كتب وبحوث

أصول حُكم الشُّعوب المسلمة ومقاييس تطبيق العدالة 1من 9

أصول حُكم الشُّعوب المسلمة ومقاييس تطبيق العدالة 1من 9

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ۝ قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة الأعراف: 128-129].

“(الرَّب للنَّبيِّ يشوع) «مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ. فَالآنَ قُمِ اعْبُرْ هذَا الأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هذَا الشَّعب إِلَى الأَرْضِ الَّتي أَنَا مُعْطِيهَا لَهُمْ أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى” (سفر يشوع: إصحاح 1، آيتان 2-3).

“(النَّبي صموئيل لشاؤول الملك): فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا” (سفر صموئيل 1: إصحاح 15، آيَّة 3).

“(يسوع): أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي” (إنجيل لوقا: إصحاح 19، آيَّة 27).

مقدِّمة

لا يحسبنَّ قارئ عنوان الدِّراسة أنَّها تتناول الخلافة بمفهوم الحُكم والائتمار على النَّاس، أو نموذج الدَّولة الدِّينيَّة المحسوبة على الإسلام، مثل تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة في العراق والشَّام (داعش)؛ ولا يحسبنَّ كذلك أنَّ الدِّراسة تُعنى بالفترة التَّالية لموت النَّبي مُحمَّد (ﷺ)، الَّتي أأتمر أربعة من صحابة خلالها على المسلمين لفترة بلغت ثلاثين عامًا، كان القرآن الكريم والأحاديث الصَّحيحة عنه (ﷺ) الدُّستور المطبَّق والمرجعيَّة الأساسيَّة في الاحتكام. تتناول هذه الدِّراسة مفهوم استخلاف الله تعالى بني آدم على الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [سورة البقرة: 30]، بأن خَلَق آدم وزوجه، وبثَّ منهما كافَّة النَّاس، بلا هدف سوى عبادته حقَّ العبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذَّاريات: 56]، استنادًا إلى شريعة أنزلها إليهم لتنظيم حياتهم، وفق معرفته تعالى بطبيعتهم. حمَّل اللهُ الإنسان ‘‘الأمانة’’، وأمره بطاعته وأداء فرائضه، وهو يعلم أنَّ نفسه أمَّارة بالسُّوء، وكفل له التَّوبة والرُّجعى إليه، متعهِّدًا بمغفرة ذنوب ما دانوا له بالعبوديَّة ولرُسُله بالطَّاعة من خَلْقه ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [سورة الزُّمر: 53]. عرفنا من القرآن الكريم أنَّ الله قد اصطفى من عباده فئة اختصَّها بنشر الدِّين والرِّسالة الحقَّة لهدايَّة النَّاس إلى البرِّ والعمل الصَّالح ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [سورة آل عمران: 33]، بأن حمَّلها الكتاب، أي الدُّستور السَّماوي ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ [سورة النِّساء: 54]، ، ولا يكفل أبدًا الانتساب إلى الصَّالحين للإنسان الحصانة في وجه الفتنة والفساد ﴿فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [سورة النِّساء: 55]. مُنح آل إبراهيم ‘‘المُلك’’ بعد ‘‘الكتاب والحكمة’’، اللذين يستند المُلك إليهما؛ أي جعل الله فئة صالحة من عباده تتولى مهمَّة تنظيم حياة الخَلْق، ثقةً في قدرتهم على مراعاة الأمانة، وتسهيلًا على الصَّالحين من الرَّعيَّة مباشرة شؤون حياتهم بما يُرضي ربَّهم.

يتشابه مفهوم النَّسب المقدَّس عند اليهود والشِّيعة، بالاستناد إلى الانتساب إلى الأنبياء والصَّالحين في استمداد شرعيَّة الحُكم، وهو ما تنفيه الآيَّة 55 في سورة النِّساء جملةً وتفصيلًا؛ لأنَّ الهدايَّة ليست صفة وراثيَّة، كما أنَّ الرِّسالة السَّماويَّة لا تتناقلها الأجيال. ومع ذلك، تصرُّ دولة اليهود-إسرائيل-ودولة الشِّيعة-إيران-حتَّى هذا الزَّمن على بلورة أحقيَّة آل داود، وآل بيت النَّبي مُحمَّدٍ في الولاية على النَّاس، وتتميَّز الدُّولتان عن سائر دول العالم بالجهر باعتناق عقيدة المُخلِّص، صاحب النَّسب المقدَّس، والمنحدر من سلالة الأنبياء. غير أنَّ إسرائيل تختلف في تطبيقها نظامًا جمهوريًّا يستند إلى القوانين الوضعيَّة، بينما يحكم نظام ملالي الشِّيعة في إيران وفق الشَّريعة، المتوارثة من أئمَّة آل البيت، ويلعب المرشد الأعلى للثَّورة الخمينيَّة، وهو مرجع ديني بارز، دور الزَّعامة الأهم، تفوق سلطاته سُلطة الرَّئيس المنتخب، الَّذي يترك منصبه بانتهاء ولايته. لا يتَّفق مع نظام الحُكم الإيراني سوى النِّظام السَّائد في المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، الَّتي اقترنت منذ تأسيسها بالحركة الدِّينيَّة الإصلاحيَّة، الَّتي أطلقها الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب، منتصف القرن الثَّامن عشر، باحتكام القائمين على الدَّولة إلى الشَّريعة الإسلاميَّة، لكنَّ الأجيال الأحدث لحُكَّام المملكة ابتعدت تدريجيًّا عن الفكر الوهَّابي، حتَّى انسلخت منه بالكامل في الآونة الأخيرة بإعلان تبرُّءها منه، بإقرانه بالتَّطرُّف.

تستعرض هذه الدِّراسة آراء مجموعة من المفكِّرين المعاصرين بشأن الخلافة والإمامة والحُكم، في إشارة إلى أحدث المواقف المتَّخذة من عقيدة أهل السُّنَّة، وعلى رأسها ما يُعرف بالفكر الوهَّابي، وعقيدة الشِّيعة، وبخاصَّة عقيدة الإمامة والولاية لأهل البيت، مع إبراز موقف كلٍّ من أهل السُّنَّة والشِّيعة من عقيدة المهدي، المبشَّر به في السُّنَّة النَّبوية أو المنتظَر بحسب قول الشِّيعة. وللتَّشابه الكبير بين مفهوم المُخلِّص لدى اليهود والشِّيعة، تُفرد مساحة لتناوُل أسباب هذا التَّشابه، وأصول نشأة التَّهوُّد والتَّشيُّع، وتأثير ذلك على تطوُّر العلاقات اليهوديَّة-الشِّيعية إلى يومنا هذا.

تلاعُب الماسونيَّة بمصائر الشُّعوب: قراءة في كتاب “وليُّ الأمر المتغلِّب” للدُّكتور بهاء الأمير

يتناول الدُّكتور بهاء الأمير، الباحث في تاريخ الحركات السريَّة، في هذا كتاب ولي الأمر المتغلِّب وهندسة المعيار والميزان، المنشور أواخر عام 2018م، معايير الحُكم على الَّتيارات السِّياسيَّة السَّائدة، وكيفيَّة تنزيه الحُكم عن الأهواء الشَّخصيَّة أو الأغراض الخاصَّة. يستهلُّ الأمير كتابه، الَّذي هو في الأصل جزء من كتاب أكثر شمولًا، بنقد ما أشيع عن دفاعه عن جماعة الإخوان المسلمين، الَّتي فاز جناحها السِّياسي، حزب الحريَّة والعدالة، بأغلبيَّة ساحقة في انتخابات مجلس الشَّعب المصري 2011-2012م، الَّذي انحل في يونيو من عام 2012م، قبيل إعلان فوز مرشَّح الحزب نفسه، الدُّكتور محمَّد مرسي، في انتخابات الرِّئاسة، في 30 يونيو 2012م، ليصبح أوَّل رئيس مصري مُنتَخَب بعد ثورة 25 يناير من عام 2011م. يعيب الأمير على خصوم الإخوان تركيزهم في انتقاد الجماعة على عداوة الَّتيار الإسلامي بوجه عامٍّ، أو الخصومة السِّياسيَّة تجاه الجماعة بصفة خاصَّة، بلا حُكم نزيه على طبيعة جهودهم الإصلاحيَّة في الفترة القصيرة الَّتي تولُّوا فيها المسؤوليَّة. يعتبر الأمير أنَّ الاحتشاد الهائل من “الملاحـدة والشيوعيُّين والعلمــانيِّين والمشخصــاتیَّة والرَّقَّاصــات والفســقة والزَّنادقــة مــن كــل صــنف ولـون” للإطاحة بمرسي وجماعته، ما كان إلَّا تعبير عن النفور تجاه تصريف أمور البلاد على يد جماعة تنتمي إلى الَّتيار الإسلامي؛ لبغضهم هذا الَّتيار في حد ذاته (صـ9).

أراد الأمير أن يحلل بحياديَّة تامَّة المشهد السِّياسي فترة صعود الإخوان إلى السُّلطة، وهو الَّذي سبق وأن نشر في الأشهر الأولى لثورة يناير مؤلَّفًا عنوانه اليهود والماسون في ثورات العرب (2011م)، قال فيه أنَّ تلك الثَّورة كانت ضمن مخطط ماسوني لإعادة تشكيل المشهد في العالم العربي، برغم كرهه لعهد الرَّئيس المخلوع، محمَّد حسني مبارك، ووصفه بـ “الظالم الفاسد” (صـ11). تكمن مشكلة جماعة الإخوان، وغيرها من الحركات الإسلاميَّة المنخرطة في السِّياسة، وفق رأي الأمير، أنَّها لم تكن تدرك، لمَّا دخلت معترك السِّياسة والمنافسة على حُكم البلاد، أنَّ الهيكل العالم لنظام الحُكم من تصميم الغرب، الَّذي تصنع سياساته فئة، نكتفي بتسميتها ‘‘الماسونيَّة العالميَّة’’. بوضع هذه الحقيقة في الاعتبار، كان الإخوان سيدركون أنَّ هذه الفئة ما كانت لتغامر بأمن الكيان الصُّهيوني بوجود نظام حُكم إسلامي في مصر. لعلَّ من المواقف الَّتي تُحسب للرَّئيس المعزول، محمَّد مرسي، إدانته العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر من عام 2012م، وسحبه السَّفير المصري من إسرائيل، وقد نشرت صحيفة اليوم السَّابع المصريَّة، عن ذلك بتاريخ 14 نوفمبر من العام ذاته.

بالفيديو.. ردًا على قصف غزة.. الرَّئيس مرسى يصدر قرارًا بسحب سفير مصر من إسرائيل.. ويدعو مجلس الأمن لجلسة طارئة.. والخارجيَّة تستدعى عميتاى.. ونتانياهو يهدِّد بالتَّصعيد في فلسطين

وظهر الرَّئيس المعزول وهو يلقي خطابًا جماهيريًّا في أحد المساجد، بثَّه التِّلفزيون المصري، ندَّد فيه بإراقة دماء الأبرياء، وتعهَّد فيه كذلك بعدم السكوت عمَّا يحدث من عدوان متواصل، وصفه بـ “الأمر الخطير والعدوان السَّافر. حذَّر مرسي “مَن يعتدون”، ويقصد الكيان الصُّهيوني، من نتائج أفعالهم، مؤكِّدًا “لن نترك غزَّة وحدها…لن نترك غزَّة وحدها”.

صورة 1.1-مرسي يلقي كلمة عن العدوان الإسرائيلي على غزّة-نوفمبر 2012م

تعهَّد مرسي بالزود عن غزَّة، فمصر “بشعبها الكبير وإمكاناتها الضَّخمة ورجالها الأفذاذ ونسائها القادرات على العطاء” ما كانت لتترك غزَّة. لعلَّ أكثر ما ثبتت المبالغة فيه في خطاب الرَّئيس المعزولة قوله “مصر والعرب والمسلمون، أقول بكلِّ ثقة في هؤلاء جميعًا، لن يتركوا غزَّة وحدها”. وجَّد مرسي من جديد كلامه إلى الكيان الصُّهيوني “لن تستطيعوا أن تقعروا شعبًا، ولن تستطيعوا تقتلوا أمَّة…اقرأوا دروس التَّاريخ…تعلَّموا من هذه الدروس أنَّكم أبدًا لم تُفلحوا، لن تُفلحوا، ولن يكون لكم أبدًا سلطانٌ، لا علينا ولا على أهل غزَّة”. يثبت ردُّ فعل مرسي على العدوان الإسرائيلي على غزَّة، كما تثبت كلُّ عبارة قالها في خطابه لنُصرة القطاع المنكوب، ما قاله الأمير عن عدم وعي مرسي وجماعته بأنَّ فئة الإفساد في الأرض تمدُّ شبكتها العنكبوتيَّة حول الأرض كلِّها، إلَّا ما رحم ربِّي، وأنَّ مصير مَن يوجِّه كلمات مثل هذه لدولتها مصيره السجن والحُكم بالإعدام. ويعتقد الأمير أنَّ حالة الفوضى الَّتي تعيشها مصر، متمثِّلة في تنامي الجماعات المسلَّحة وصعوبة السَّيطرة عليها، من أهم نتائج زحف كارهي الَّتيار الإسلامي، من أتباع فئة الإفساد العالمي، للتخلُّص من أوَّل رئيس مُنتَخب لمصر.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى