه على صدر الأمَّة المسلمة، إلى أن رحلوا، فتركوا وراءهم أبناء “يخدمون فكرهم ويحققون أهدافهم، فهم لهم منابر دعاية وأبواق تضليل”، مختصًّا بالذِّكر طه حسين وعلى عبد الرَّازق، وآخرين (ص30).

يرى القرني أنَّ دعاة الحداثة أحسنوا التخطيط لنشر أفكارهم، وجاهدوا كثيرًا، حتَّى وصلت الأمَّة إلى ما هي عليه الآن؛ فما حقَّقه هؤلاء “لم يأتِ مصادفةً أو اتفاقًا، بل كان نتيجة خُطط مُعدَّة، وأساليب متَّبعة، ودراسات مستفيضة” (ص115). واعتمدت أساليب هؤلاء في نشر فِكرهم على السيطرة في البداية على وسائل تشكيل الوعي، من وسائل إعلام متنوِّعة، فعمدوا إلى كتم أي صوت منادٍ بالعودة إلى التراث الإسلامي، أو تشويه صورته، وأعطوا الفرصة لأصحاب الميول الحداثيَّة من الشباب إلى البروز إلى السطح ولفت الأنظار. أُفسح المجال أمام الرموز الفكريَّة المُلحدة، واستُقدم بعضهم من الخارج للمشاركة في الندوات، والهدف الأساسي هو تشجيع النَّاس على نبذ تراثهم الديني العريق. هكذا، أصبحت أعمال دعاة الحداثة الخارجة عن أصول الدين، مثالًا للارتقاء الفكري، الموائم لعصر التقنيات الحديثة، وأصبح المخالفون لفِكر هؤلاء على الهامش، ولنا في حالة الدكتور عوض القرني خير مثال، فهو مُعتقل حاليًا منذ سبتمبر من عام 2017 ميلاديًّا، ومُطالب بإعدامه من قِبل النيابة السعوديَّة.

2.مواقف المفكرين الإسلاميِّين المعاصرين من مفهوم الحداثة: الشَّيخ سفر الحوالي نموذجًا

يقدِّم الشيخ سفر الحوالي كتابه الموسوعي المسلمون والحضارة الغربيَّة (2018) بوصفه “رؤية جديدة للعالم أو نظارة جديدة، ننظر بها إلى أنفسنا، وإلى الحضارة الند”، قاصدًا الحضارة الغربيَّة (ص5). أعدَّ الحوالي هذا الكتاب في ضوء دراسة عميقة وطويلة للحضارات الإنسانيَّة، في ضوء القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة، وبعد الاطِّلاع على الفكر الديني غير الإسلامي، وكذلك على العقائد المكوِّنة للفكر الغربي. يحكي الشيخ سفر الحوالي-الداعية الإسلامي المُقال من منصب رئيس قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة أم القرى السعوديَّة-عن العقبات التي واجهت نشر الكتاب، ومنها إجباره على النشر بغير اسمه لإجازة نشره، وتعذُّر إيجاد التكلفة المطلوبة للنشر؛ بسبب منع معاش تقاعُده، الذي كان في الأصل أقل مما يستحق، على حدِّ وصفه. أضف إلى ذلك أنَّ الشيخ يعاني من مشكلات صحيَّة مزمنة، منها إصابته بنزيف دماغي، وكسر في الحوض.

يعرِّف الحوالي نفسه وهدفه في مقدِّمة الكتاب، قائلًا “وأنا لست عدوًا إلا للباطل أينما كان، وصديقًا إلَّا للحق أينما كان، وهذه الأمة المحمدية المباركة هي أمة العدل والحق لا نظلم من ظلمنا ولا نفتري على من افترى علينا، ولا نغدر بمن غدر بنا، ولا نجحد فضائل من جحد فضائلنا، وليس ذلك سياسة براجماتيَّة منا ولا جلبا للمصلحة ودرأ للمفسدة، بل هذا أمرنا ديننا ونص عليه ربنا” (ص8). أمَّا عن دوافع تأليف الكتاب، فهي شعور الشيخ بضرورة الكشف عن عداوة الغرب للإسلام، المتأصِّلة في عقائده الدينيَّة، والتي تتجلَّى في: انحيازه الدائم للكيان الصهيوني، وسعيه إلى محاربة كلِّ نموذج للنمو الاقتصادي يخرج عن دائرته (يضرب المثل في ذلك بتدبير انقلاب عسكري في تركيا عام 2016)، وخلقه عدوًّا من صُنعه أسماه “التطرُّف الإسلامي”، لا يهدف إلَّا لتشويه صورة المسلمين، وإشغالهم به عن عوامل النهضة. ومن تجلِّيات محاربة التطرُّف الديني الذي يُرمى به الإسلام، الهجوم على الصحوة الدينيَّة في “بلاد الحرمين”، ويرى الحوالي في ذلك انتقال من العلمانيَّة اللادينيَّة-فصل الدين عن تدبير شؤون الدولة-إلى العلمانيَّة المحاربة للإسلام (ص9). ولا يجد الشيخ سبيلًا لمواجهة ذلك إلَّا من خلال “الصدع بالحقِّ، والنُّصح للخلق، والصبر على الأذى، وبيع النفس لله، واتِّباع الرسول، ولزوم العدل” (ص11-12).

ينتقد الحوالي مطالبة البعض من دعاة التمدُّن والتحديث باعتناق الثقافة الغربيَّة واتِّباع سُبل نهضته، بما فيها من مفاهيم تعارِض صحيح الإسلام، مشيرًا إلى أنَّ “الغرب آخذ في الانحدار”، ولا عزاء حينها لهؤلاء الدعاة، ممن يهاجمون ثوابت الدين ويرونها سببًا في التخلُّف (ص12). في حين لا يرى دعاة التحديث هؤلاء عيبًا في استعباد الآلة للإنسان، وخضوعه لسلطان الذكاء الاصطناعي. ويشير أستاذ العقيدة إلى معاناة شيوخ الإسلام منذ أمدٍ بعيد في سبيل إحقاق الحقِّ، وعدم تلويث صحيح الرسالة السماويَّة بعقائد وضعيَّة، مستمدَّة من الفكر الوثني المعادي للإسلام، ضاربًا المثل بالأئمة أحمد بن حنبل، وابن تيمية، والشيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب-مؤسس ما يُعرف بالفكر الوهَّابي. وتلخِّص هاتين الآيتين في سورة النساء الصراع الأزلي بين اتِّباع هوى النفس والالتزام بأوامر الله، الذي لم يرسل الأنبياء إلَّا لهداية الناس وتنظيم حياتهم وفق ما يتناسب مع طبيعتهم البشريَّة “وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)”. أليس خالق الإنسان بأعلم بما ينفعه وما يضرُّه؟ هل الحضارة الوضعيَّة أنفع من الشريعة الإلهيَّة، المنظِّمة لحياة البشر وفق فطرتهم؟

يعرِّف الشيخ سفر الحوالي الحضارة وفق المنظور الإسلامي بأنَّها ” وفي ظل الإسلام تقوم الحضارة المستقيمة التي كتابها هو القرآن، وليس “سفر التكوين” و”أصل الأنواع”، ورسولها مُحمَّد (ﷺ)، ليس “هيجل” و “نيتشه”، ومرجعها هو ما صح من الحديث وليس “مقال في المنهج”. وهي الحضارة التي تنشئ الإنسان الحر وليست الحضارة التي تجعل الإنسان عبدا آليًّا، أو رقيقًا للمادة الصماء، أو إنسانًا عدميًّا لا هم له إلا الاستهلاك، واقتناص اللذة والانهماك في الشهوات. وهي الحضارة التي تجعل العلم محكوما بالعدل والأمانة، وليس منفلتًا يتفنن في إنتاج وسائل الدمار، وإبادة المستضعفين. وهي حضارة تعتقد أن المال مال الله، وإنَّما نحن البشر مستخلفون فيه؛ بل إنَّ الوجود الإنساني كله على هذه الأرض إنما هو استخلاف وابتلاء لنا معشر البشر؛ فإمَّا أن نقوم بحق الاستخلاف كما أمر الله، وإمَّا أن نفسد في الأرض ونهلك الحرث والنسل كما يريد منا الشيطان” (ص35).

يعي الحوالي أنَّ الغرب غيَّر خطَّة الهجوم المباشر على الإسلام، معتمدًا خطَّة جديدة تقوم على الطعن في ثوابت الدين، بحجَّة عدم توافقها مع مفردات الحضارة والمدنيَّة الحديثة؛ فتغاضى الغرب بذلك عن وجود مرجعيَّة دينيَّة، ولكن مع اشتراط عدم قيام دولة إسلاميَّة تحتكم إلى الشريعة. يتبنَّى الغرب سياسة طويلة الأمد، تنتظر هلاك الجيل المتديِّن من المسلمين، وتعدُّ جيلًا من المغيَّبين عن صحيح دينهم، اعتقادًا أنَّها بذلك ستقضي على الإسلام بالكليَّة، ويستشهد الحوالي في ذلك بقول الله تعالى عن مشركي قريش، في الآية 30 من سورة الطور، “شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ” لمَّا اقترحوا ترك النبي ماضيًا في دعوته حتَّى يُقضى عليه الموت؛ فتنتهي دعوته معه.

انتقل الغرب، وفق تعبير الحوالي، من “الاستنارة المضيئة إلى الاستنارة المظلمة“، معيدًا النظر في الآراء الفكريَّة لأساطين التنوير، روسو، وديكارت، ومونتسكيو، وفولتير، خاصَّة بعد فشل الماركسيَّة في تحقيق هدفها الأساسي، وهو نشر العدالة بين البشر. اعتنق الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة منذ نشأتها الرأسماليَّة، التي لم تكن سوى شكل جديد من الإقطاع، لكنَّها رأته سبيل تحقيق الثروة من خلال إتاحة المجال لكلِّ صاحب عمل لكي ينتج ويفيد المجتمع، وفق سياسة عدم التدخُّل المعروفة بـ Laissez-faire، أو دعه يعمل، بما يضمن الازدهار الاقتصادي، على حساب أيِّ اعتبارات. ورثت أمريكا زعامة الرأسماليَّة العالميَّة، وأصبح الاقتصاد الأقوى في العالم، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، مستندةً إلى الداروينيَّة الاجتماعيَّة، ومفهوم البقاء للأقوى، في تأسيس حضارتها.

تُعرَّف الحضارة بأنَّها مضادُّ البداوة، وإن كان المفهوم الذي تشير إليه هو المدنيَّة، أي كلُّ جهد يُبذل في سبيل تحسين الأوضاع الإنسانيَّة، في الدنيا والآخرة، أو في أحداهما. عرف الإنسان الحضارة منذ خُلق آدم-عليه وعلى سائر أنبياء الله ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التسليم-في رأي الحوالي؛ إذ علَّمه الله تعالى “الأسماء كلَّها”، وهذه “بلا شكٍّ حضارة فكريَّة” (ص76). سُخِّر الكون لخدمة آدم، وقد أخربتنا السُّنَّة النبويَّة أنِّ أبَّ البشر قد بنى بيتًا الله الحرام، أي الكعبة، وبعده المسجد الأقصى، مما يعني أنَّه عرف التمدُّن والتحضُّر منذ أُهبط من الجنَّة إلى الأرض. وأخبرنا القرآن الكريم أنَّ نوحًا قد صَنع الفُلكَ، بوحي من الله وعون من الملائكة؛ فالآية 37 من سورة هود تقول “وَاصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنا وَوَحيِنا وَلا تُخاطِبني فِي الَّذينَ ظَلَموا إِنَّهُم مُغرَقونَ”، وكانت تلك السفينة من خشب ومسامير؛ إذ تقول الآية 13 من سورة القمر “وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ”، مما يعني أنَّ في زمن نوح توافرت معدَّات بناء السفينة، بمفهوم اليوم.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى