كتب وبحوث

أبعاد المؤامرة العالميَّة لتنصير العالم الإسلامي 8 من 8

أبعاد المؤامرة العالميَّة لتنصير العالم الإسلامي 8 من 8

 

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

المسيحيَّة في جزيرة العرب قبل الإسلام

يُعتبر كتاب Early Christianity in Arabia-بداية المسيحيَّة في جزيرة العرب (1855) لتوماس رايت، المرجع الأهم بشأن بداية دخول المسيحيَّة جزيرة العرب وانتشارها. يقول بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل غلاطية أنَّه مكث في جزيرة العرب فترة لم يحدِّدها، بينما يزعم زويمر أنَّه بقي هناك 3 سنوات (ص17). يقول بولس الرَّسول “لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ. أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا. وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ” (رسالة أهل غلاطية: إصحاح 1، آيات 15-17). ما يثير الانتباه هو أنَّ شبه الجزيرة العربيَّة، المشار إليها بالاسم المختصر “الْعَرَبِيَّةِ”، كانت الوجهة الأولى للمبشِّر الأوَّل، بولس الرَّسول، حتَّى قبل الشَّام وأوروبا. يضيف زويمر أنَّ مجمع نيقيَّة (عام 325 ميلاديًّا) شهد مشاركة أساقفة من العرب، من بينهم أساقفة البصرة. غير أنَّ الآثار والنقوش تثبت أنَّ جنوب غرب اليمن كان أكثر مناطق شبه الجزيرة العربيَّة اعتناقًا للمسيحيَّة، كما يرى زويمر، مذكِّرًا بقصَّة بناء القليس، ليكون بديلًا عن الكعبة بوصفه قبلةً للحُجَّاج، وذلك عام 567 ميلاديًّا، أي قبل مولد النبيِّ (ﷺ) بنحو ثلاث سنوات. ويسوق زويمر العديد من الأدلَّة على معرفة العرب بالمسيحيَّة، واعتناق مشاهير منهم لها؛ مستنتجًا معرفة النبيِّ (ﷺ) بالمسيحيَّة قبل بعثته.

لم تكن المسيحيَّة وحدها الديانة السائدة في شبه الجزيرة العربيَّة، فكان هناك أقليَّة يهوديَّة، كما كان هناك مَن يدينون بالحنفيَّة، ملَّة أب الأنبياء إبراهيم (عليه وعلى سائر أنبياء ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التسليم)، ولعلَّ أشهر من دانوا بهذه الديانة قبل البعثة المحمَّديَّة، زيد بن عمرو بن نفيل، وهو قرشي موحِّد، لم يعبد الأصنام قبل البعثة، وهو ابن عم الفارق عمر بن الخطَّاب بن نفيل (رضي الله عنه وأرضاه). وفق الحديث 3827 في صحيح البخاري، الذي رواه عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما)، ارتحل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام والعراق، بحثًا عن الدين التوحيدي الصحيح؛ فعرف من الربَّانيِّين والأحبار الذين قابلهم أنَّ نبيًّا سيُبعث في مكَّة بالهدى ودين الحقِّ، ولم يدر في خُلد بن نفيل أنَّ هذا النبي هو مُحمَّد بن عبد الله بن عبد المطَّلب بن هاشم (ﷺ). المفارقة أنَّ زيد بن عمرو بن نفيل قُتل خلال رحلة عودته إلى مكَّة، ويُروى أنَّه سُمع وقت وفاته يقول “اللهمَّ إن كنتَ حرمتني صحبةَ نبيِّك، فلا تَحرم منها ابني سعيدًا”؛ وبالفعل صار ابنه سعيد بن زيد من صحابة النبيِّ مُحمَّد بن عبد الله (ﷺ)، بل ومن العشرة المبشَّرين بالجنَّة. وقد قال النبيُّ (ﷺ) عن زيد بن عمرو بن نفيل “يُحشَرُ ذاك أمَّةً وحدَه بيني وبين عيسى ابن مَريم”(الحديث 8187 في السُّنن الكبرى للنسائي).

يستنتج صمويل زويمر من التنوُّع العقائدي السائد في جزيرة العرب قبل البعثة المحمَّديَّة أن الإسلام عبارة عن خليط من الوثنيَّة والمسيحيَّة واليهوديَّة والحنفيَّة، أو “تطوُّر شامل وطبيعي جدًّا” لتلك العقائد، مضيفًا أنَّه مجرَّد خطوة من الحنفيَّة التوحيديَّة اتَّخذها النبيُّ (ﷺ) لتشكيل ديانة جديدة مستقلَّة عمَّا جاء به موسى وعيسى (عليهما وعلى سائر أنبياء ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التسليم) (ص25). الأغرب من ذلك أن اعتبر زويمر أنَّ فترة الجاهليَّة كانت مجالًا “للبحث الروحاني عن الإله”، وكانت كذلك “زمنًا من الفوضى السياسيَّة والاجتماعيَّة” في غرب جزيرة العرب، ممَّا يعني وجود بيئة صالحة لرجل عبقري يمكنه استغلال تلك الأوضاع الاجتماعيَّة والسياسيَّة والدينيَّة لتكوين عالم جديد، وهو مُحمَّد بن عبد الله (ﷺ) (ص25).

الانقسام والتفكُّك في تاريخ الدعوة الإسلاميَّة

يرى صمويل زويمر أنَّ نجاح دعوة الإسلام في جزيرة العرب لم يُكتب له الاستمراريَّة بعد خروج الدعوة من ذلك النطاق؛ بسبب التحديات التي واجهها من المسيحيَّة والزرادشتيَّة والبرهميَّة. يعلِّق المستشرق الأمريكي على تنبُّؤ النبيِّ الكريم عن تفرُّق أمَّة الإسلام إلى العديد من الفرق، التي تنحرف عن صحيح رسالته (ﷺ) بتأثيرات من مِلل ضالَّة، حيث روى عوف بن مالك أنَّ النبيَّ (ﷺ) قال “سَتَفْتَرِقُ أُمّتي علَى بِضْعِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُها فِرْقَةُ قَوْمٍ يقيسونَ الأُمورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحَرّمونَ الْحلالَ وَيُحَلّلونَ الْحرامَ”، والحديث ورد في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، على شرط البخاري ومسلم، لكنَّهما لم يخرجاه. للحديث رواية أخرى، تُنسب كذلك إلى عوف بن مالك، عن النبيِّ أنَّه قال (ﷺ) “افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ. وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْـتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْـتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ”، رواه أبود داوود والترمذي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي عنه، أنَّه حسن صحيح.

تُعرف الفرقة الوحيدة المبشَّرة بالجنَّة بين فرق المسلمين بـ “الفرقة الناجية”، وهي التي أوضح النبيُّ ماهيَّتها لمَّا سأله صحابته “قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي”، رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني. يتبيَّن من هذا الوصف النبوي لماهيَّة هذه الفرقة أنَّها فرقة أهل السُّنَّة والجماعة، الملتزمة بصحيح ما جاء في القرآن الكريم والأحاديث النبويَّة، والرافضة للمُحدَثات، أساس البدع والضلالات، والمعارضة لمزج الفلسفات المستمدَّة من الثقافات الوثنيَّة بصحيح الدين. يعيب زويمر على علماء أهل السُّنَّة عدم الانفتاح على الفلسفات الإغريقيَّة، خاصَّة إرث أفلاطون وأرسطو، لافتًا النَّظر إلى اعتبار ابن رُشد وابن سينا والفارابي من الزنادقة، في رأي بعض المفكِّرين المسلمين؛ لإدخالهم أفكارًا مستمدَّة من الفلسفات القديمة على صحيح الدين. يشير زويمر إلى وجود أربعة مذاهب فقهيَّة، الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، تتَّفق في الأصول، وتختلف في أمور فرعيَّة، يصفها بأنَّها “تفاهات غير هامَّة” (ص138).

ينتقل صمويل زويمر إلى استعراض أهم فرقة رئيسة لمعتنقي الإسلام، تشكِّل نسبة ليست بالهيَّنة منهم، وهي فرقة الشِّيعة، وهم أنصار الإمام عليٍّ بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه)، الذين اعتقدوا في أحقيَّته في الخلافة بعد أن لقي النبيُّ (ﷺ) ربَّه، زاعمين أنَّه وصيُّه الذي أسرَّ إليه بعلم باطني تتوارثه سلالته. يلقي زويمر الضوء على العداء التاريخي للشِّيعة تجاه الخلفاء الثلاثة الأوائل، أبي بكر وعُمر وعُثمان. يتعمَّد الشِّيعة في عيد لهم يُطلق عليه عيد الغدير، خبز فطائر على صورة الخلفاء الثلاثة الأوائل، ويحشونها بالعسل، ثمَّ يقطِّعونها بالسكاكين، ليسيل العسل منها، كأنَّما هو دم الخلفاء السائل بعد تمزيق أجسادهم. سُمِّي عيد الغدير بهذا الاسم نسبة إلى خُطبة النبي (ﷺ) في صحابته بعد حجَّة الوداع في غدير خمٍّ، قائلًا (ﷺ) “من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت”. وبرغم صحَّة الحديث الوارد في صحيح الإمام مُسلم، فهو لا يحمل تصريحًا مباشرًا من النبي (ﷺ) بأنَّ يعهد بالخلافة من بعده إلى الإمام عليٍّ. تنقسم فرقة الشِّيعة إلى 32 فرقة مستقلَّة، تتَّفق في اعتقادها بانحصار الإمامة في ذريَّة النبيِّ (ﷺ) من نسل ابنته فاطمة الزهراء وزوجها عليٍّ بن أبي طالب (ر     ضي الله عنهما). أمَّا عن أهم نقاط الخلاف، فهي هويَّة الإمام الأحق بالإمامة، حتَّى ظهور الإمام المهدي.

عقيدة الإمام المهدي: تصوُّر محسوب على الإسلام لعقيدة المخلِّص

 يُعتبر الإيمان بالإمام المهدي، “المنتظر” لدى الشِّيعة والمبشَّر به لدى السُّنَّة، أساس المعتقَد الشِّيعي، وترى فرقة الإماميَّة الاثني عشريَّة أنَّ اثني عشر إمامًا انحدروا من نسل النبيِّ (ﷺ)، آخر محمَّد بن الإمام الحسن العسكري، المختفي في سرداب في مدينة سامرَّاء، منذ ما يقرب من 1200 عام، حيث يُعتقد أنَّه في غيبة منذ عام 257 هجريًّا تقريبًا، بعد وفاة أبيه، برغم تعدُّد الروايات المؤكِّدة أنَّ الحسن العسكري لم يعقِّب. لا يختلف الشِّيعة بكافَّة فرقهم على أنَّ المهدي “سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلأت جورًا وظُلمًا”، كما لا يختلفون في مبالغتهم غير المنطقيَّة في قدرات هذا الإمام وما سيُحدثه من تغيير جذري لموازين القوَّة في العالم بأسره. يرى إدوارد سيل في كتابه The Faith of Islam-إيمان الإسلام (1880) ثمَّة تشابه بين عقيدة الإماميَّة وعقيدة المسيانيَّة، من حيث الإيمان بالحاجة إلى وجود “وسيط، يشبه كلمة الآب الذي كشف من خلاله عن نفسه لأبنائه”، وكأنَّما عقيدة الإمام المهدي هي نتاج تأثُّر الشِّيعة بعقيدة تجسُّد الربِّ في صورة المسيح، كما ينقل زويمر عن سيل (ص139). جدير بالذِّكر أنَّ أحمد الكاتب، الباحث في الشأن الشِّيعي، قد فنَّد نظريَّة الإمامة في كتابه تطوُّر الفكر السياسي الشيعي من الشُّورى إلى ولاية الفقيه (1998)، مستنتجًا أنَّ الاعتقاد في وجود الإمام الاثني عشر مجرَّد فرضيَّة فلسفيَّة ابتدعها ملالي الشِّيعة لسدِّ فراغ غياب إمام يُلتف حوله، وقد استُغلِّت في تحقيق مكاسب ماديَّة وسُلطة سياسيَّة (ص155).

ويحدِّد زويمر ثلاث نقاط خلاف أساسيَّة يتميَّز بها الشِّيعة عن السُّنَّة، وهي فتح باب الاجتهاد، من خلال استنباط الأحكام الشرعيَّة من المصادر الفقهيَّة بما يتناسب مع إيقاع العصر، بدلًا من التقيُّد بالقرآن الكريم والأحاديث النبويَّة؛ وإقامة احتفالات دينيَّة أشبه ما تكون مسرحيَّات الأسرار (Mystery plays)، وهي مسرحيَّات انتشرت إقامتها في أوروبا في القرون الوسطى في الأعياد الدينيَّة لتجسيد حياة القدِّيسين وإظهار معاناتهم في سبيل نشر رسالتهم، وتُعتبر طقوس الشِّيعة في العاشر من محرَّم كلَّ عام (عاشوراء) في ذكرى مقتل الإمام الحسين بن عليٍّ (رضي الله عنهما) من أشهر تلك الاحتفالات؛ وإباحة زواج المُتعة، وهو زواج مؤقَّت لا تتقيَّد إجراءاته بما ورد في القرآن وصحَّ عن النبيِّ (ﷺ) وصحابته الكرام من شروط لصحَّة الزواج.

تسلُّل الروحانيَّات إلى الإسلام

يرى صمويل زويمر أنَّ الإسلام عانى لقرون ممَّا أطلق عليه “الانحلال”، بعد أن تسلَّلت إلى صحيحه عقائد بدعيَّة مُستمدَّة من الديانات الوثنيَّة، على رأسها وَحدة الوجود، والعقلانيَّة، مضيفًا أنَّ مثل تلك العقائد مارست تأثيرًا قويًّا على العقيدة الإسلاميَّة، ولكن دون أن تحلَّ محلَّ صحيح العقيدة. يشير القُس هنري وودوارد هالبرت في دراسته “The Philosophical Disintegration of Islam-الانحلال الفلسفي للإسلام” (1899) إلى أنَّ “العقائد الهرطوقيَّة المسيحيَّة، والفلسفة الإغريقيَّة، والروحانيَّة المشرقيَّة والآريَّة سحقت فرقة الشِّيعة سريعًا. وبرغم أنَّ بلاد فارس لم تضم إلى الإسلام أكثر من 10 ملايين تابع في أكثر أوقات ازدهار الإسلام فيها (أكثر قليلًا من واحد من عشرين من عدد المسلمين كافَّة)، فقد آوت (بلاد فارس)، ومنذ الأزمنة الباكرة، أكثر الفرق هرطقةً وعدائيَّةً من سائر أنحاء العالم. وجدت العقلانيَّة المُحمَّديَّة بيئة خصبة لها في بلاد فارس” (ص51).

يزعم زويمر أنَّ الروحانيَّة عُرفت بين بعض معتنقي الإسلام منذ مهد رسالته، في محاولة منهم للتمرُّد على ما أطلق عليه “الطقوس الشكليَّة العقيمة والعقيدة الجامدة”، من خلال الانخراط في طقوس تأمُّليَّة روحانيَّة تتَّسم بالزُّهد في الماديَّات (ص142). يذكِّر هذا التمسُّك بالروحانيَّات في معرفة الربِّ والسمو على الطقوس الشكليَّة، بما أخبر عنه إنجيل يوحنَّا عن ماهيَّة الربِّ بقوله “أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ. لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا»” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 4، آيات 22-24). أمَّا عن أهم عقائد الصوفيَّة، فهي الإله وحده هو الموجود، وما عدا ذلك لا يوجد إلَّا بالاقتران به؛ الرُّوح تهبط على الجسد مثلما يدخل الطائر القفص، ولا تجد راحتها إلَّا بعد أن تفارقه لتلتحم من جديد بمصدرها، وهو الإله الذي نفخها؛ ليس للإنسان إرادة شخصيَّة والأقدار مُحدَّدة من قِبل الإله؛ الاتصال بالإله هو أسمى الغايات، ولا يتحقَّق إلَّا برحمة منه؛ وأهم طقس ديني هو إنعاش الرُّوح بالذِّكر، بترديد أسماء الإله والتأمُّل في صفاته، تحيُّنًا للحظة تنزُّل رحمته وتحقُّق الوصل معه. يضرب زويمر المثل في الفرق المحسوبة على الإسلام، أو لتقل المنبثة منه لتستقلَّ بديانة جديدة، التي تجمع بين الفكر الروحاني وعقائد الشِّيعة الإماميَّة بالبهائيَّة.

البابيَّة والبهائيَّة: تجسيد انسلاخ الفكر الشِّيعي من صحيح الإسلام إلى الروحانيَّات

يعرِّف صمويل زويمر البابيَّة والبهائيَّة بأنَّهما ديانتين ليستا من الإسلام في شيء، إنَّما نشأتا في أرض إسلاميَّة، يقصد بها بلاد فارس، اعتراضًا على بعض تعاليم الإسلام، واستنادًا إلى العديد من عقائد الشِّيعة، وعلى رأسها الإماميَّة. ورثت البابيَّة، وهي الأصل الذي تفرَّعت عنه البهائيَّة، عن الشِّيعة الفكر الروحاني؛ ولعلَّ في ذلك ما أغرى آلاف الشِّيعة في بلاد فارس إلى اعتبار ميرزا عليّ محمَّد، مؤسِّس البابيَّة، مخلِّصهم. يُنسب اسم الديانة البابيَّة إلى الاعتقاد بأنَّ الإمام الثاني عشر منذ غيبته الثانية في 329 هجريًّا-الأولى كانت عام 257 هجريًّا تقريبًا-كوَّن قنوات اتِّصال مع بعض الرجال الثقات، ويُعرف أحد هؤلاء باسم “الباب”. أعلن ميرزا عليّ محمَّد نفسه الباب، زاعمًا أنَّ الاتِّصال بالإله ينحصر فيه، في تطبيق مثالي للاعتقاد بوجود وسيط بين المرء وخالقه، الواردة في إنجيل يوحنَّا على لسان يسوع النَّاصري “«أنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي. لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضًا. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ»” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 14، آيتان 6-7). تفرَّعت البهائيَّة من البابيَّة بعد مقتل الباب ميرزا عليّ محمَّد بتحريض شاه الفُرس عام 1849 ميلاديًّا، على يد ميرزا حسين المازندراني، الذي نُفي مع أتباعه إلى عكَّا، في الأرض المقدَّسة، وطوَّر فِكره إلى أن أعلن نفسه إلهًا بعد حلول الرُّوح القُدُس فيه، وأُطلق عليه “بهاء الله”.

اعتقد صمويل زويمر أنَّ ظهور البابيَّة والبهائيَّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي قبل بداية عمله التَّبشيري عام 1889 ميلاديًّا بفترة وجيزة، هو إشارة إلى “انحلال الدين والفلسفة الإسلاميَّة”، وأنَّ ذلك “بداية النهاية” بالنسبة إلى الإسلام “باعتباره نظامًا فكريًّا لم يعد يُقنع الواعي” (ص148). يبدو أنَّ دعوة بعض أتباع البابيَّة وقتها إلى إيقاف العمل بالشريعة الإسلاميَّة، المنسوخة في اعتقادهم حتَّى تأتي الشريعة الجديدة مع الإمام المنتظر، وفق ما أورد الدكتور عمر فاروق فوزي في كتابه الخمينيَّة وصلتها بحركات الغلو الفارسيَّة وبالإرث الباطني (2001)، قد أوهمت زويمر بأنَّ المسلمين صاروا يبحثون عن مخلِّص، أرقى من النبيِّ (ﷺ).

نشأة الوهَّابيَّة ودورها في تطوير الفكر الإسلامي

 لا يمكن اعتبار الوهَّابيَّة فرقة جديدة مستقلَّة؛ إنَّما هي حركة تجديد وإصلاح، ثار مؤسِّسها، الإمام محمَّد بن عبدالوهَّاب، على مظاهر البدع الممتزجة بصحيح الدين، والمتمثِّلة في ممارسة طقوس الصوفيَّة، وعلى رأسها زيارة الأضرحة والتوسُّل بالأولياء، إلى جانب انتشار استخدام المسبحات، والذهب، والجواهر، والخمر، والدخان. استند بن عبدالوهَّاب إلى المذهب الحنبلي، أشدِّ المذاهب الفقهيَّة، في تمييزه بين صحيح الدِّين والمُحدثات، وكان القرآن الكريم والأحاديث النبويَّة مرجعه الأول. حارب مؤسِّس الوهَّابيَّة بسيفه مظاهر البدع، خاصَّة بعد أن وجد الدَّعم من الأمير محمَّد بن سعود، أمير الدرعيَّة، الذي تحالَف معه في القضاء على الردَّة في إقليم نجد. يعتقد زويمر أنَّ “الحالة الأخلاقيَّة، والاجتماعيَّة، والفكريَّة في الإمبراطوريَّة الوهَّابيَّة القديمة، في وسط شبه الجزيرة العربيَّة، دليل كافٍ على أنَّ الإصلاح الإسلامي لا يمكنه إنقاذ شعب أو رفع شأنه. لا أمل، لشبه الجزيرة العربيَّة على الأقل، في الإسلام؛ فقد خضع للتجربة على مدار 13 عشر قرنًا، وفشل، ولا يزيد الوهَّابيُّون وتاريخهم ذلك إلَّا تأكيدًا. لم يخضع الإسلام لإصلاح اجتماعي أو أخلاقي دائم في أيِّ أرضٍ دخلها، منذ بداية دعوته؛ هو نظام ميؤوس منه” (ص152).

مشكلات تواجه عمليَّة التَّبشير

يقف صمويل زويمر على أهم أسباب فشل الحملات التَّبشيريَّة في العالم الإسلامي في تحقيق أهدافها، وهو التعارض بين عقيدة الإسلام والعقيدة المسيحيَّة، خاصَّة فيما يخصُّ الخلاص ومفهوم الألوهيَّة. غير أنَّ الأمل في تهذيب الكافرين من المسلمين، في رأي زويمر، لم يكن منعدمًا، وقد استدل في ذلك بما قالته المبشِّرة البريطانيَّة إيزابيلا ليلياس تروتر، عن تجربتها في الجزائر عن المسلمين، في منشور لها عنوانه “A Challenge to Faith-تحدٍّ للإيمان”، وقد استمدَّ زويمر منه عنوان ذلك المنشور عنوان كتابه قيد الدراسة. تقول تروتر عن المسلمين وبلادهم “أراضٍ بائرة ونفوس ميتة؛ عميان وباردون وجامدون، ليس كمثل أيٍّ من غيرهم من الكافرين. مع ذلك، لأنَّنا نحبُّهم، نرى أنَّ إمكانيَّة للتضحية، والتحمُّل، والحماس، والحياة لم تنعدم. ألم يكن ابن الربِّ الذي مات من أجلهم كذلك يرى إمكانيَّة لذلك؟”، نقلًا عن زويمر (ص209). أمَّا عن أبسط وسائل إحياء موات قلوب المسلمين، فهي نشر الكتاب المقدَّس، الذي أثبت أنَّه أفضل تمهيد للعمليَّة التَّبشيريَّة. يزعم زويمر أنَّ ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى تُفقد النص الأصلي الكثير من قيمته، بل ولا تنقل المعنى بحذافيره. أمَّا ترجمات الكتاب المقدَّس، فهي تحافظ على روعة النص وقوَّة تأثيره. بعد ذلك، يأتي تقديم المساعدات الطبيَّة والتعليميَّة، ثمَّ الوعظ بما يخاطب عقول الجمهور المستهدَف.

المشكلات والمخاطر

يكتب صمويل زويمر في الفصل قبل الأخير من كتابه عن المعوِّقات التي تواجه عمليَّة التَّبشير الأمريكيَّة منذ بدايتها في القرن الثامن عشر الميلادي، موضحًا أنَّ المبشِّر الرائد صمويل جيه. ميلز، المعروف بإسهاماته في تأسيس جمعيَّة الاستيطان الأمريكيَّة (American Colonization Society) والمجلس الأمريكي لمفوَّضيِّ الإرساليَّات الأجنبيَّة (American Board of Commissioners for Foreign Missions)، لمَّا قطع بدأ تركيزه على العالم الإسلامي، فطن إلى الصعوبات المتوقَّعة هناك، وما تتميَّز به عمَّا يمكن تعطيل المساعي التَّبشيريَّة في أيِّ مكان آخر. ينقل زويمر عن ميلز مقولته بخصوص الحملات التَّبشيريَّة إلى العالم الإسلامي “لم يكن الوقت قد حان، وتلك الخطوة لم تزل مبكِّرة. إذا أُرسل المبشِّرون سوف يُقتلون، والحاجة تقتضي حربًا صليبيَّة جديدة قبل إرسال الإنجيل إلى التُّرك والعرب” (ص223). يتحدَّث زويمر مطلع القرن العشرين عن ثبوت صحَّة قول صمويل جيه. ميلز قبل قرن من ذلك الزمن، مشدِّدًا على التحدي الذي كان يواجه عمليَّة التَّبشير، التي لا بدَّ وأن تتكلل بتنصير العالم الإسلامي، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، ويقول زويمر في ذلك “العالم المحمَّدي لا بدَّ وأن يتنصَّر، وسوف يتنصَّر، إن لم تفقد مهمَّة المسيح العظيمة معناها أو لا تسعف قوَّته في تنفيذها” (ص224).

 يدعم زويمر مواجهة تحدِّيات نشر المسيحيَّة في التربة المسلمة من خلال “حرب صليبيَّة جديدة وأنبل من حرب السياسة والتجارة” (ص225). ويعتقد المبشِّر الرَّائد أنَّ الإسلام سيُقهر تحت أقدام “الإنسانيَّة والحضارة والتنوير”، وسيتوقُّف استبداله بالمسيحيَّة على مدى نجاح حملات التَّبشير بإقناع المسلمين بمدى احتياجهم إلى المسيح (ص225). ينقل زويمر بمنتهى الصراحة عن المبشِّرين في بعض المناطق الوثنيَّة، تشديدهم على منع دخول الإسلام البقاع التي يقصدونها؛ كي لا يضاعف من صعوبة جهودهم. لا يُنكر تأثير الدعوة الإسلاميَّة في عرقلة جهود التَّنصير في آسيا وإفريقيا، وإن كان الإسلام ذاته، كما يرى زويمر، بدأ يواجه مخاطر، على رأسها حملات التشكيك والهجوم. يضرب زويمر المثل بالهند في تأسيس جمعيَّات تدافِع عن الإسلام، زاعمًا أنَّها تقلِّد أساليب الإرساليَّات التَّبشيريَّة في الهجوم على المسيحيَّة، وإثبات عدم صحَّة عقيدتها. ومع كلِّ المعوِّقات والشدائد التي تعرقل مساعي التَّنصير، يعتقد زويمر أنَّ المعركة محسومة لصالح حملات التَّبشير؛ حيث أنَّ “المعركة معركة الربِّ، والانتصار سيكون كذلك حليفه” (ص243). أمَّا عن سلاح تلك المعركة، فهو “حب المسيح، المتجلِّي في المستشفيات، والمدارس، والخطابة الحصيفة؛ والمتجسِّد في حياة المبشِّرين المخلصين”، وهذا ما سيكسب المسلمين بلا مقاومة ويقضي على تعصُّبهم (ص243).

لعلَّ أكثر ما يدعو إلى التأسُّف فيما يقوله زويمر في تناوُله لأحوال العالم الإسلامي مطلع القرن العشرين، أنَّ تردِّي تلك الأحوال كان بمثابة فرصة غير مسبوقة، يجب استغلالها في خدمة جهود التَّنصير، في وقت كان نصف العالم يرزح فيه تحت وطأة الاستعمار المسيحي، بعد أن تقلَّصت دولة الخلافة الإسلاميَّة، التي كانت لم تزل قائمة متمثِّلة في الدولة العثمانيَّة، إلى مساحات تقل كثيرًا عمَّا كانت عليه زمن الصحابة. كانت المطالبة بنشر الحريَّات، والخروج من بوتقة الرجعيَّة، والانضمام إلى العالم المتحضِّر الباب الذي تسلَّل منه الغرب إلى قلب المجتمع الإسلامي في معقل الخلافة، ولو راجعنا دور حركتي تركيا الفتاة والاتحاد والترقِّي في نشر العلمانيَّة، لعرفنا كيف أسهم الانسلاخ من ربقة الإسلام في تسلُّط الغرب على المسلمين ونهب خيرات بلادهم، تحت مسمَّى نشر الديموقراطيَّة والدفاع عن القيم الإنسانيَّة المهدرة في المجتمعات الإسلاميَّة.

يختتم زويمر كتابه بمقولة لا يمكن الإغفال عن مضمونها، ولا عن تأثيرها الفارق في توجيه الحملات الاستعماريَّة الغربيَّة؛ يقول المبشِّر الرَّائد، في سياق حديثه عن آفاق نشر المسيحيَّة، “يُنطق اسم مُحمَّد (ﷺ) خمس مرَّات في محلِّ ميلاد المسيح، بينما لا يجرؤ مسيحي أن يدخل إلى محلِّ مولد محمَّد (ﷺ)” (ص255). تكمن حساسيَّة تلك العبارة، السابقة على وعد بلفور بوطن قومي لليهود على أرض فلسطين عام 1917 ميلاديًّا بعشر سنين، في تحريضها الضمني على انتزاع الأرض المقدَّسة، التي تضمُّ مدينة الناصرة، حيث وُلد يسوع المسيح. المقصود ضمنيًّا هو، إن لم تكن المسيحيَّة تسيطر على مهد المسيح، فكيف لها أن تسيطر على باقي أنحاء العالم. الأشدُّ خطورةً في مقولة زويمر هو انتقاده للنصِّ الديني، الوارد في السُّنَّة النبويَّة، الذي يحظر دخول الحرمين، في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، حيث وُلد النبي (ﷺ) وعاش ودُفن، على غير المسلمين. يقول النبيُّ (ﷺ)، في الحديث الوارد في صحيح البخاري (رقم 3053) وصحيح مُسلم (رقم 1637) “أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ”، ويقول في الحديث الصحيح “لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ”، أخرجه الإمام أحمد في مُسند الإمام أحمد بن حنبل، ورواه الإمام مالك في الموطَّأ.

يضيف زويمر عن تأسُّفه على استمرار الأرض المقدَّسة إلى ذلك الوقت (عام 1907 ميلاديًّا) في قبضة المسلمين “لم تزل الأرض المقدَّسة في أيدٍ مدنَّسة، وقد وقف العالم المسيحي محدقًا وقتما كان سيف الهلال (الإسلام) مرفوعًا في أرمينيا وكريت”، ويتساءل زويمر “ألا يجب أن ننتفض لنستعيد المملكة المفقودة؟” (ص255). وبرغم ما تحمله عبارات زويمر من تحريض على استخدام القوَّة، فهو يدَّعي أنَّ قوَّة السلاح ليس ما كان يلزم “الحرب المقدَّسة” التي دعا إليها، إنَّما “سيف الرُّوح، الذي هو كلمة الربِّ”، مُطلقًا على تلك المعركة “حملة للخدمة والحب المسيحي” (ص256).

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى