أبرز المشكلات الاجتماعية في عصور الاستبداد

أبرز المشكلات الاجتماعية في عصور الاستبداد

بقلم عزة مختار

منذ فجر التاريخ المدوّن، لم تعرف البشرية أمة لم تعانِ من الاستبداد في فترة ما من تاريخها، ولم ينجُ مجتمع من تبعات المستبدين اعتباراً من المجتمع القبلي وحتى يومنا هذا.
ومع أن عصور الاستبداد المصاحبة دوماً للتخلف والانهيار الحضاري عمرها الزمني أقل نسبياً من عصور العدالة والتقدم والازدهار والبناء، إلا أنها تترك آثاراً خطيرة في المجتمعات قد يصعب الخروج منها جملة في أزمنة وجيزة، وتبدأ تلك المشكلات أو الأمراض الاجتماعية عادة بهدوء وبشكل غير ملموس أو مقروء حتى يستفحل الداء ويصبح من الصعب السيطرة عليه.

ويتوقف عمق تلك الأمراض وحجمها وقوة خطورتها على زمن بقاء المستبد، وحجم ممارساته القمعية بالشعب، فكلما اشتدت ضراوة ممارساته تعمّق الداء واستفحل، وكلما طالت مدة بقائه تضاعفت خطورة المرض، واحتاج للمزيد من الوقت للخلاص من آثاره التي تكاد تكون كارثية في بعض مراحلها .

ولا يتوقف الأثر الناتج عن الاستبداد عند الحدود الاقتصادية للمجتمع، وإنما يمتد من الفقر والعوز والجهل والمرض ليشمل آثاراً أخلاقية مدمرة، تصاحب ممارسات المستبد على الدوام، وهي ما يسميها البعض عمليات الإلهاء عن كل ما يمكن أن يوقظ الشعب لمصابه، أو ينبهه لحقوقه، وذلك بإطلاق العنان للمفسدين باسم الفن والإبداع؛ لإثارة الغرائز والاستخفاف بالعلم، والطعن في أهله والقائمين عليه والداعين له، لينصرف الناس عنه زهداً فيه، لما يجدونه من قيمة متدنية لأهل العلم والأخذ على أيديهم، وتعتبر تلك السمة من أخطر آثار جريمة الاستبداد، تلك الجريمة التي تعانيها بلادنا في هذا العصر.

القنبلة الموقوتة في العالم العربي:

أيهما يسبق الآخر، المشكلات الاقتصادية؟ أم المشكلات الأخلاقية؟

الحقيقة أن كليهما مرافقة للأخرى، فمن آفات الحكم الاستبدادي أنه يحرص على أن تظل الشعوب في حالة فقر لشغل الناس في حركة لا تنتهي للحصول على لقمة العيش وضمان استمرار الحياة، ما ينتج عنها أمراض قلبية كالحقد الطبقي والكراهية، ثم المرض الأكبر استفحالاً وهو اللامبالاة، فتجد الفرد معرضاً عن الاهتمام بكل ما يخص الشأن العام للمجتمع والقطر، حيث إن الحكام غرسوا في مفاهيم الناس بالفعل والقول والممارسة أن أمور الحكم لا تخصهم، وأن القرارات والسياسات تتم في معزل عن علمهم، وعلى عكس إرادتهم!

من آفات الحكم الاستبدادي أنه يحرص على أن تظل الشعوب في حالة فقر لشغل الناس في حركة لا تنتهي للحصول على لقمة العيش وضمان استمرار الحياة، ما ينتج عنها أمراض قلبية كالحقد الطبقي والكراهية، ثم المرض الأكبر استفحالاً وهو اللامبالاة

ومما يميز المشكلات الاجتماعية العامة أنها متداخلة، ولا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، ومن أبرز تلك المشكلات التي تعانيها بلادنا هي مشكلة البطالة، والتي ينتج عنها ويصاحبها مشكلات أخرى، مثل ارتفاع نسب متعاطي المخدرات، وهبوط مستوى التعليم مع كثرة الخريجين كل عام، لتتضاعف المشكلة باطراد، وهبوط مستوى الفن، وخروج فئات مشبوهة لتمثل قدوة أخلاقية للشباب، فيكون الناتج جيلاً دون هوية، بثقافة ضحلة مجهولة المصدر، بلا انتماء لأي إرث حضاري يعبّر عن أصالة الأمة وانتمائها الحقيقي، وبلا انتماء لمستقبل البلاد أو حاضرها.

والبطالة ليست وليدة اليوم، فقد بدأت جذورها تتوغل في المجتمع المصري -على وجه الخصوص- مع الحكم العسكري منذ مطلع عام (1952م)، كما بدأت مشكلة البطالة المقنعة والتي نتجت عن سوء توزيع الخريجين على سوق العمل بشكل عشوائي، لا يراعي التخصص أو حاجة العمل، أو رداءة المنتج المترتب على ذلك.

أيضاً مما ساهم في زيادة نسبة البطالة وتراكمها حرص الأنظمة المتعاقبة على الحد من زيادة الاستثمارات لزيادة الإنتاج الفعلي، مما يساهم في فتح مجالات عمل جديدة تستوعب الزيادة المتجددة في السكان كل عام، فتم توجيه الاستثمار في التجارة في السلع الاستهلاكية، والتوقف عند استيرادها وليس صناعتها، ومحاربة المشروعات التي تنبني على أفكار علمية، أو التي تحاول اقتحام أو مواكبة الثورة الصناعية العالمية الثالثة، مثل ملاحقة مشروع ” سلسبيل”، واعتقال القائمين عليه في منتصف عهد “مبارك” وتصفية أعمالهم، وقد كان مشروع صناعة أول جهاز كمبيوتر عربي مصري، ولم يعط أصحابه فرصة لاستكماله، وعلى رأسهم المهندس “خيرت الشاطر” -القيادي في جماعة الإخوان المسلمين.

ومما ساهم أيضاً في ارتفاع نسبة البطالة عدم الاهتمام بتطوير التعليم تطويراً حقيقياً وليس صورياً ، تطوير المناهج الدراسية، بحيث تواكب احتياجات سوق العمالة الداخلية، لتحتل بعض البلدان العربية المراكز الأخيرة عالمياً في مستوى التعليم رغم ما تتمتع به من عقول تنتشر على مستوى العالم إبداعاً ونجاحاً حين تتاح لها الفرصة والظروف الملائمة، مما يثبت ضلوع الأنظمة المتعاقبة وإصرارها على إبقاء الوضع كما هو، بل وزيادته سوءاً كنوع من القمع والأعباء المضافة على كاهل أفراد الشعب.

وفي الوقت الذي تتكدس فيه المكتبات الجامعية برسائل علمية تناقش وتضع حلولاً لتلك الإشكالية الكبيرة، فلا تجد مهتماً واحداً بالنظر إليها باهتمام كافٍ، يشعر المواطن أن هناك حرصاً على حلها فعلياً!

وعلى المستوى الأخلاقي فيما يخص تلك المشكلة تجد أن الأعمال الفنية المعروضة تبرز حلولاً أخرى، تقدم نماذج من فئة جديدة لم يعرفها مجتمعنا العربي المسالم بطبيعته، تطفو على السطح بحمل السلاح، وتجارة المخدرات، والقتل والصراع بين العصابات، تقدمها في صورة الشاب الطيب المناضل لينجح في النهاية وقد ترك عدة مفاهيم سلبية في عقول النشء، فأصبحت تسير في شوارع أي مدينة أو حتى قرية، لتفاجأ بملابس الشباب ونوعيتها وطريقة تصفيف أحدهم لشعره، وأفكاره التي يتبناها، مما يهدد بمستقبل بغير معالم، إن كان ثمة مستقبل.

العنوسة وارتفاع نسبة الطلاق:

ثلاثة عشر مليوناً ونصف المليون مصري، هي عدد من وصلوا لسن الثلاثين ولم يتزوجوا بعد من الجنسين بناء على الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في نهاية (2017)، بينما يصدر تقرير مركز معلومات رئاسة الوزراء عن وجود خمسة عشر مليون حالة عنوسة في نهاية عام (2018)، ووقوع حالة طلاق كل دقيقتين ونصف في نفس التاريخ، لتصبح مصر الأولى عالمياً في نسب الطلاق، وتعود تلك الأرقام المخيفة كسبب أساسي هي ارتفاع معدل البطالة، وضعف الرواتب والدخل اليومي للفرد، وتخلّف الأداء الاقتصادي للنظام الحاكم يضع الزوج أمام تحديات احتياجات الأسرة فلا يستطيع تلبيتها ليجد نفسه عاجزاً عن الاستمرار.

وتبلغ نسبة الطلاق بين الزيجات الحديثة (80%) من حالات الطلاق، وتمتلئ ساحات المحاكم وقاعاتها بزوجات يبحثن عن حقوق تمثل الدولة المتهم الأول فيها، وتلك النسب المخيفة يدفع ثمنها جيل بأكمله، يضاف لضحايا حكم الاستبداد الشمولي بالوطن القابع على بركان يوشك على الانفجار.

الاستبداد المجتمعي كناتج عن الاستبداد السياسي:

والدول التي تعاني من الاستبداد السياسي هي أكثر الدول التي تعاني استبداداً على مستوى أفرادها ، بدءاً من الأسرة، فالأب الذي يضطر للانحناء طيلة يومه، والصمت عن الظلم، وتجاهل المهانات اليومية على يد مديره في العمل، والشرطي في الشارع، وأصحاب الديون، وأصحاب الفضل، يعود لبيته محملاً بعبء ثقيل من الضجر والغضب المكبوت، فيتكون في طيّات نفسه انتقام خفي يصبُّه على أفراد عائلته، فهو يتخذ القرارات، ولا يسمح لأحد بالاعتراض من أفراد أسرته، لتتكون قذائف عنقدوية من المستبدين في المجتمع، كل فرد يصبّ جامّ الاستبداد المتسلّط عليه على من هو أصغر منه، أو أضعف منه، أو أقل منه مالاً أو علماً.

ويصف الكواكبي تلك الحالة النشطة من مظاهر توارث الاستبداد في المجتمع الشمولي الفاسد، فيذكر أن عامل النظافة في الدولة المستبدة هو إنسان مستبد الطباع، حاد الأخلاق، حاملاً لصفة الاستبداد، ويتعامل بها مع أول فرصة تواتيه للتعامل!

ولذلك فإننا نجد المعلم المستبد في الفصل الدراسي، وأستاذ الجامعة المستبد الطاغية في مدرج الجامعة، والوزير المستبد في وزارته، تجد أن المجتمع يتحول لمنظومة يحركها الخوف والنفاق والانحدار الأخلاقي، ليكون الناتج الفشل والخراب.

إن الاستبداد في بلادنا لم يعد مجرد سياسة يتعامل بها الحاكم مع شعبه لتمثل فشلاً سياسياً وتتوقف عند هذا الحد، وإنما أصبح سرطاناً يتوغل في طبقات المجتمع ليصيبه بالوهن المفضي إلى الموت الحضاري الحتمي، ذلك الوهن الذي حذّرنا منه النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين وصفه في آخر الزمان، حين تتغلب علينا الفئة القليلة من اليهود، والصحابة في دهشة فيتساءلون: “أمن قلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟، فيقول: (لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يضع الله في قلوبكم الوهن)، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)”(رواه أبو داود).

إن الاستبداد في بلادنا لم يعد مجرد سياسة يتعامل بها الحاكم مع شعبه لتمثل فشلاً سياسياً وتتوقف عند هذا الحد، وإنما أصبح سرطاناً يتوغل في طبقات المجتمع ليصيبه بالوهن المفضي إلى الموت الحضاري الحتمي

إن الناس فضّلت الدنيا بذلة وانبطاح على الكرامة والعزة بعد أن غرس السكوت فيها على الطغيان طغياناً أفسدها ، ولا مخرج من تلك الحالة المهينة إلا بمقاومة المستبد، ونزع الملك منه، واستبداله بالعدل والحرية، انتزاع الطاغية بكل أدواته التي تثبت أركان وجوده، من الخونة، ورجال دين كاذبين مدلسين مفسدين على الناس وعيهم، حين يرفعون من شأن الفقر والفقراء ويعدونهم بالجنة، بينما الجنة أعدّت لهؤلاء الذين يأخذون على يد الظالم، ويجاهرون بقول الحق، وينتزعون منه حقوقهم، الداعين لربهم: “ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار”.

إن داء الاستبداد هو من أخطر الأدواء التي قد تصيب أمة، ولن نستطيع أن نحصي آثاره المدمرة، وتلك فقط طائفة منها، عسى أن يعتبر الشعب ونحن على أبواب مرحلة مخيفة من تداعيات ذلك الحكم الجبري لنكون أمام خيار واحد، إما الثورة والقضاء على جذور الفساد اليوم قبل الغد، أو الفناء والنهاية الحتمية لهذا الجيل، وعدة أجيال مقبلة.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى